النظام التونسي والإسلام... القصة الكاملة
تونس بين كيد فرنسا وخيانة العملاء:
لما علمت فرنسا أنها ستغادر تونس لا محالة، وأن استعمارها إلى زوال، أدركت أن المرشحين لحكم تونس بعد انسحابها أحد رجلين: إما (فرحات حشاد)، وإما (بورقيبة). وكانت تعرف جيداً الفرق بينهما؛ حيث إن (حشاداً) كان معتزاً إلى حدِّ ما بانتمائه الإسلامي، بينما عُرِف (بورقيبة) عندها بعداوته للإسلام وشريعته[1].
كما أن (فرحات) كان قريباً من هموم المواطن، مناضلاً من أجل عيشه الكريم. أما (بورقيبة) فكان يظهر الصورة نفسها لكنه كان مؤمناً بالتفوق الفرنسي إلى درجة الاستعداد التام لخدمة (الإيديولوجية) الفرنسية واستنساخ نمط الحياة الفرنسي ليقلده التونسيون حذو القُذَّة بالقُذَّة.
ومن هنا عملت فرنسا على قتل (حشاد) ووضعت مخططاً أوكلت تنفيذه إلى منظمة (اليد السوداء) الإرهابية.
وجرى اغتياله يوم 5 ديسمبر سنة 1952م في كمين وهو في طريق أحد أسفاره.
وبهذا مكَّنت فرنسا لبورقيبة، وأعطت تونس استقلالها الصوري يوم 20 مارس 1956م مطمئنَّة إلى أنها ستبقى تابعة لها (ثقافياً، واقتصادياً، وسياسياً) بما يحقق مصالحها؛ وعلى رأسها وضع حدٍّ للمد الإسلامي.
وهكذا عمل (بورقيبة) وبعده (بن علي) طيلة 54 سنة (من يناير 1953م إلى يناير 2011م) على مسخ الهوية الإسلامية العربية التونسية، وصهرها بنيران نظام عَلماني مستبد.
الاحتكار السياسي:
أسس (بورقيبة) حزب (الدستور الجديد) سنة 1934م، مستعيناً ببقايا الحزب (الاشتراكي الدستوري). ومن خلاله بسط – بدعم من المستعمر - هيمنته الكاملة على الحكم، وخنق أو دجَّن كل الأصوات السياسية والنقابية والحقوقية، وقد وُصِف بأنه كان مولعاً بحب السلطة والحكم، ويرى العظمة في الاستبداد وبطر الحق وغمط الناس. فلما انقلب عليه نائبه بن علي الذي وعد بإطلاق (الحريات) وبَعْث (الديمقراطية)، لكنه أخلف الوعد، وواصل منهجية الحزب الوحيد المستبد لتنفيذ أجندة مرسومة؛ فأسس حزب (التجمع الدستوري الديمقراطي) سنة 1988م بعد خمسة أشهر من قيامه بالانقلاب الطبي على الرئيس المريض بورقيبة، وسيطر بدوره على المجال السياسي بكل أنواعه وألوانه.
وقد ركز (الرئيسان) بشكل خاص على إقصاء (الحركة الإسلامية) التي أعلنت عام 1981م قيام حزب إسلامي سمَّته (الاتجاه الإسلامي)، وهو الذي رفضت سلطات (بورقيبة) الترخيص له، ثم دشنت حملة مكثفة ضده بتهمة العمالة لإيران.
وعندما استولى (بن علي) على السلطة يوم (7) نوفمبر عام 1987م رحبت به (الحركة الإسلامية)، وأصدرت بياناً بذلك في اليوم نفسه، وقبلت بقانون (الأحوال الشخصية) الذي شرعه (بورقيبة)، والذي عارض أحكاماً شرعية قطعية؛ بل شاركت في بلورة ما سمي (الميثاق الوطني) الذي يجعل من ذلك القانون أحد أُسس الجمهورية التونسية، وقد منحتها وزارة الداخلية في فبراير 1989م وصلاً مؤقتاً للعمل.
إلا أنه سرعان ما انقلب عليهم النظام وأعلن (بن علي) في خطابه يوم 7 نوفمبر 1989م عن رفضه القاطع لقيام حزب إسلامي، ولم تُجْدِ محاولات الحزب في بيانِ أنه حزب سياسي وليس إسلامياً، وأنه يؤيد الحريات والديمقراطية... إلـخ.
