الوحدة اللغوية
قال الوزير الجزائري الأسبق د. أحمد طالب الإبراهيمي، في
لقاء معه في قناة الجزيرة: «في منتصف القرن العشرين كنا نحلم بالوحدة العربية..
اليوم - مع الأسف - أصبحنا نحلم بالحفاظ على الكيانات القائمة»[1].
وما يقال عن الوحدة
العربية يقال عن الوحدة الإسلامية، فالصليبية الغربية المعاصرة لم تكتفِ بالتفتيت
الذي حصل للأمة الإسلامية منذ قرون خلت، ثم بما عملته أيديها في عهد الاستعمار
المدمر بعد إجهازها على الدولة العثمانية الإسلامية التي كانت تسيطر على كثير من
بلاد المسلمين، واقتسام تركتها ونهب ثرواتها، ثم خروجها عسكرياً، ورسم الحدود
الواهية بين البلدان لتشتعل ناراً بين الفينة والأخرى. وها هي الصليبية اليوم،
وعلى رأسها أمريكا، تسعى بكل مكر ودهاء تخطيط إلى مزيد من التفتيت للعالم الإسلامي
على أسس تعمق الخلاف وتجعل الوحدة بعيدة المنال، كالدينية والمذهبية والعرقية، بعد
أن رأت الإسلام يتمدد حتى في عقر دارها، والمسلمين ينهضون من كبوتهم ويطالبون
بحقوقهم والحفاظ على ثروات بلادهم التي أكلت يوم أن حُرّمت البلابل على دوحها
واستبيحت لطيور الصليبيين وأذنابهم.. والصليبية المعاصرة لا يمكن أن تقف مكتوفة
اليدين وهي ترى المسلمين يتهددون مصالحها الموجودة في بلاد المسلمين، وليس في
بلادهم.. ولا يمكن أن تقف مكتوفة اليدين وربيبتها الصهيونية المغتصِبة لفلسطين قد
يضيق عليها خناق الإسلاميين.
وما جرى لإندونيسيا
والسودان، وما يجري الآن في العراق، ويثار في اليمن، والمغرب، والجزائر،
وأفغانستان، ويشار إليه في السعودية، وغيرها؛ إلا أمثلة حاضرة، وما أُعلن عنه من
مشروع «برنارد لويس» الأمريكي، الذي وافق عليه الكونجرس الأمريكي بالإجماع عام
(1983م)؛ إلا دليل على مدى التخطيط والإصرار على مزيد من التقسيم للأمة الإسلامية.
ولم يكن المقوّم الجغرافي
السياسي لوحدة المسلمين هو الوحيد الذي تعرّض للتفتيت وإذكاء روح التفرق والخلاف،
بل تعرّضت مقومات أخرى لذلك، من أهمها: اللغة، وهو ما نحن بصدد الحديث عنه.
لم تكن لغة بلاد المسلمين
واحدة، فكل بلد له لغته أو لغاته التي تختلف عن لغة البلدان الأخرى، حتى البلاد
العربية يختلف كثير من لهجاتها اختلافاً بيّناً، وتكاد تكون كل لهجة لغة مستقلة
بذاتها، كاستقلال الأوردية والفارسية والتركية وغيرها، ولولا الله ثم إن لغة
التعليم ولغة الكتابة السائدة هي اللغة العربية الفصحى؛ لما تمكن كثير من العرب من
التفاهم بينهم.
إذاً، ما اللغة التي تعدّ
مقوماً مهماً للوحدة الإسلامية ما دامت لغات المسلمين مختلفة؟!
ثمة لغة مشتركة بين المسلمين
جميعاً في كل أقطار الأرض، يستمعون إليها ويتلفظون بها كل يوم خمس مرات على الأقل،
يعيشون معها في جو روحاني وظل إيماني، يقرؤون بها كلام الله، ويقيمون بها شعيرة من
شعائر الله، ولا يأتون إلى هذه الشعيرة «الصلاة» ويقومون إليها إلا بعد أن يؤذنهم
المؤذن بتلك اللغة.
وحينما يجتمع المسلمون
على اختلاف أقطارهم في بيت الله الحرام، حجاجاً ومعتمرين، يطوفون به ويسعون فيه،
يذكرون الله ويدعونه؛ لا تجدهم يلهجون إلا بها، خاشعين لله.
إنها لغة روحانية عظيمة
يشترك المسلمون جميعاً بها في أعظم المقامات: مقام العبودية لله، حال الصلاة، وحال
تلاوة القرآن، وحال الذكر والدعاء، وحينما يُسْلم المرء لا ينطق كلمة الإسلام
«الشهادتين» إلا بها.
كم هي عظيمة هذه اللغة
التي تتعلق بجلّ أركان الإسلام وأعظمها!
إنها لغة القرآن العظيم
والرسول الكريم: اللغة العربية الفصحى.
وأي عظمة لهذه اللغة التي
أنزل الله عز وجل بها أشرف كتبه، على أشرف أنبيائه ورسله، بسفارة أشرف ملائكته: {وَإنَّهُ
لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 191 نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ 193 عَلَى
قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْـمُنذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}
[الشعراء: 192 - 195]! وقد ذكر الله عز وجل عربية القرآن في ثلاث عشرة آية.
