• - الموافق2024/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
عودة بشار الأسد بين الرمزية والاستراتيجية

وما هي حسابات ورهانات الأطراف الإقليمية والدولية حول هذه العودة؟ وهل سينجح القفز الآنيّ فوق الواقع من أجل أهداف براغماتية في تغييب حق السوريين في العيش بكرامة؟ هل ستسقط جرائم بشار الأسد ونظامه بالتقادم؟


مع تغيُّر حالة المشهد الجيوسياسي والمعطيات والمواقف في منطقة الشرق الأوسط، يتعاظم الحديث عن إعادة احتضان سوريا في محيطها العربي والإقليمي، كان هذا لافتًا في الأشهر الماضية؛ من خلال سعي الحلفاء التقليديين مثل إيران وروسيا والصين إلى مرحلة جديدة من تعميق العلاقات مع دمشق، يُضاف إلى ذلك إعادة تأهيل النظام السوري عربيًّا؛ تمهيدًا لإعادة تطبيع العلاقات معه، وهي خطوة تحمل الكثير من الرمزية التي ستؤول في نهاية المطاف إلى عودة سياسية واقتصادية قوية للنظام في محيطه الإقليمي، وبالرغم من هذه المساعي فإن هناك بعض الأطراف التي لا تزال ترى في عودة بشار الأسد ونظامه جريمة بحق الشعب السوري الذي تم قتله وتشريده وتدمير مدنه، فمن المستفيد من عودة النظام السوري الآن؟، وما هي حسابات ورهانات الأطراف الإقليمية والدولية حول هذه العودة؟ وهل سينجح القفز الآنيّ فوق الواقع من أجل أهداف براغماتية في تغييب حق السوريين في العيش بكرامة؟ هل ستسقط جرائم بشار الأسد ونظامه بالتقادم؟

تجاوز الأزمة

يعتقد نظام بشار الأسد أنه نجح في تجاوز عاصفة المساعي الغربية لإزالته، أو على الأقل عزله دبلوماسيًّا، فبلا شك لقد تمكَّن بالفعل -وبدعم هائل من إيران وروسيا- في استعادة السيطرة على جزء كبير من البلاد، باستثناء جزء من الشمال الشرقي تسيطر عليه الأكراد وجزء آخر تسيطر عليه فصائل المعارضة السورية في الشمال الغربي، ومع توقف القتال العنيف إلى حد كبير ودخول المفاوضات الدبلوماسية إلى حالة من الجمود؛ وصل الصراع في سوريا إلى طريق مسدود مع احتمال ضئيل للتوصل إلى تسوية سياسية في أيّ وقت قريب، وحتى إدانة النظام السوري عبر إجماع دولي قد باتت صعبة بعدما مُنِعَ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من السعي لتحقيق العدالة من خلال المحكمة الجنائية الدولية بسبب حق النقض (الفيتو) الذي استخدمته روسيا والصين لحماية الأسد ونظامه، وحتى الجهود المبذولة للتصدي لانتهاكات النظام الواسعة من خلال المحاكم الأوروبية بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية؛ لم تُسفر سوى عن نجاح محدود للغاية، ولم يكن مؤثرًا في سير الأحداث على الأرض، وفي ظل ترسخ نظام الأسد في السلطة بات هناك اتجاه متزايد نحو تطبيع العلاقات معه، وبدأت بعض العواصم تعيد رسم علاقاتها مع دمشق بعدما كانت تُبادلها القطيعة والعداء.

في ظل التداعيات الاقتصادية لما بعد جائحة فيروس كورونا، والحرب الروسية على أوكرانيا؛ باتت منطقة الشرق الأوسط غير مستعدة لتحمل مزيد من تكاليف النزاع والأزمات، وبعد مرور أكثر من عقد من الصراع السوري بدأت تتولد قناعات لدى بعض دول المنطقة بأن الانشغال الغربي عن شؤون المنطقة وغياب خطط واضحة للأمن الإقليمي، دفعت جميع دول المنطقة إلى التفكير في تغيير طبيعة علاقتها وتنويع خياراتها السياسية، لقد بات الجميع يدير توازناته في المنطقة بما يخدم مصالحه الاستراتيجية أولًا وأخيرًا، ورغم أن الأزمة السورية ظلت طويلًا بلا انتصار حاسم لأحد؛ إلا أن النظام نصَّب نفسه مُنتصِرًا، وقد لا تجد بعض الأطراف غضاضةً في إعادة تأهيل النظام السوري، في محاولة للخروج من إرث الحروب المكلفة والمزعزعة للاستقرار والمؤثرة سلبًا في تطور المنطقة وتنميتها.

