حروب إسرائيل؛ تحولات نوعية في طبيعة الصراع

وشهدت هذه الحرب جرائم حرب وجرائم إبادة دفعًا لهجرة قسرية فلسطينية إلى البلدان المجاورة، فيما سُمّي بالنكبة. وهي الأساليب نفسها التي كرّرها الجيش الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر في قطاع غزة، ولتحقيق النكبة الثانية.


قبل 16 سنة من تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية على يد الصحافي النمساوي تيودور هرتزل Theodor Herzl (-1904م)، كنتيجة من نتائج مؤتمر بال بسويسرا عام 1897م، بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وبذا، انطلق المشروع الصهيوني عمليًّا قبل صدور وعد بلفور Balfour Declaration عام 1917م.

وإذا كانت التوافقات الدولية والتفاهمات السياسية منحت الصهاينة غطاء معيّنًا لشراء الأراضي في فلسطين، وبناء المستوطنات عليها، مع محاولة التواصل مع أعيان فلسطين ووجهائها من أجل تهدئتهم وطمأنتهم خداعًا، ريثما ينضج المشروع الاستيطاني، أو إرساء أركان ما سُمّي بـ«الوطن القومي اليهودي في فلسطين»، وصولًا إلى قيام دولة إسرائيل، لكنّ الصهاينة لم يكونوا غافلين عن دور القوة العسكرية وأهميتها القصوى في تحقيق الحلم الصهيوني. وعلى هذا، نشأت العصابات العسكرية الصهيونية قبل ما يزيد عن قرن، كحرّاس مستوطنات ومجموعات إرهابية.

وتنامت قوتها تدريجيًّا بالاشتباكات اليومية مع الفلسطينيين منذ عشرينيات القرن العشرين، وتراكمت خبراتها بمشاركة وحدات يهودية في الحربين العالميتين الأولى والثانية مع بريطانيا والحلفاء عامة، ثم انخراطها فيما يسمونه «حرب الاستقلال» بين تلك العصابات وجيش الإنقاذ (المكوَّن من المتطوّعين العرب)، والجيوش العربية النظامية لمصر وسوريا والأردن والعراق بشكل رئيسي، ولبنان جزئيًّا، والتي استمرَّت بين 30 نوفمبر 1947م و20 يوليو 1949م. وُلِدَ جيش الدفاع الإسرائيلي مع ولادة الدولة، وحظر كلّ الميليشيات، ودَمْج تشكيلاتها بالجسم العسكري النظامي.

أما بالنظر إلى الالتزام العقائدي للجنود الإسرائيليين، ودرجة الاندفاع في قتال الفلسطينيين في الداخل أو الخارج، ومواجهة الجيوش العربية عبر الحدود، فيختلف نوعيًّا بين حرب وأخرى، بالقياس إلى مستوى الشعور بالخطر الوجودي؛ أي كلما اقتربت طبيعة الصراع من تهديد الوجود اليهودي في فلسطين، أو مجرّد الشعور بهذا التهديد، كان الالتزام بالقتال أقوى، والعكس صحيح، كما سنرى تباعًا عند استعراض المعالم الرئيسية لحروب إسرائيل مع الفلسطينيين والعرب. 

1- تأسيس الجيش والدولة عام 1948م:

بدأت الموجات الأولى للمهاجرين اليهود إلى فلسطين، من روسيا، بعد اغتيال القيصر إسكندر الثاني عام 1881م، ثم عقب هزيمة روسيا أمام اليابان عام 1905م. وفي بدايات القرن العشرين، تأسست أولى المجموعات العسكرية اليهودية، وهي تكوّنت من الرجال والنساء عديمي الخبرة وسيّئي التسليح، وذلك في الجزء الشمالي مما يسمونه Yisrael Erets، أو أرض إسرائيل.