وهي لغة الرسول الكريم،
والله عز وجل ما أرسل رسولاً إلا بلغة قومه: {وَمَا
أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ
اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الَْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ}
[إبراهيم: ٤]، إلا أن الأنبياء كانوا يرسلون إلى أقوامهم خاصة، ونبينا محمد صلى
الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة، عربيهم وعجميهم، ومع ذلك كانت رسالته
بالعربية: {فَإنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، {فَإنَّمَا
يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْـمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا
لُّدًّا} [مريم: 97].
ولقد أصبحت العربية بذلك
لغة الإسلام والمسلمين، وشعاراً له ولهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه
الله -: «اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها
يتميزون»، وقال: «إنما الطريق الحسن: اعتياد الخطاب بالعربية، حتى يتلقنها الصغار
في الدور والمكاتب، فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلك أسهل على أهل الإسلام في
فقه معاني الكتاب والسنة وكلام السلف»[2]. ويقرر أن «نفس اللغة
العربية من الدين، ومعرفتها، فرض واجب؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهم إلا
بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»[3]. وقد قال الإمام الشافعي
رحمه الله: «على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا
إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما
افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد، وغير ذلك. وما ازداد من العلم
باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه، كان خيراً له»[4].
ولما كان الدين لا يتم
ضبطه وفقه كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بضبط اللغة وفهمها، وتعين لذلك
تعلمها ومعرفتها[5]، حرص المسلمون جميعاً،
وخاصة العجم منذ القدم، على العناية باللغة العربية وتعلمها، قال أبو حاتم الرازي
- رحمه الله - (ت 322هـ): «كان الإسلام قد ظهر - بحمد الله - في جميع أقطار الأرض،
وأكثر أهل الإسلام من الأمم هم عجم، وقد دعتهم الضرورة إلى تعلُّم لغة العرب، إذ
كانت الأحكام والسُّنن مُبَيَّنةً بلسان العرب»[6]، بل قال - رحمه الله -:
«لم يحرص الناس على تعلم شيء من اللغات في دهر من الدهور، ولا في وقت من الأوقات؛
كحرصهم على تعلم لغة العرب.. ولا رغبوا في شيء من القرون والأزمنة رغبة هذه الأمة
في لسان العرب من بين الألسنة، حتى إن جميع الأمم فيها راغبون، وعليها مقبلون،
ولها بالفضل مقرون، وبفصاحتها معترفون.. وأقبلت الأمم كلّها إليها، يتعلمونها؛
رغبةً فيها، وحرصاً عليها، ومحبَّة لها»[7].
ولم يكن هذا الأمر خاصّاً
بالمسلمين، بل عمّ غيرهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «كان
المسلمون المتقدمون لما سكنوا أرض الشام ومصر ولغة أهلها رومية وقبطية، وأرض
العراق وخراسان ولغة أهلها فارسية، وأرض المغرب ولغة أهلها بربرية؛ عوّدوا أهل هذه
البلادِ العربيةَ، حتى غلبت على أهل هذه الأمصار، مسلمهم وكافرهم»[8].
وقد كتب ألبرو، مطران
قرطبة، عام (864م)، نحو عام (250هـ)، ولم يكن مضى على الفتح الإسلامي سوى مائة
وستين عاماً تقريباً؛ كتب إلى صاحب له متحسراً من انصراف الناس عن اللغة اللاتينية
إلى العربية: «من الذي يعكف اليوم بين أتباعنا من المؤمنين بديننا على دراسة الكتب
المقدسة، أو يرجع إلى كتاب أي عالم من علمائها، ممن كتبوا في اللغة اللاتينية؟! من
منهم يدرس الإنجيل أو الأنبياء أو الرسل؟! إننا لا نرى غير شبان مسيحيين هاموا
حبّاً باللغة العربية، يبحثون عن كتبها ويقتنونها، يدرسونها في شغف، ويعلقون
عليها، ويتحدثون بها في طلاقة، ويكتبون بها في جمال وبلاغة، ويقولون فيها الشعر في
رقة وأناقة! يا للحزن! مسيحيون يجهلون كتابهم وقانونهم ولاتينيتهم، وينسون لغتهم
نفسها؛ لأن الفصاحة العربية تسكرهم! ولا يكاد الواحد منهم يستطيع أن يكتب رسالة
معقولة لأخيه مسلّماً عليه! وتستطيع أن تجد جميعاً لا يحصى يظهر تفوقه وقدرته
وتمكنه من اللغة العربية»[9].