لم يكن موقف النظام العَلماني من الجناح السياسي للحركة الإسلامية مجرد موقف يحمي هيمنته على الحكم، ويريد إقصاء المنافس السياسي الذي قد يستقطب خطابُه شرائح واسعة من الشعب؛ بل كان هذا الموقف جزءاً من مشروع كامل لمحاصرة الإسلام واستبعاد أي دور يمكن أن يقوم به في توجيه الحياة العامة.
الحرب على الإسلام:
لقد وضع (بورقيبة) سياسة شبيهة بسياسية (أتاتورك) في تركيا، وقاد حملة إعلامية وقانونية لترسيخ العَلمانية المتطرفة وتغييب الشريعة ومظاهر الإسلام.
وهكذا (كان أول قرارات دولة (الاستقلال): الإقدامُ على ارتكاب ما لم تجرؤ عليه فرنسا نفسها: من غلق جامع الزيتونة الشهير، ومصادرة القضاء الشرعي، وتأميم الأوقاف التي كانت تمثل ثلث الملكية في البلاد مخصصة لخدمة التعليم الإسلامي والنفع العام، والتهجم على فريضة الصيام، وكذا الإجهاز على شرائع ثابتة في مجال الأسرة؛ كتحريم التبني ومشروعية التعدد، والوعد بإصدار قانون يسوي بين الذكور والإناث في الإرث بزعم حق أولياء الأمور أن يطوروا الأحكام بحسب تطور مفهوم العدل ونمط الحياة[2].
ولم تتوقف حملة بورقيبة على الإسلام وعقائده وشرائعه عند هذا الحد، بل بلغت جرأته إلى حد رمي القرآن الكريم بالتناقض والسخرية من الجنة والنار ومن شعيرة الحج، أثناء محاضراته التي كان يلقيها على الطلبة حول تاريخ كفاحه، وكانت تُنقَل على الهواء مباشرة[3].
كما سخر من شخص النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ووصف شعيرة الجمعة بأنها تؤخر عجلة الاقتصاد.
وقد سجل التاريخ (خطبته على الملأ محرضاً على السفور، التي دعا فيها متحجبةً إلى المنصة ومزق أمام الحاضرين حجابها، فضجت القاعة بالتصفيق، وبذلك انتهى أمر الحجاب حتى ظهر مجدداً في بداية السبعينيات؛ فاستأنف بورقيبة الحرب عليه؛ حيث أصدر القانون (رقم 108) يحظر فيه ارتداء الحجاب في المدارس وفي سائر المؤسسات الرسمية.
وكان تطبيقه يشتد أحياناً ويتراخى أحياناً أخرى، فلما تولى الأمر (بن علي) جرى تطبيقه بشكل حديدي حتى لُوحق داخل البيوت ذاتها ومُنعَت المتحجبات من دخول المستشفيات للعلاج ووضع الحمل، وحظر حتى على سيارات الأجرة حملهن).
وسخَّر النظام السلطات للتضييق على المواظبين على صلاة الجماعة؛ إلى درجةِ جَعْل هذه المواظبة سبباً لاعتقال صاحبها والتحقيق معه وربما سجنه، ووصل التضييق على الناس في أمور دينهم إلى درجة منع الرجال من إعفاء اللحى إلا برخصة تُمنَح بموجبها (بطاقة اللحية).
وهمُّوا بفرض بطاقة أخرى للمصلي يطلبها المواطن من مركز الأمن، قد تُمنَح له بعد بحث طويل في شخصه، ولا يحق دخول المسجد والصلاة فيه إلا لحامل هذه البطاقة.
أما الحرب على الحجاب في عهد (بن علي) فبلغت إلى درجة مطاردة الدمية (فلَّة) ومصادرتها من الأسواق؛ لأنها تلبس لباساً ساتراً.
وقد أكدت (الهيئة العالمية لنصرة الإسلام في تونس) في بيانها الصادر في شوال (1427م) على أن الحكومة التونسية تنتهج سياسة تتنكر (لعادات الناس وتقاليدهم وثقافتهم ودينهم؛ وذلك من خلال تشجيعها على كل مظاهر التغريب والتبعيـة في الأنمـاط المعيشية والمسالك الحياتية للنـاس؛ تفرضها مكراً بالليل والنهار. ولم تدخـر تلك السلطة جهداً في الحـرب ضــد كـل ما يشد التونســيين إلـى هـويتهـم بذريعة مقاومة التخلف والانحطاط واللحاق بركب الأمم المتقدمة).
العلماء والنهي عن المنكر:
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العلاَّمة ابن باز وعدداً من العلماء أصدروا فتاوى في ردَّة (بورقيبة) لتبنِّية افتراءات المستشرقين الحاقدين على الإسلام وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم، هذا الرسول الذي شهد بعظمته المستشرقون المنصفون، والعلماء والقادة المتجردون، وأكدوا نُبْل رسالته وأثره الإصلاحي منقطع النظير على العالم.