لكن مع قيام دولة إسرائيل عام 1948م، كانت هناك قوة مسلحة يهودية نظامية يقارب عددها 100 ألف رجل وامرأة تحت السلاح. وشملت، إلى جانب 12 لواء بريًّا، وحدات جوية وبحرية بالحدّ الأدنى وجهازًا إداريًّا، وخدمة لوجستية، ووكالة استخبارات، وجهاز اتصالات، وخدمة فنية، وحتى وحدة تحليل نفسي، فضلًا عن الصناعات العسكرية البدائية التي كان لا بدّ من تأسيسها بشكل استثنائي في الظروف الصعبة. فمن ناحية، كانت المناوشات لا تتوقف مع السكان الفلسطينيين. ومن ناحية أخرى، كان العمل يجري بمعظمه سرًّا، أيام الحكم العثماني ثم الانتداب البريطاني حسبما يورده المؤرخ العسكري الإسرائيلي مارتن فان كريفيلد Marten Van Creveld.

لقد جلب المستوطنون اليهود معهم أفكارًا من البلدان التي هاجروا منها؛ أبرزها ترك المِهَن اليهودية التقليدية التي اعتادوا ممارستها في بلدان الشتات، مثل التجارة على نطاق صغير، وإقراض المال، وحلموا بامتهان الزراعة كوسيلة لكسب العيش، مع التفضيل المعلن لأسلوب الحياة الزراعي الذي جاءت به الأفكار الاشتراكية بل الشيوعية. وبعض هذه الأفكار استمدوها من الكتب؛ أولها ما كتبه هنري سان سيمون Henri de Saint-Simon (-1825م)، وشارل فورييه Charles Fourier (-1837م)، وكانا يريان أن الحل لمشكلات هذا العالم هو بإنشاء مجتمعات زراعية مستقلة. ثم كان التأثر بكتابات كارل ماركس Karl Marx (-1883م)؛ حيث إن معظم المستوطنين الأوائل كانوا شبابًا وعزّابًا، ولا يعرف بعضهم بعضًا، فتعارفوا وشكّلوا الموشافيزم moshavim والكيبوتيزم kibbutsim، وهي المجتمعات الزراعية صغيرة الحجم.

وعلى الرغم من أن العهد القديم (التوراة) لديه الكثير ليقوله عن الحرب؛ إلا أنه خلال فترة الشتات (ابتداءً من سنة 70م) لم تكن ثمة أيّ فكرة عن العمل العسكري اليهودي المنظَّم لدى المجتمعات اليهودية المنتشرة في أصقاع الأرض. بل إنه من حوالي عام 200م، أزال الحاخامات كل إشارة إلى الحرب من الفكر اليهودي. لكن في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، بدأ المزاج اليهودي يتغيّر. ففي سالونيك اليونانية وأماكن أخرى، وقع عدد قليل من الحاخامات تحت تأثير النضال اليوناني والإيطالي من أجل الاستقلال الوطني. وراحوا يتطلّعون إلى اليوم الذي سينطلق فيه اليهود أيضًا لاستعادة بلادهم القديمة، ممتشقين السلاح.

وبعد منتصف القرن لم تعد مثل هذه الأفكار نادرة. وفي عام 1862م، قام الحاخام تسفي كاليشر Tsvi Kalisher (-1874م) برحلته الفلسطينية، وأتبعها بنشر كتاب عنوانه Greetings from Zion تحية من صهيون، واضعًا خطة شاملة -زاعمًا أنه موحًى بها من الله- لإعادة توطين اليهود في فلسطين. وفي هذه الخطة، هناك «حرّاس جديرون بالمعركة» لمنع أبناء إسماعيل «سكان الخيام» من إتلاف الزرع واقتلاع الكروم». وفي حين أن «كاليشر» وأتباعه كانوا عمومًا أرثوذكسيين صارمين؛ إلا أن كثيرًا منهم حرّروا أنفسهم من معتقدات آبائهم، وكانوا ذوي عقلية علمانية قوية، وحتى إلحادية.