ولا عجب إذاً حينما نرى
في أئمة الإسلام الكثير من الأعاجم الذين برزوا في العلوم، وخاصة علوم العربية، من
أمثال: سيبويه الفارسي (ت 180هـ)، وأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (223هـ)، وابن
قتيبة الدينوري (ت 276هـ)، وأبي إبراهيم إسحاق الفارابي (350هـ)، وأبي علي القالي
الأرميني (356هـ)، وأبي سعيد السيرافي (ت 368هـ)، وأبي منصور الأزهري الهروي
(370هـ)، وأبي علي الفارسي (ت 377هـ)، وابن جني الرومي (392هـ)، وأبي نصر الجوهري
الفارابي (393هـ)، وابن فارس الرازي (395هـ)، وأبي منصور الثعالبي النيسابوري
(429هـ)، وابن سيده الأندلسي (458هـ)، وعبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ)، والراغب
الأصفهاني (ت 502هـ)، والزمخشري (ت 538هـ)، والرضي الإستراباذي (ت 686هـ)، وأبي
حيان الأندلسي (ت 745هـ)، والخطيب القزويني (ت 739هـ)، ومجد الدين الفيروزأبادي
الشيرازي (817هـ)، وغيرهم الكثير.
قال أبو الحسن الندوي
الهندي - رحمه الله - عن العرب: «خضعت للغتهم اللغات، ولثقافتهم الثقافات،
ولحضارتهم الحضارات، فكانت لغتهم هي لغة العلم والتأليف في العالم المتمدن من
أقصاه إلى أقصاه، وهي اللغة المقدسة الحبيبة التي يؤثرها الناس على لغاتهم التي
نشأوا عليها، ويؤلفون فيها أعظم مؤلفاتهم وأحب مؤلفاتهم، ويتقنونها كأبنائها
وأحسن، وينبغ فيها أدباء ومؤلفون يخضع لهم المثقفون في العالم العربي، ويُقر
بفضلهم وإمامتهم أدباء العرب ونقّادهم»[10].
وحُقّ بعد ذلك أن تكون
اللغة العربية مقوّماً من مقوّمات الوحدة بين المسلمين، فهي اللغة الدينية
المشتركة الجامعة بين المسلمين، بل القائدة لألسنتهم على اختلافها، وقد قال الإمام
الشافعي - رحمه الله -: «فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض، فلا
بد أن يكون بعضهم تبعاً لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتّبَع على التابع،
وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي، ولا يجوز - والله أعلم - أن
يكون أهل لسانه أتباعاً لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد، بل كل لسان تبع للسانه،
وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه»[11].
ولما كان شأن اللغة
العربية كذلك، وقد أدركته الصليبية وأمثالها حق الإدراك، وهي تدرك أنه «لا حياة
لأمة دون لغة»، وأنه «ما ذلّت لغة شعب إلا ذلّ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب
وإدبار»، وأنه «إذا دبّ خلل في اللغة دبّ خلل في التفكير»، وهي تخشى من وحدة الأمة
الإسلامية، وتسعى لتدمير أي عامل يحيي هذه الوحدة ويدفع إليها؛ فقد شنّت مع حربها
العسكرية الشعواء على بلاد المسلمين حرباً شعواء أخرى على لغتهم العربية؛ لتهوين
شأنها في نفوسهم، وعزلها عنهم، وطمس هويتهم، والقضاء عليها، حتى في البلاد
العربية، وقد ساعدها في ذلك أذنابها من المنافقين.
ونجحوا في بعض وأخفقوا في
بعض، وأنّى لهم القضاء عليها وتجفيف ألسنة المسلمين منها، وهي لغة كتاب ربهم الذي
يقرؤونه صباح مساء.
وسلكوا في حربهم مسالك
متعددة من الكيد والمكر والحقد، من ذلك:
1-
فرض لغة الغزاة المحتلين، ومنع العربية، أو إهمالها والتهوين منها:
فالاحتلال لما يحلّ في
بلاد المسلمين يفرض لغته بالقوة، خاصة في المناطق العربية، وهذا ديدن المستعمر،
كما قال الرافعي - رحمه الله -: «لا جرم كانت لغة الأمة هي الهدف الأول
للمستعمرين؛ فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلا من لغته؛ إذ يكون منشأ التحول من
أفكاره وعواطفه وآماله.. وما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب
وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضاً على الأمة المستعمرة، ويركبهم
بها، ويشعرهم عظمته فيها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثة في عمل واحد: أما الأول فحبس
لغتهم في لغته سجناً مؤبداً، وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً
ونسياناً، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يضعها، فأمرهم من بعدها
لأمره»[12].
ومن الشواهد على ذلك ما
فعلته فرنسا حينما احتلت الجزائر أكثر من قرن، وأرادت اقتطاعها من العالم
الإسلامي، وطمس هويتها، وإدماجها في فرنسا، فأحلّت اللغة الفرنسية وقرّرت أن تكون
اللغة الرسمية والوحيدة للبلاد، واللغة العربية لغة أجنبية، وفتحت المدارس
الفرنسية، وأغلقت المدارس العربية، إلا مدارس لا يسمح لها بتعليم العربية إلا
بترخيص، وإلا كتاتيب تفتح بإذن من الاحتلال لا يتجاوز فيها المعلم مجرد تحفيظ
القرآن الكريم للطلاب الصغار.
وحينما احتلت إيران
الصفوية الفارسية بلاد الأحواز العربية، فرضت اللغة الفارسية، ومنعت اللغة العربية
في المدارس، وجرّمت التحدث بها في الأماكن العامة، وتداول المطبوعات العربية،
ومنعت تسمية المواليد بالأسماء العربية، وغيّرت الأسماء العربية للمدن والمواقع
إلى أسماء فارسية، ولم توظف إلا من يتحدث بالفارسية، ولا تقبل شهادة العربي أمام
القضاة إلا بالفارسية[13].