حسابات ورهانات

لا شك أن التطلعات والأهداف الاستراتيجية هي التي تحكم مسار الأحداث الراهنة في العالم، فلكل طرف خططه الطموحة التي يبني من خلالها علاقته مع الآخرين، ومن خلال هذه الحقيقة يمكننا قراءة واستشراف مغزى الجهود الدبلوماسية المتسارعة للاستفادة من التقارب مع نظام بشار الأسد، خاصةً وأن الشرق الأوسط يشهد تحولًا سريعًا في ديناميكيات القوة بالتوازي مع أطماع متزايدة في الموارد والمكاسب الاقتصادية، يمكن تلخيص وتحليل حسابات ورهانات الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية في النقاط التالية:

  الصين:

مع خروج الولايات المتحدة وحلفائها من الشرق الأوسط؛ تغيرت ديناميكيات المنطقة، وبدأت الصين وروسيا في ملء الفراغ السياسي الذي خلّفه الانسحاب التدريجي لواشنطن؛ فتوسطت بكين في اتفاق تاريخي بين إيران والسعودية، وبدأت في فرض نفسها وسيطًا يحاول تقريب وجهات النظر وتخفيف التوترات في الشرق الأوسط، وتراهن الصين على التهام نصيب كبير من عملية إعادة إعمار سوريا، فالصينيون بارعون في الغزو الاقتصادي للبلدان، وقد حقَّقت ناجحات ملموسة في هذا الشأن في عدد من الدول الإفريقية والآسيوية.

   روسيا:

على خطى بكين؛ بدأت موسكو في التوسط بين تركيا وسوريا، ولا شك أن احتضانها للاجتماع الوزاري الرباعي بين روسيا وإيران وتركيا والنظام السوري هي خطوة مهمة على هذا المسار، وبالتزامن مع توطيد علاقاتها بسوريا ودول المنطقة التي كانت تاريخيًّا حليفة لواشنطن، وذلك في توجُّه جديد لروسيا في ظل اشتداد تنافسها مع الولايات المتحدة في عالمٍ يزداد استقطابًا، فإن الروس لا ينسون نصيبهم من محاصصة النظام السوري نظير دعمهم له، كان الأسد أكثر وفاءً لهم خلال زيارته لموسكو في شهر مارس الماضي حين طالبهم بتوسيع القواعد العسكرية الروسية في سوريا، وأن يكون وجود القوات الروسية دائمًا وليس مؤقتًا، هذا بخلاف مذكرات التفاهم التي تُمكِّن موسكو من الحصول على نصيب كبير من المُقدّرات الاقتصادية السورية.

   إيران:

على الرغم من مكاسبها الكبيرة التي حققتها طيلة الأعوام الماضية، لا تزال إيران تواجه عدة عقبات في سوريا، في مقدمتها الهجمات الإسرائيلية على الميليشيات الموالية لها، وسيطرة الأكراد على معظم موارد النفط والحبوب في سوريا، لكنَّ هذا لم يمنعها من توطيد أهدافها طويلة الأمد مع النظام السوري. لقد استثمرت إيران الكثير في سوريا، وراهنت كثيرًا على بقاء الأسد، ومع بوادر انتهاء المقاطعة المفروضة على دمشق؛ فإن إيران تقترب من تحقيق انتصارها الخاص في فكّ عزلة سوريا.

ولا شك أن هذا من شأنه في نهاية المطاف تحقيق ثمار الاتفاقيات التجارية والسياسية التي أُبرِمَت على مدار الأعوام الماضية والبدء في تحصيل الديون المتراكمة على سوريا. في هذا المسار تأتي الاتفاقيات الجديدة التي أبرمها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قبل أيام خلال زيارته لدمشق؛ مشاريع الفوسفات والنفط والكهرباء وتخصيص العقارات والأراضي في المدن الرئيسية السورية ما هي إلا البداية، كما أن إيران تراهن على أن نجاح النظام السوري في العودة إلى حاضنته الإقليمية سيساعدها بشكلٍ ما في محاولتها لتصفير المشكلات وإزالة العقبات الدبلوماسية التي تعيق ترميم علاقتها بدول الجوار.