أسّسوا MAFDAL (الحزب الديني الوطني)، ودعوا إلى إنشاء نوع من الجيش اليهودي، لا يرتبط بالتوراة، بل بالتاريخ اليهودي. واستُحضرت الثورات اليهودية خلال الاحتلال اليوناني والروماني لفلسطين، وصعدت شعبية مفاجئة لـ«المكابي» «Maccabee»، وهم اليهود الذين ثاروا على اليونان السلوقيين، بين عامي 167 و37 ق.م، ولـ «بار كوخفا» «Bar Kochva»، وهو زعيم ثورة يهودية مناهضة للرومان في الأعوام 132-135م. كما جرى إحياء قصة مسعدة أو مسادا. وهي الثورة اليهودية ضد الحكم الروماني في الأعوام 66-73م، وانتهت بانتحار اليهود. خلال قرون الشتات أُغفلت القصة تقريبًا مِن قِبَل الدورات الدراسية اليهودية؛ بسبب تحريم الانتحار تحت أيّ ظرف. لكنّ المستوطنين المزارعين الأوائل في فلسطين «شالوتسيم» «chalutsim»، ضخّموا هذه الرواية جاعلين منها رمزًا للبطولة الوطنية، تحت شعار «لن تسقط مسعدة مرة أخرى»[1].

ولا يوجد دليل واضح حتى النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين على أن الحركة الصهيونية وضعت اعتبارًا للقوة وسيلة لتنفيذ تطلّعاتها التوسّعية، بحسب ما يزعم يوري بن أليعازر Uri Ben-Eliezer، عالم الاجتماع السياسي ورئيس قسم السوسيولوجيا في جامعة حيفا. لكن البحث في البدائل لم يتوقف. فمنذ عام 1907م نشأت منظمات عسكرية صغيرة، ولم يكن لدى منظمة هاشومير« «Hashomer أو «الحارس»، أكثر من مائة عضو. وخلال الحرب العالمية الأولى، جرت محاولة أخرى لتحقيق الأهداف المرسومة بقوة السلاح. وخطرت لدى قادة اليشوف «Yishuv» (مجتمع المستوطنين الرواد قبل تأسيس إسرائيل) فكرة غزو فلسطين مع المتطوعين اليهود، الذين سينضمون إلى الجيش البريطاني.

لكن الكتائب اليهودية فشلت في أن تصبح نواة قوة عسكرية لتحقيق أهداف الصهيونية بمساعدة بريطانيا، وفي النهاية جرى حلّها. وفي عام 1920م، تأسَّست منظمة الهاجاناه «Haganah» أو الدفاع، وهي منظمة غير قانونية مرتبطة بالاتحاد العام للعمال «الهستدروت» «Histadrut»، وماباي «Mapai» (حزب عمال أرض إسرائيل). كانت الهاجاناه تحرس كل مستوطنة، وتحمي المحاصيل في الحقول، ليس أكثر من ذلك.

وأسَّس الصهاينة التحريفيون the revisionists، «الإرغون» «Irgun» (المعروفة أيضًا باسم IZL، أو المنظمة العسكرية الوطنية)، وهي حركة سرية تُدرِّب أعضاءها على استخدام الأسلحة النارية. بالنسبة للإرغون، لم يكن الجيش ضرورة، بل رؤية قابلة للتحقيق. تدريجيًّا، اكتسبت منظمة الإرغون استقلالًا ذاتيًّا خاصة بعد أن أصبح زعيمها مناحيم بيغن Menachem Begin (-1992م). ودعت المنظمة إلى إقامة دولة يهودية على الفور من خلال استخدام السلاح ضد كلٍّ من البريطانيين والعرب[2].

وبحلول 5 يونيو 1939م، مع إنشاء وحدة العمليات الخاصة، كان البريطانيون قد قمعوا الثورة العربية تقريبًا، والتي استمرت بين عامي 1936 و1939م.