واتخذ الاحتلال في بعض
البلدان سياسة إهمال اللغة العربية وازدرائها والتهوين منها، كما فعل الاحتلال
الإنجليزي في مصر، حيث أبقى مناهج اللغة العربية في التعليم، لكنه جعل مدرسها مادة
للتندر والسخرية من تلاميذه وفي مجتمعه؛ حينما جعله أقل المدرسين منزلة وظيفية،
وأقلهم راتباً، بل ربما كان أقل راتباً من فراش المدرسة. «وحين يصبح مدرس اللغة
العربية في هذا الوضع المهين الذي لا يبعث على الاحترام؛ فإن وضعه يؤثر حتماً على
المادة التي يدرّسها.. وقد كان هذا هو الهدف المقصود من وراء ذلك التدبير الخبيث.
لقد انتقل الوضع المهين المزري من الدرس إلى المادة، وصارت اللغة العربية موضع
الازدراء والتحقير والنفور.. ولم يكن بد من أن ينتقل هذا الوضع المزري من اللغة
ذاتها إلى ما هو مكتوب بتلك اللغة.. وكان هذا هو الهدف الأخير المطلوب من ذلك
التخطيط الخبيث. فالمكتوب باللغة العربية هو تراث الأمة كله.. وعلى رأسه القرآن!!
والمطلوب صرف الأمة عن تراثها كله.. وعلى رأسه القرآن!! وانصرف الناس بالفعل عن
قرآنهم وتراثهم بالتدريج، فلم يعودوا يشعرون أنه هو «الزاد».. إنما الزاد هو
المكتوب بلغة السادة الغالبين!»[14].
ومن سياسات الاحتلال في
البلاد التي تكتب لغاتها بالحروف العربية محاولة إقناعها بالتحول إلى الحروف
اللاتينية؛ وقد أدَّت هذه السياسة إلى انخفاض عدد اللغات الإفريقية التي تستخدم
الحروف العربية من (75) لغة تقريباً إلى أقل من (10) لغات في الوقت الحاضر، كان
آخرها الصومال التي أصبحت تكتب لغتها بالحروف اللاتينية، ومثل ذلك حصل في إندونيسيا[15].
وفي تركيا حينما ألغيت
الخلافة العثمانية على يد أتاتورك، ألغيت الكتابة باللغة العربية، واستبدلت بها
اللاتينية، بل منع الأذان باللغة العربية.
2-
الدعوة إلى العامية لغةً للعلم والأدب والكتابة:
وقد حمل رايتها الأعاجم
المحتلون للبلاد العربية، وبدأت في مصر أثناء الاحتلال الفرنسي لها، وكان أول من
أعلنها عام (1800م) المستشرق الألماني فلهم سبيتا، الذي كان يشغل مديراً لدار
الكتب المصرية، ونشر كتاباً سماه «قواعد العربية العامية في مصر»[16]، ودعا إلى أن تكون
الكتابة بالحروف اللاتينية. وقد وجد من أبناء العربية من يحمل دعوته، إلا أنها
باءت بالفشل. ثم تجدّدت الدعوة في الاحتلال الإنجليزي، وكان من أبرز دعاة العامية
المهندس الإنجليزي وليام ويلكوكس، الذي ألقى في عام (1893م) خطابه المشهور في نادي
الأزبكية، ونشره فيما بعد في مجلته المسماة «الأزهر»، واستهل الخطاب بقوله: «لماذا
لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن؟!»، وأعلن أن السبب في أنهم يكتبون باللغة
الفصحى[17]. ولتطبيق ذلك نشرت مجلته
«الأزهر» مقالات باللغة العامية، وأعلن عن المكافآت المالية لمن يكتب بالعامية،
كما ترجم الإنجيل وبعض مسرحيات شكسبير إلى اللغة العامية. وقد قاوم الغيورون هذه
الدعوة، ومن ذلك أن طائفة من المهندسين المصريين أصدروا مجلة «المهندس» للأبحاث
الرياضية والعلمية عام (1893م)؛ لتفنّد مزاعم القائلين بأن اللغة العربية ليست لغة
للعلم. وبعد أن تبيّن لويلكوكس موقف الرأي العام من معارضة دعوته يئس وأوقف مجلته
«الأزهر»[18]. لكنه عاد مرة أخرى
حينما تجددت الدعوة على يد الإنجليزي سلدن ولمور، أحد قضاة محكمة الاستئناف
بالقاهرة، الذي ألف كتاباً سماه «العربية المحكية في مصر». ونشر ويلكوكس سنة
(1926م) رسالة بعنوان «سورية ومصر وشمال إفريقيا ومالطة تتكلم البونية لا
العربية»، يؤكد فيها أن اللغة التي يتكلم بها المصريون والسوريون والمغاربة هي
متحدرة من اللغة البونيقية الكنعانية الفينيقية، لا من العربية الفصحى، وأن الشعب
المصري يعيش حياة مشلولة بسبب تعلقه بهذه اللغة العربية الفصحى[19].