   الدول العربية:

شرعت بعض الحكومات العربية في المنطقة ببطء وبشكل متقطع في جهود التطبيع مع نظام الأسد، ترى هذه الحكومات أن الأسد على الأرجح سيبقى في السلطة في المستقبل المنظور، لذا فإنهم يسعون إلى دمج سوريا في المنطقة وفقًا لشروطهم، فبالنسبة لبعض الدول العربية فإن التطبيع مع الأسد يُنظَر إليه باعتباره ثقلًا موازنًا للنفوذ الإيراني المتعمق في سوريا، بينما يتطلع البعض الآخر إلى إعادة العلاقات الاقتصادية مع معاناة اقتصادات بلدانهم من الانكماش الكبير، ويراهن البعض على ملف الأمن وعودة النازحين ومواجهة تهريب المخدرات وانتقال مقاتلين متطرفين عبر الحدود، وقد ساعد الزلازل الذي وقع قبل أكثر من شهرين وضرب أجزاء من الشمال السوري في تسريع جهود التطبيع، فبينما استفاد الأسد من تعاطف بعض البلدان مع السوريين في أعقاب الزلازل؛ استغلت بعض الحكومات هذه الكارثة الطبيعية للحصول على غطاء سياسي لتعميق العلاقات.

   تركيا:

تستكشف تركيا هي الأخرى التطبيع مع نظام الأسد؛ ففي يناير أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن اهتمامه بلقاء الأسد، فيما التقى وزير دفاعه مع نظيره السوري في موسكو أواخر العام الماضي في إطار عودة تدريجية مرتقبة للعلاقات.

ثمة عقبات رئيسية قد تعرقل الاتفاق بينهما؛ مثل مخاوف تركيا الأمنية فيما يتعلق بالمسلحين الأكراد، وسيطرة أنقرة على حوالي 10 في المائة من الأراضي السورية، ودعمها لبعض فصائل المقاومة السورية، في ظل هذا الوضع تراهن تركيا على فرض شروط تكتيكية على نظام الأسد كي تستفيد منها من الناحية الاستراتيجية، تشترك الدولتان في حدود بطول 764 كم ولديهما مصلحة مشتركة في العودة إلى العلاقات الجيدة التي كانا يتبادلانها قبل الحرب، والتي ساعدت كلا البلدين على الازدهار.

   الولايات المتحدة:

موقف الولايات المتحدة لا يزال ثابتًا حيال النظام في سوريا، الخارجية الأمريكية أكدت على موقف إدارة بايدن الرافض لتطبيع العلاقات مع نظام الأسد وتمسكها ببيان جنيف والقرار الدولي 2254، وهي وثائق كانت مرتبطة بموازين القوى في تلك الفترة، لكنها تبدَّلت الآن، وباتت هناك قواعد جديدة حاكمة، بالرغم من ذلك تُبقي واشنطن على موطئ قدم لنفسها في سوريا عبر الأكراد.

   إسرائيل:

تشعر إسرائيل بقلق شديد إزاء التمركز العسكري الإيراني في سوريا، عملت خلال الأعوام القليلة الماضية على تدمير شحنات أسلحة إيرانية كانت متجهة إلى حزب الله، كما استهدفت مواقع ميليشيات شيعية أخرى بوتيرة متزايدة في محاولة لإحباط التمركز الإيراني في مناطق حساسة، يراهن الكيان الصهيوني على أن توطيد النظام السوري لقواعده قد يُعيد الأمن والاستقرار إلى مناطقها القريبة ويُضعف من الوجود الإيراني لصالح وجود قوات النظام، كما تسعى إسرائيل إلى الخروج من مناخ المواجهة، فهي لا يهمّها مَن يجلس على هرم السلطة في سوريا طالما أنه يُوفّر لها الهدوء المطلوب.