وبحسب المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس Benny Morris، وهو من المؤرخين الجدد الذين أعادوا النظر في السردية الإسرائيلية بعد رفع السرية عن الوثائق التي تتحدّث عن حقبة التأسيس؛ فإن المنظمات الصهيونية لا سيما الإرغون والهاجاناه شاركت القوات البريطانية في قمع الثورة الفلسطينية بقسوة. انتهت الثورة بهزيمة كاملة للفلسطينيين. وسقط ما بين ثلاثة وستة آلاف من سياسييهم وعسكرييهم، ووقع آلاف آخرون بين النفي أو السجن. كما عانى الفلسطينيون من أضرار اقتصادية جسيمة نتيجة الإضراب العام والقمع البريطاني. وبرأي موريس، فإن الفلسطينيين استهلكوا قوتهم العسكرية قبل الأوان وضد العدو الخطأ (بريطانيا). وقد ظهرت آثار ذلك في حرب 1947-1948م.

والمفارقة أنه في عام 1938م، عندما بدأت تلوح إرهاصات الحرب العالمية الثانية في أوروبا، سعت لندن إلى استرضاء العرب لضمان الهدوء في الشرق الأوسط، واتصال بريطانيا بجنوب آسيا والشرق الأقصى. فصدر كتاب أبيض عن بريطانيا في 1939م، قيّدت فيه الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ووعدت سكان فلسطين بإقامة دولة، ونيل الاستقلال في غضون عشر سنوات. اعترض الصهاينة، لكنهم انخرطوا في المجهود الحربي البريطاني، وأجّلوا المشكلة إلى ما بعد الحرب[3].

في صيف عام 1940م، اجتمع قادة الهاجاناه لبدء التخطيط من أجل إنشاء قوة يهودية نظامية تتولى صدّ أيّ هجوم لقوات المحور بقيادة ألمانيا الهتلرية على فلسطين، أو تأخير تقدّمه. وبرزت القوة الجديدة التي عُرفت باسم PALMACH بالنظر إلى Plugot Machats أو وحدات الصدم.

وتميّزت هذه المنظمة بروح الفريق بين أفرادها مما لم يكن دائمًا متوافقًا مع الولاء للهاجاناه. وكانت المهمة الأصلية للبلماخ محاربة الألمان في حالة إخلاء فلسطين من قبل البريطانيين، وحماية السكان اليهود، وذلك وفقًا لخطة منسّقة مع استخبارات الجيش البريطاني، والمعروفة باسم مخطط فلسطين بعد الاحتلال Palestine Post Occupation Scheme. وكان من المقرّر أن تتحوّل المنطقة حول جبل الكرمل شمال فلسطين إلى نوع من المعقل، وكقاعدة لعمليات حرب العصابات. وهكذا، تحوّلت البالماخ إلى أول قوة عسكرية صهيونية متفرّغة، عام 1941م. وهذه القوة نفسها انشغلت بحرب سرية ضد البريطانيين بين عامي 1944 و1947م، وصولًا إلى ما سُمّي بحرب الاستقلال، عندما أوشكت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء[4].

وشهدت هذه الحرب جرائم حرب وجرائم إبادة دفعًا لهجرة قسرية فلسطينية إلى البلدان المجاورة، فيما سُمّي بالنكبة. وهي الأساليب نفسها التي كرّرها الجيش الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر في قطاع غزة، ولتحقيق النكبة الثانية.

2- الحروب النظامية (1956-1973م):

نما الجيش الإسرائيلي باطّراد منذ عام 1948م، وشاركت إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر، مع بريطانيا وفرنسا إثر تأميم القاهرة قناة السويس، وكان هذا نوعًا من البرهنة على القدرات العسكرية الإسرائيلية، ومناورة حقيقية على أرض سيناء، وإن لم يكتمل النصر العسكري؛ بسبب الاعتراض الأمريكي آنذاك، واضطرار القوات المتحالفة إلى الانسحاب. لكن هذه الحرب القصيرة بين 29 أكتوبر و7 نوفمبر 1956م، ستكون تمهيدًا لحرب أكبر وأكثر شراسة بعد 11 سنة.