وبهذه الرسالة من ويلكوكس
ختم المحتلون دعوتهم إلى العامية وتولاها عنهم طائفة من العرب جلهم من النصارى في
مصر ولبنان، ومن أخبثهم وأشدهم: سلامة موسى، ومنهم: مارون غصبن، ولويس عوض، وأنيس
فريحة، وسعيد عقل، ومحمد فريد بك أبو حيدر، وأنطوان مطر، والأسقف ميشال الفغالي،
وجبور عبد النور، وإسكندر معلوف، ويعقوب صنوع الذي أنشأ مسرحاً عامياً، وعبد
العزيز الأهواني[20].
ولقد كان لتجذر العربية
في نفوس الناس، وقوة أنصار الفصحى، ووضوح الأهداف الاستعمارية للدعوة، ووجود الروح
الإسلامية في نفوس الناس، مع عوامل أخرى؛ أثر في إجهاض الدعوة إلى العامية في
البلاد العربية لتكون لغة العلم والأدب والكتابة، وإن كان لها أثر محدود وبصيص بين
الفينة والأخرى[21].
وينبغي التنبه إلى أن
الدعوة إلى العامية سبقها وصاحبها اهتمام غربي واسع باللهجات العامية في البلاد
العربية، تمثل في جانبين:
الأول: المدارس
الاستشراقية التي قصرت اهتمامها على تدريس العامية العربية.
وبدأت أولى المدارس في
إيطاليا عام (1727م)، واهتمت بعاميات مصر والشام. وفي النمسا أنشئت مدرسة عام
(1754م)، واستعانت ببعض العرب. وفي فرنسا أسست مدرسة اللغات الشرقية الحية في
باريس عام (1759م) واهتمت بالشام ولبنان خاصة. وفي ألمانيا أسس مكتب في مدينة
برلين مهمته تدريس اللغات الشرقية ومنها اللغة العربية وعامياتها، كما أسست مدرسة
هامبرغ. وفي بريطانيا أنشأت جامعة لندن فرعاً متخصصاً في تدريس العاميات العربية،
والعربية الفصحى.
الثاني: التأليف والنشر.
وقد اضطلع بهذه المهمة
المدارس الاستشراقية، واستعانت ببعض العرب، ومن المؤلفات التي كتبها المستشرقون
كتاب «أصول اللغة العربية العامية والفصحى» الذي ألفه المستشرق الفرنسي دي سفاري
عام (1784م) بتكليف من الحكومة الفرنسية، وهو بذلك عمل مرتبط بسياسة فرنسا في
البلاد العربية.
ومن المؤلفات: «مواد لدرس
لهجة عرب البدو في إفريقيا المتوغلة»، و«لهجة قبائل اليمن وما جاورها من جنوب
الجزيرة العربية»، و«الكلام الدارج بمصر القاهرة»، و«معجم اللهجة المغربية
العامية» لبوسيه، و«حكايات وأشعار تونسية»، و«لهجة عرب هوارة»، و«أشعار البدو بين
قطري تونس وطرابلس الغرب»، و«بحث في لغة نجد الحالية»[22].
وهذا الاهتمام الغربي
يؤكد أن مصدر الدعوة إلى العامية ومنشأها ليس من داخل البلاد العربية، لكن من
خارجها، في ظل التخطيط للقضاء على الأمة الإسلامية وفصلها عن دينها وكتابها
وتراثها.
3-
محاولة إحلال الانتماءات والهويات غير الإسلامية والعربية مع إحلال لغاتها بدلاً
من العربية:
وهذه سياسة استعمارية
تقطع صلة المسلمين بلغتهم وتراثهم وحضارتهم الإسلامية، كما أنها تمزق وحدة البلاد
الإسلامية وفق قاعدة (فَرِّق تَسُد).
وفي هذا السياق حاول
الاحتلال وأعوانهم - ولا يزالون - إحياء العنصريات والقوميات القديمة مع لغاتها،
كالفرعونية في مصر، والفينيقية في بلاد الشام، والآشورية في العراق، والفارسية في
إيران، والبربرية في بلاد المغرب، وشجعوا في الوقت نفسه القومية العربية في بعض البلدان
العربية لمواجهة الوحدة الإسلامية المتمثلة في الخلافة، وربطوا اللغة العربية
بالقومية العربية، وشجعوا القوميات الأخرى على إحياء لغاتها واستبدالها بالعربية؛
كالأمازيغية في الجزائر، والكردية والتركمانية والسريانية في العراق.
ولم يقتصر الأمر في إحياء
العنصريات القديمة ولغاتها على البلاد العربية، بل شمل غيرها، كما أثيرت الطورانية
في تركيا، والقوميات المحلية ولغاتها في إفريقيا، وفي جنوب شرق آسيا؛ لتكون سدّاً
أمام انتشار اللغة العربية والكتابة بها.
4-
تقويم اللغات الغربية وخاصة الإنجليزية في المجتمعات الإسلامية:
حيث تسوَّق اللغة الغربية
على أنها قيمة من القيم الاجتماعية المهمة التي تعبّر عن الذات والشخصية المتحضرة.