جرائم بين النسيان والتغييب

على مدار السنوات الماضية جرى اتهام نظام الأسد بارتكاب فظائع وحشية وجرائم حرب ممنهجة، نجح النظام مرارًا في الإفلات من العقاب، ومع تراجع الاهتمام الدولي بالأزمة السورية يزداد النظام في ممارسة جرائمه بعيدًا عن أعين العالم، وتقدر الأمم المتحدة أن 13,1 مليون سوري بحاجة إلى المساعدة، لافتةً إلى الأزمة الإنسانية هناك لا تزال تتفاقم، لكن مع قرب الحديث عن بدء عملية إعادة الإعمار يعود اهتمام الجهات الفاعلة التي تبحث عن نصيبها من هذه الكعكة، وهو تغيير جذري عن المراحل السابقة من الصراع عندما كانت سوريا بمثابة ساحة حرب بالوكالة للقوى المحلية والدولية على حد سواء، لم يعد أحد يهتم كثيرًا برسم خارطة للحل السياسي في سوريا، انهارت الطموحات بأن يسقط النظام السوري، وتضاءلت الرغبة في أن يترك بشار الأسد الحكم حتى ولو بقي النظام قائمًا، بات السيناريو القائم هو أن الأسد ونظامه باقيان وعلى الجميع التعامل مع هذا الواقع.

قد لا يهتم كثيرون بملف الأسد الإجرامي، كما أن أدوات المساءلة قد باتت محدودة، لذا في أفضل الأحوال سيتم الحديث عن مسألة النزوح الداخلي بغرض إعادة حوالي 6,8 مليون نازح داخلي وأكثر من مليوني شخص يعيشون في مخيمات محدودة الخدمات الأساسية إلى مناطقهم السابقة. أما أزمة اللاجئين السوريين في الخارج فستكون هي الأهم، ليس لكونها واحدة من أكبر عمليات نزوح اللاجئين في التاريخ الحديث وأنها مسألة إنسانية تخص شعبًا ضاقت به السبل، بقدر ما هي أزمة للدول الأخرى التي تكافح للتخلص منها، يرى البعض أن إعادة العلاقات مع نظام الأسد من شأنها إحداث تغيير في السلوك قد يحسِّن الأوضاع على الأرض، ومِن ثمَّ الضغط من أجل عودة اللاجئين، فعلى سبيل المثال زعمت تقارير بأن التقارب الخليجي الأخير مع الأسد لعب دورًا رئيسًا في إجباره على فتح معبرين حدوديين إضافيين لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية في أعقاب الزلزال.

خريطة طريق

فشلت جولات عديدة من المحادثات بوساطة الأمم المتحدة والتي عُرِفَت باسم عملية جنيف 1 و2، كما لم تُحرز مفاوضات أستانا أيّ تقدُّم ملموس، وحتى مفاوضات سوتشي لم تأتِ بجديد، لم يكن الأسد مستعدًّا للدخول في مفاوضات تصرّ على أنه يجب أن يتنحى كجزء من أيّ تسوية أو كتابة دستور جديد أو إجراء انتخابات حرة ونزيهة، الآن وبعد كل هذه السنوات من التفاوض بين النظام وقوى المعارضة، والذي لم يثمر عن أي شيء؛ بات هناك جولات تفاوض جديدة ومبادرات إقليمية أخرى - مثل المبادرة الأردنية- من أجل إيجاد سبل لعلاقة مختلفة مع النظام السوري.

لقد تهيأت الظروف للنظام السوري لترميم شرعيته، ونجح بشار الأسد في أن يُعيد تموضعه ويُحسّن علاقاته ويخرج من عزلته ليلتقي بقادة دول كانت تُعاديه قبل سنوات قليلة، يشعرُ بشار اليوم بأنه في موقع قوَّة ونفوذ، فقرار انفتاحه على التحوُّلات الحاصلة في المنطقة ينطلق من قراءة أنه هو مَن بقي في مكانه، وأن الآخرين هُم مَن يأتون إليه، وفي ظل هذا الوضع لم يَعُد هناك مجال للحديث عن خريطة طريق لحل الأزمة السورية، بل خريطة طريق لبناء علاقات جديدة مع نظام بشار الأسد.


أعلى