أما الذرائع والدوافع لحرب جديدة، فتركّزت على مكافحة عمليات الفدائيين التي تنطلق من سوريا. ففي صيف عام 1966م، توصّلت هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي إلى استنتاج مفاده أن الطريقة الوحيدة لوقف النشاط الفدائي هي توجيه ضربة عسكرية مدوية إلى سوريا، التي تبنَّت حركة فتح. كان هناك إجماع بين الجنرالات الإسرائيليين على ضرورة فرض «اشتباك جبهوي» على سوريا من شأنه أن يهزّ النظام الراديكالي في دمشق، وربما يؤدّي إلى انهياره، وفي كل الأحوال، إجباره على التخلي عن فكرة «النضال الشعبي»، وذلك استنادًا إلى ما تحقّق في حملة سيناء عام 1956م، والتي أوقفت غارات الفدائيين انطلاقًا من قطاع غزة».

 أما رئيس دائرة التدريب آنذاك، أرييل شارون Ariel Sharon (-2014م)، فأعلن أن الحل الوحيد هو الحرب، وأهدافها إحداث تغييرات إقليمية على طول الحدود مع سوريا ولبنان. كما أنه أيَّد تصعيد الوضع مع الأردن من أجل إعادة الحدود إلى الوراء؛ لأنه «على المدى البعيد لا يمكن الحفاظ على دولة إسرائيل كشريط بعرض خمسة عشر كيلو مترًا». ولخّص هذا النقاش، قائد الأركان إسحاق رابين Yitzhak Rabin (-1995م)، فركّز على الهدف الملموس، وهو «إبادة حركة فتح»[5].

وفي 5 يونيو 1967م، أطلق موشيه دايان Moshe Dayan (-1981م)، وزير الدفاع الإسرائيلي، خطة تهدف إلى إذلال مصر؛ من خلال تدمير قواتها المسلحة تمامًا. فبناء على دروس حملة سيناء عام 1956م، بنى دايان إستراتيجية الحرب عام 1967م. لقد هزم الجيش الإسرائيلي القوات المسلحة المصرية عام 1956م، واستولى على شبه جزيرة سيناء بأكملها بالتفاهم مع القوات البريطانية والفرنسية، التي دمّرت من جانبها القوات الجوية المصرية على الأرض، واحتلّت مدينتي بور فؤاد وبور سعيد على المدخل الشمالي لقناة السويس. ومع ذلك، أثبت هذا الانتصار العسكري الإسرائيلي أنه بلا جدوى، بنظر الأمم المتحدة.

أدانت الولايات المتحدة هذا العمل العسكري المشترك ضد مصر، وفي النهاية ضغطت على الحلفاء الثلاثة للانسحاب من الأراضي التي تمّ الاستيلاء عليها. وعلى الرغم من إلحاق الهزيمة عسكريًّا بالرئيس المصري جمال عبد الناصر، فقد أنقذ جزءًا من جيشه في سيناء، وخرج من أزمة السويس بطلًا. ارتفعت حظوظه السياسية بشكل كبير، مما حوَّله إلى زعيم قومي عربي وشخصية رئيسية في «حركة عدم الانحياز».

الآن، بعد ما يقرب من أحد عشر عامًا، رغب دايان، الذي كان رئيس الأركان العامة الإسرائيلية في حملة سيناء، في عدم تكرار ما جرى عام 1956م. وعند تعيينه وزيرًا للدفاع في 1 يونيو 1967م، قبل خمسة أيام فقط من الهجوم الإسرائيلي على مصر، استعرض خطط الحرب فوجدها غير مقبولة؛ إذ تضمّنت استيلاء الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة والجزء الشمالي الشرقي من شبه جزيرة سيناء كورقة مساومة في المفاوضات لفتح مضيق تيران، والذي أغلقه عبد الناصر أمام الشحن الإسرائيلي في نهاية مايو من ذاك العام.

رفض دايان هذه الأهداف العملياتية المحدودة، ووسّعها لتشمل الاستيلاء على شبه جزيرة سيناء بأكملها. وأصبح الهدف العسكري الإسرائيلي الرئيسي هو تدمير ما أمكن من القوات المسلحة المصرية. وبحسب دايان، فإن مثل هذا الانتصار العسكري الإسرائيلي الحاسم لن يهزم عبد الناصر فحسب، بل سيُذلّه ويُضعف مكانته كزعيم عربي.