وهو جانب من جوانب أزمة القيم وصراع الهوية التي يعيشها المجتمع الإسلامي.
وهو من الأساليب الماكرة
التي أثرت بقوة في بلاد المسلمين وفي أجيال المسلمين الناشئة إلى اليوم، فزهّدتهم
في اللغة العربية وتعلمها، وصرفتهم إلى اللغات الأجنبية، وخاصة الإنجليزية، التي
تسوَّق على أنها لغة العلم والمدنية والتحضر، خاصة مع الزخم الكبير للتقدم العلمي
للغرب، في مقابل ضعف العالم الإسلامي، ومع الضخ اليومي الذي لا يتوقف لسيل
المصطلحات الغربية في ظل تناسل العلوم والتقنيات الحديثة، ومع الانفتاح الواسع
الذي لا يحد من خلال وسائل الإعلام والاتصال المتجددة، التي يتعامل معها جميع
شرائح المجتمع الإسلامي، ويتقنها الصغار قبل الكبار؛ ومع الضعف الشديد للترجمة
والتعريب وانعدام تأثيرها. بل إن بعض الدول الغربية تربط مساعداتها للدول
الإسلامية بتعليم لغاتها لأبناء المسلمين، كما اشترطت أمريكا على مصر لمساعداتها
التعليمية أن تبدأ بتعليم اللغة الإنجليزية من السنة الثانية الابتدائية[23].
وقد أسهم في ذلك عوامل
عدة، منها: انسياق كثير من الدول الإسلامية، وخاصة العربية، إلى تدريس اللغات
الأجنبية لأطفالها في المدارس الحكومية والخاصة، حتى صار الاهتمام بتعليم اللغة
الإنجليزية عنصراً مهماً في الإعلان التسويقي لاستقطاب الطلاب ليسجلوا في المدارس
الخاصة، بل فتح المجال للمدارس الخاصة أن تضع المناهج باللغة التي ترغبها، وفتح
المجال للمدارس الأجنبية لاستقطاب أبناء المسلمين وتسجيلهم فيها، ووجد ذلك إقبالاً
كبيراً. كما أسهم في ذلك تدريس الجامعات والمؤسسات التعليمية لبعض العلوم باللغات
الأجنبية، وخاصة تلك التي تؤهل إلى وظائف مرغوبة. وجعل لغة العمل في كثير من
المؤسسات والشركات الكبرى هي اللغة الأجنبية. ويكاد في بعض البلاد العربية أن لا
تمر بطريق رئيس إلا وفيه معهد أو أكثر لتعليم اللغات الأجنبية، وصار كثير من
الأسماء التجارية للمحلات والمؤسسات باللغة الأجنبية، وسمى كثير من الناس مواليدهم
بأسماء أجنبية، وتهافت كثير من شباب المسلمين إلى تعلمها وتمثلها، ومزج حديثهم
بها؛ رغبة في الظهور بمظهر الشخصية المتمدنة المتحضرة. بل لم يسلم المتخصصون في
اللغة العربية وآدابها من التحدث والكتابة بالمصطلحات الأجنــبية، وخاصة أولئك
الذين تأثروا بالتيارات الفكرية الغربية وبآدابها، حتى قال أحدهم- د. هشام شرابي
-: «هناك سؤال في غاية الأهمية: هل يمكن الدخول في (الحداثة) بواسطة لغة غير
حديثة، لغة ما زالت في مرحلة ما قبل الحداثة، بمفاهيمها ومصطلحاتها وأطرها
الفكرية؟!».
ولعمري إن هذا مظهر من
مظاهر الانهزامية أمام الغرب وحضارته وقيمه ولغته.
تلك جملة من السياسات
التي اتبعها الغرب وأولياؤهم للقضاء على اللغة العربية وتأثيرها في وحدة العالم
الإسلامي والعودة به إلى الفهم الصحيح للدين، والارتباط بتراثه العظيم وأهله
السابقين من الصحابة والتابعين، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في
شأن لسان العرب: «صار اعتبار التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله،
وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين
والأنصار في جميع أمورهم»[24].
والسؤال المهم بعد هذا:
ما الذي يجب علينا نحن المسلمين في أقطار العالم الإسلامي، سواء كنا عرباً أو غير
عرب، للعودة باللغة العربية مقوماً من مقومات الوحدة وعاملاً من عوامل اجتماع
الكلمة بين المسلمين؟
ينبغي علينا القيام بأمور عدة، منها:
1 - الإيمان العميق بقيمة
اللغة العربية وأهميتها في فهم الدين وحفظه، وأنها شعيرة من شعائر الدين، و{مَن
يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}
[الحج: 23]، واستشعار أهميتها ووظيفتها في وحدة المسلمين واجتماعهم والتقريب
بينهم، وارتباط حاضرهم بماضيهم، ولولا هذه الوظيفة لما وجدت تلك الحرب الشعواء،
وقد قال المستشرق الألماني يوهان فك: «إن العربية الفصحى لتدين حتى يومنا هذا
بمركزها العالمي أساسياً لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنها قد قامت في جميع البلدان
العربية والإسلامية رمزاً لغوياً لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية، لقد
برهن جبروت التراث العربي الخالد على أنه أقوى من كل محاولة يقصد بها زحزحة
العربية الفصحى عن مقامها المسيطر، وإذا صدقت البوادر ولم تخطئ الدلائل فستحتفظ
العربية بهذا المقام العتيد من حيث هي لغة المدنية الإسلامية».