هذا الانتصار العسكري الإسرائيلي أبهر الغرب بينما صدم العالم العربي. في غضون ستة أيام فقط، من 5 إلى 10 يونيو، هزم جيش الدفاع الإسرائيلي، الجيوش المصرية والأردنية والسورية. وبطريقة دراماتيكية، فازت إسرائيل عددًا وعتادًا. فالجيش الإسرائيلي، مع 250 ألف جندي، وألف دبابة، و275 طائرة مقاتلة، تفوّق على التحالف العربي المكوّن من 300 ألف جندي، وما يقرب من ألفي دبابة، وأكثر من 500 طائرة مقاتلة وقاذفة. ونتيجة لذلك، زادت إسرائيل جغرافيًّا أربعة أضعاف. 

وهذه الاستحواذات الجديدة، زوّدت إسرائيل بعمق إستراتيجي وحدود أكثر قابلية للدفاع عنها. وهذا ما جعل الإسرائيليين يشعرون بثقة تامة بشأن أمنهم القومي. الخسائر الإسرائيلية في الحرب الخاطفة كانت أقل من ألف قتيل وأقل من 5 آلاف جريح وخمسة عشر مفقودًا، وهو رقم صغير نسبيًّا، بالمقارنة مع الخسائر العربية الفادحة في الرجال والعتاد.

إن تحقيق نصر حاسم في فترة قصيرة مع عدد قليل نسبيًّا من الضحايا يُمثّل هدفًا مرغوبًا فيه للجيوش الحديثة في الحرب التقليدية. وقد حقَّق الجيش الإسرائيلي في حرب الأيام الستة من 5-10 يونيو 1967م مثل هذا الانتصار العسكري. ونتيجة لهذا الإنجاز، برزت إسرائيل بوصفها قوة عظمى في الشرق الأوسط، لا تُقهَر على ما يبدو في أيّ حرب ضد أيّ تحالف عربي. 

لذلك، فإن الحكمة التقليدية تنصح بعدم تحدّي مثل هكذا عدو متفوّق عسكريًّا في حرب كبرى. لكنَّ مصر وسوريا خاطرتا في وقتٍ لاحقٍ من خلال مهاجمة إسرائيل في 6 أكتوبر 1973م، بعد أقل من سبع سنوات من هزيمتهم الأولى. وإن الرئيس المصري أنور السادات (-1981م) كان مدركًا تمامًا للاحتمالات غير المواتية عسكريًّا، فلجأ إلى إستراتيجية حرب تهدف إلى تحقيق النجاح السياسي دون انتصار عسكري.

هنا أخطأ الإسرائيليون عام 1973م، عندما استندوا إلى ظروف حرب 1967م لتكرار النموذج نفسه، علمًا بأن الأداء العربي العسكري في الحرب السابقة كان سيئًا بشكل لا يُقاس عليه. وهكذا، وقع الجيش الإسرائيلي دونما وعي في فخّ الاستعداد للحرب المقبلة على نسق الحرب السابقة. صحيح أنّ حرب 1973م لم تكن حاسمة عسكريًّا، إلا أن المناورة السياسية للسادات والوساطة الأمريكية الحازمة، توصّلتا إلى تغيير في السياسة الإسرائيلية. وفي نهاية المطاف، وقَّعت إسرائيل على معاهدة سلام مع مصر، ووعدت بإعادة سيناء بأكملها إلى المصريين. هذا الاتفاق غيّر المشهد السياسي في الشرق الأوسط بشكل كبير[6].

 

3- الحروب غير المتناظرة (1982-2024م):

اجتياح القوات الإسرائيلية للبنان في 6 يونيو 1982م، كان منعطفًا حاسمًا في حروب الصهاينة مع العرب عامة، ومع الفلسطينيين خاصة. ويمكن القول: إن حرب 1973م كانت آخر حرب نظامية تخوضها إسرائيل مع جيوش عربية، فيما كانت حرب 1982م، من النوع الهجين نوعًا ما، فقوات منظمة التحرير الفلسطينية تحوّلت خلال السنوات (1969-1982م) إلى قوة شبه نظامية، تمتلك المدافع الميدانية وراجمات الصواريخ وعددًا من الدبابات والمدرعات الأخرى، في تطوّر نوعي بدأ فعليًّا من توقيع اتفاقية القاهرة بين الدولة اللبنانية ومنظمة التحرير برعاية مصرية أيام الرئيس جمال عبد الناصر عام 1969م، ما سمح بحرية العمل الفدائي ضدّ إسرائيل في الجنوب اللبناني.

ونما كيان فلسطيني ذاتي الحكم في المخيمات الفلسطينية في أنحاء لبنان، وتوسّع خارجها بسرعة، مع اندلاع الحرب الأهلية عام 1975م، وتحوّلت القوات الفلسطينية إلى طرف بالضرورة في هذه الحرب، حتى بات رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات، الحاكم الفعلي للجزء التي تهيمن عليه القوى والأحزاب في المناطق ذات الأغلبية الإسلامية.

كما كانت وحدات من الجيش السوري تنتشر في تلك المناطق نفسها، منذ عام 1976م؛ بقرار من جامعة الدول العربية لوقف الحرب الأهلية، من ضمن قوات الردع العربية، بعد إخراجها من مناطق ذات الأغلبية المسيحية، إثر اشتباكات دامية مع ميليشيا «القوات اللبنانية» المسيحية، بحيث ظهر إلى السطح تحالفها مع إسرائيل. لذا، عندما شنَّت إسرائيل هجومها الواسع تحت عنوان «سلامة الجليل» بهدف ظاهري هو إبعاد القوات الفلسطينية مسافة 40 كيلومترًا، عن الحدود، تجنبًا للصواريخ المنطلقة من لبنان، فقد استبطنت أهدافًا أخرى، وهي القضاء على منظمة التحرير، وإخراج الجيش السوري، وتشكيل حكومة لبنانية موالية لإسرائيل.

لقد كانت حربًا فريدة في التاريخ الإسرائيلي. فالجيش الإسرائيلي قاتل قوات شبه نظامية في طريقه إلى بيروت لمحاصرتها. واصطدم لأيام قليلة مع الجيش السوري، على طريق دمشق بيروت في الجبال الغربية المطلة على العاصمة، كما في البقاع الغربي قرب الحدود السورية اللبنانية. وضرب الحصار المحكم على أول عاصمة عربية بين 14 يونيو و21 أغسطس من ذلك العام، بالتعاون مع الميليشيات المسيحية. والأسوأ أنه تواطأ مع هذه الميليشيات التي ارتكبت مجزرة صبرا وشاتيلا بين 16 و19 سبتمبر؛ ردًّا على اغتيال الرئيس المنتخب قبل أسابيع، بشير الجميّل. وتعرّض الجيش الإسرائيلي في الوقت نفسه، ما بين عامي 1982 و2000م، إلى حرب عصابات متدرّجة في قوتها وصلابتها، إلى أن بلغت الذروة قبيل الانسحاب الإسرائيلي من طرف واحد، من بقية الأراضي اللبنانية المحتلة، فكانت أول هزيمة مع عدو أضعف منها بكثير.

كانت تلك الحرب الأطول في تاريخ حروب إسرائيل (1982-1985م)، مع الاحتفاظ بشريط أمني يتولاه عملاء إسرائيل (جيش لبنان الجنوبي) حتى الانسحاب الكامل منه في 25 مايو 2000م. وهي لم تخفق فقط في تحقيق الأهداف، بل تسبّبت في إطلاق عصر جديد من الصراع غير المتناظر أو غير المتوازي asymmetric conflict بين إسرائيل وحركات المقاومة الجديدة، حزب الله في لبنان، وحركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة.