2 - استشعار العلماء
والدعاة والمفكرين والمؤسسات الدعوية - خاصة العاملة في غير البلاد العربية -
مسؤولية القيام على اللغة العربية، وجعلها جزءاً من الأهداف والبرامج الدعوية، وبث
الاهتمام بها في العالم الإسلامي، وحث المسلمين على تعلمها والتمسك بها، وتحبيبها
إليهم؛ اقتداء بسلف الأمة من الصحابة وتابعيهم، الذين حملوا العربية إلى أقطار
الأرض حين الفتوح الإسلامية العظيمة، فعلّموا بها، وشجعوا الناس على تعلمها،
فانتشر الإسلام، وانتشر العلم، وحييت تلك الأقطار واستنارت بعد أن كانت في جاهلية
جهلاء وليلة ظلماء، يقول أبو بكر الزبيدي (ت 379هـ) - رحمه الله -: «لم تزل الأئمة
من الصحابة الراشدين، ومن تلاهم من التابعين، يحضّون على تعلم العربية، وحفظها،
والرعاية لمعانيها، إذ هي من الدين بالمكان المعلوم، فبها أنزل الله كتابه المهيمن
على سائر كتبه، وبها بلّغ رسوله عليه السلام وظائف طاعته وشرائع أمره ونهيه»[25].
3 - دحض الشبهات التي
تثار حول اللغة العربية، وتفنيدها، وبيان منطلقاتها الفكرية والاستعمارية، ويحسن
في هذا السياق إيراد أقوال الغربيين من المسلمين وغيرهم، الذين أقروا للعربية
بعظمتها وفضلها وقدرتها وتفوقها، ومن ذلك مثلاً ما قاله المستشرق الأمريكي ريتشارد
كوتهيل: «لا يعقل أن اللغة الفرنسية والإنجليزية تحل محل اللغة العربية، وإن شعباً
له آداب غنية متنوعة كالآداب العربية ولغة مرنة ذات مادة لا تكاد تفنى؛ لا يخون
ماضيه، ولا ينبذ إرثاً اتصل إليه بعد قرون طويلة عن آبائه وأجداده.. ولقد كان
للعربية ماضٍ مجيد، وسيكون لها مستقبل باهر»[26].
4 - السعي لدى الحكومات
والمنظمات الإسلامية والعربية لتفعيل قراراتها الداعية إلى اعتماد اللغة العربية
لغة للعلوم والمعارف، والتعليم في جميع المراحل، وقد صدر عن مؤتمر العالم الإسلامي
(1949م) قرار بوجوب عدِّ لغة القرآن لغة عامة للمسلمين في جميع أنحاء العالم
الإسلامي، والعمل على نشرها، وكتابة لغات العالم الإسلامي بخط النسخ العربي. كما
صدرت عن الحكومات العربية اتفاقية عام (1946م) نصّت على: الوصول باللغة العربية
إلى تأدية جميع أغراض التفكير والعلم الحديث، وجعلها لغة الدراسة في جميع المواد،
في مراحل التعليم في البلاد العربية. وغيرها من القرارات والاتفاقيات[27]. وكذلك السعي لديها لدعم
اللغة العربية في الأمم المتحدة التي اعتمدت العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات
العمل لديها، لكنها لا تحظى بالدعم المادي من البلاد العربية بالصورة الكافية التي
تجعلها باقية لغة رسمية، كما لا تحظى بالدعم المعنوي المتمثل في عدم التحدث بها في
اجتماعات الأمم المتحدة من كثير من ممثلي البلاد العربية والإسلامية.
5 - تعليم القرآن الكريم
واللغة العربية للمسلمين غير الناطقين بها في البلاد الإسلامية وغيرها، من خلال
إنشاء المعاهد والمدارس، وتقديم البرامج الميسِّرة لذلك في القنوات الفضائية
والوسائل الإعلامية والتواصلية الحديثة، وغيرها. ومما يبشر بخير وجود بعض البرامج
التي تسعى لتحقيق هذا الهدف لدى بعض المنظمات الإسلامية، ومن هذه المنظمات التي
تنشط في هذا المجال ولها جهود مشكورة: مؤسسة الوقف الإسلامي، من خلال برنامجها
المبارك «العربية للجميع»، الذي اتخذ شعاراً طموحاً «نرسم الفصحى على كل الشفاه»،
فضلاً عن برامج المؤسسة الأخرى في البلاد الأوروبية. وكذلك مؤسسة «المنتدى
الإسلامي» لها جهود مباركة في إنشاء المدارس وتنظيم البرامج لتعليم العربية في
البلاد الإفريقية. وللندوة العالمية للشباب الإسلامي جهود مباركة في إنشاء المراكز
وإقامة الدورات والمخيمات المكثفة لتعليم العربية لغير العرب[28]، وغيرها من المؤسسات
والمراكز والمشروعات.