ويتميّز هذا النوع من القتال، بأنه يخضع لقواعد الاشتباك المحدود، وغير المباشر في كثير من الأحيان، مع غياب الجيوش النظامية، بل وجود قوات صديقة للمقاومة أو محايدة، إلى حدّ ما، في البيئة نفسها دون أن تنخرط في المعركة (الحكومة اللبنانية، والسلطة الفلسطينية)، وهو ما يقيّد حركة الجيش الإسرائيلي في المواجهات المتعاقبة، ويجبره على خوض المعارك الاستنزافية، الواحدة تلو الأخرى، دون أن يكون قادرًا على استعمال كامل قوته العسكرية ضدّ قوات أقلّ حجمًا وتطوّرًا، لكنها أكثر تصميمًا على القتال والصمود، من بين كل من عرفته إسرائيل في حروبها. وهذا ما تجلّى في حرب 2006م في لبنان، بين 12 يوليو و14 أغسطس، بين الجيش الإسرائيلي وقوات حزب الله، كما في الجولات القتالية بين إسرائيل وفصائل المقاومة في قطاع غزة وعلى رأسها حركة حماس، منذ أن سيطرت الحركة على قطاع غزة عام 2007م.

كما توقع الخبير العسكري الأمريكي أنتوني كوردسمان Anthony Cordesman (-2024م)، فإن دور القوات العسكرية في هذا الصراع آخِذٌ في التغيّر. وتحوّل التوازن العسكري في المنطقة من القتال التقليدي بين إسرائيل وجيرانها العرب، إلى توازن قائم على السلام والردع. فكما أنه بقي احتمال ضئيل على المدى القريب بأن تخوض إسرائيل حربًا كبرى ضدّ كل أو معظم جيرانها العرب، فكذلك يظلّ احتمال ضئيل لسلام كامل. أما إسرائيل والفلسطينيون، فمنخرطون في حرب استنزاف. فما كان في يوم من الأيام «عملية سلام» أصبح «عملية حرب»؛ حيث تؤدي جهود السلام المتفرقة في أحسن الأحوال إلى توقف مؤقت في مستوى دائم ومنخفض من حرب الاستنزاف المستمرة[7].

والذي جرى بعد عملية «طوفان الأقصى» في 7 أكتوبر الماضي، أن الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو قرّرت الخروج من الأُطر السياسية والعسكرية التي وجدت نفسها فيها منذ عام 1982م، بمواجهة قوات مقاومة شعبية غير نظامية متطوّرة في تكتيكاتها، وأن ترمي بكل ثِقلها لتدمير حركة حماس وبقية الفصائل من خلال تدمير البيئة السكانية نفسها حيث توجد وتنمو، والهدف هو نفسه، منذ تأسيس الكيان الاستيطاني على أرض فلسطين: القضاء على الفلسطينيين كقوة مناهضة للمشروع الصهيوني، حتى لو كان ذلك بتكرار نكبة 1948م.

 


 


[1] Marten Van Creveld, The Sword and the Olive, A Critical History of The Israel Defense Force, New York, Public Affairs, 2002, p.26-34.

[2] Uri Ben-Eliezer, The Making of Israeli Militarism, Bloomington and Indianapolis, Indiana University Press, 1998, p.2-4.

[3]  Benny Morris, 1948 A History of the First Arab-Israeli War, New Haven and London, Yale University Press, 2008, p.19-21.

[4] - Marten Van Creveld, The Sword and the Olive, p. 22, 75-76.

[5]Ami Gluska, The Israeli Military and the Origins of the 1967 War, USA and Canada, USA and Canada, 2007, p.74-76.

[6] George W. Gawrych, The 1973 Arab-Israeli War: The Albatross of Decisive Victory, Kansas, Combat Studies Institute, U.S. Army Command and General Staff College, Leavenworth Papers number 21, 1996, p.1-3.

[7] Anthony H. Cordesman, Arab-Israeli Military Forces in an Era of Asymmetric Wars, USA, Praeger Security International, 2006, P.1.

أعلى