6 - إظهار الاعتزاز
باللغة العربية الفصحى من أهل اللغة العربية، خاصة من العلماء والدعاة، فهم قدوات
للمسلمين في تمثلهم وعنايتهم باللغة الفصحى في حديثهم وخطاباتهم العلمية والدعوية،
وكم يحزن غير العرب حينما يرون من هؤلاء من يخاطبونهم باللهجات العامية التي لا
يفقهونها! وهل يستطيع خطيب جامع أن يغرس في نفوس
المستمعين حب العربية الفصحى وهو يحدثهم في خطبته بالعامية، أو يمزجها بالفصحى، من
غير مصلحة معتبرة تلجئه إلى ذلك؟!
وفي ختام هذه المقالة
أتذكر موقف الإمام المجاهد عبدالحميد بن باديس - رحمه
الله -، الذي جاهد الاحتلال الفرنسي في فرنسة
الجزائر أرضاً وشعباً وثقافة ولغة، ويروي الشيخ عبدالرحمن شيبان أنه في يوم من
الأيام حضر صلاة المغرب في بجاية مع الشيخ ابن باديس، وبعد الصلاة وقف ابن باديس
يخطب بحماسة تحرك الصخور الجامدة، مندداً بالقرار الاستعماري الفرنسي القاضي
باعتبار اللغة العربية لغة أجنبية، ومما قاله: «إن
في هذا القرار قتلاً لنا؛ لأنه يمس ديننا ولغتنا، فعلى كل الجزائريين أن يحتجُّوا
ضده، فمن لم يفعل فهو خائن لدينه ووطنه، سواء كان عالماً، أو متعلماً، أو إماماً،
أو مُفتياً»[29].
وبعد: «إنّ
هذه العربية لغة دين قائم على أصل خالد، هو القرآن الكريم»،
كما قال الرافعي - رحمه الله -[30]،
«وليس
مخلصاً للإسلام ولا واعياً في خدمة كتاب الله من لم يدعه حبُّه وإخلاصه ووعيه إلى
العناية باللغة العربية»، كما قال الدكتور مازن
المبارك[31].
والله عز وجل يقول: {فَاسْتَمْسِكْ
بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 43 وَإنَّهُ
لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 43 - ٤٤].
والحمد لله رب العالمين.
:: مجلة البيان العدد 305 محرم
1434هـ، نوفمبر 2012م.
[1]
موقع الجزيرة نت: برنامج بلا حدود، حلقة: إنجازات الاستقلال للإنسان الجزائري.
[2] اقتضاء الصراط
المستقيم، لابن تيمية: 1/470.
[3]
المرجع السابق.
[4]
الرسالة، للشافعي: 48.
[5]
ينظر: اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية: 1/399، 1/463، و469-470.
[6]
الزينة، لأبي حاتم: 123.
[7]
الزينة، لأبي حاتم: 73-75.
[8]
اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية: 1/470.
[9]
عن: التربية الإسلامية في الأندلس، لخوليان ريبيرا، ترجمة: د. الطاهر أحمد مكي:
169.
[10]
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، للندوي: 255.
[11]
الرسالة، للشافعي: 46.
[12]
وحي القلم، للرافعي: 3/29.
[13]
ينظر: مجلة الفرقان الكويتية: ع 631، 6/6/1432هـ.
[14]
واقعنا المعاصر، لمحمد قطب: 220-222.
[15]
ينظر: موقع قصة الإسلام: قصة الاحتلال الأوروبي: تخبط الدول الإسلامية.
[16]
الفصحى في مواجهة التحديات، لنذير مكتبي: 112.
[17]
ينظر: الصراع بين القديم والجديد، للكتاني: 2/761، وتاريخ الغزو الفكري، لأنور
الجندي: 293.
[18]
ينظر: الصراع بين القديم والجديد، للكتاني: 2/761.
[19]
ينظر: المرجع السابق: 2/762.
[20]
ينظر في دعوات هؤلاء: الفصحى في مواجهة التحديات: 111، والصراع بين القديم
والجديد: 2/764, 803 –833.
[21]
ينظر: الفصحى ونظرية الفكر العامي، لمرزوق بن تنباك: 24.
[22]
ينظر: المرجع السابق: 31.
[23]
مجلة المجتمع الكويتية: العدد (1556)، عن: التربية اللغوية العربية، لباحارث: 101.
[24]
اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية: 1/399.
[25]
طبقات النحويين واللغويين، للزبيدي: 12.
[26]
عن: تاريخ الغزو الفكري والتغريب، للجندي: 300.
[27]
ينظر: التربية اللغوية العربية، لباحارث: 103.
[28]
للاطلاع على جهود هذه المنظمات ينظر مواقعها على الشبكة العالمية.
[29]
عن مقالة: الإمام ابن باديس وحجاب المرأة، للشيخ عبدالرحمن شيبان، بموقع: جريدة
البصائر الجزائرية.
[30]
تحت راية القرآن، للرافعي: 18.
[31]
عن مقالة: العربية صوت القرآن، للطيان، في موقع شبكة الألوكة.