فقد زعم (بورقيبة) أنه صلى الله عليه وسلم إنسان بسيط يسافر كثيراً في الصحراء ويستمع للخرافات السائدة التي نقلها إلى القرآن، وهو افتراء قديم زعمه المشركون وكرره المستشرقون، وأشاعه في الأمة المستغربون من أمثال (طه حسين). قال الله - سبحانه وتعالى -: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّـمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْـحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل: 103]، وقال - سبحانه -: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَـمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: ٣]، وقال: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: ١١١].
وقد ألَّف الشيخ ابن باز - رحمه الله - رسالة في دحض شبهات الرجل، وتأكيد دعوته إلى التوبة النصوح وإعلانها بطرق الإعلان الرسمية، وتأكيد الاعتقاد الإسلامي الصحيح.
وقد طُبعَت الرسالة ونُشِرَت وجرى توزيع عشرات آلاف النسخ منها على الحجاج مجاناً لتوعية المسلمين بخطر التطاول على حرمات الإسلام وتحصين الأمة من هذه الضلالات وردع أصحابها. كما نصح الشيخ ابن باز خلفه (بن علي)، لكن الأمر كان على حد قول الشاعر:
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حياً
ولكن لا حياةَ لمن تنادي
ولو ناراً نفختَ بها أضاءتْ
ولكن أنتَ تنفخُ في رمادِ
فقد زين له شيطانه غمط العلماء، والولاء للغرب الذي دعمه وأغراه، وأغرقه في بحر شهوة المال والسلطة. قال الله - تعالى - عن أحد جبابرة العالم: {إنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ إذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ 76 وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـمُفْسِدِينَ ٧٧ قَالَ إنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْـمُجْرِمُونَ 78 فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ 79 وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّـمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِـحًا وَلا يُلَقَّاهَا إلاَّ الصَّابِرُونَ 80 فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْـمُنتَصِرِينَ}. [القصص: 76 - 81]
نفاق (رعاة حقوق الإنسان) وانكشاف المؤامرة:
إن سياسة العداء للإسلام التي انتهجها (النظام التونسي) طيلة نصف قرن؛ تفسر لنا لماذا سكت رعاة حقوق الإنسان ودعاة المواثيق الدولية من الساسة الغربيين عن مصادرة هذا النظام لحقوق المواطـن (السـياسـية، والاقتصـادية، والثقافيـة) بشـكل لا نظير له، بل منحوه مركزاً متقدماً على مستوى حقوق الإنسان، ووصفوا إنجازه المزعوم بالمعجزة الأمنية والاقتصادية، وفي المقابل تدخلوا بقوة في شؤون السودان وغيره من الدول التي تستعصي بشكل أو بآخر على تطبيق الأجندة المفروضة. والخطة المرسومة لاستعباد الشعوب وتجريدها من هويتها وكرامتها باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وانظر كيف دعموا (بل خططوا) لفصل جنوب السودان وأشرفوا على ذلك إشرافاً مباشراً بزعم أنه مهمَّش، في الوقت الذي كتموا تهميش النظام التونسي لجنوب تونس على حساب الشمال الذي جعله منتجعاً يتنعم فيه السياح وأثرياء البلاد.
وهكذا فإن الغرب المعادي للإسلام يدعم النموذج التونسي في كافة الدول الإسلامية، وينقص دعمه بقدر تقصير الدولة في تطبيق تلك القناعات. فلما أحرق البوعزيزي نفسه – غفر الله له - فضح نفاقَ النظام وحماتِه، وكشف حقيقة المعجزة الاقتصادية، وأنها مجرد صورة يروجها الإعلام الغربي الحكومي دعماً لنظام يخدم مصالحه.
وقد التزم الساسة الغربيون الصمت في أحداث (سيدي بوزيد) ظنّاً منهم أن القمع سيئد الثورة في مهدها كما اعتادوا على ذلك، فلما رأوا أن عصا الجوع أطول من عصا القمع، ورأوا أن الخرق يتسع وعدد الضحايا يرتفع، أشهروا وجه النفاق مرة أخرى؛ وجعلوا يلمِّحون بإنكار الأوضاع في تونس ودعوة الحكومة إلى مزيد من المرونة في التعامل مع الأحداث، ريثما يتم حبك فصول مسرحية تحتوي الوضع دون خسائر إستراتيجية.
لقد علل أحد الحقوقيين الفرنسيين تخاذل الحكومات الغربية عن إنكار القمع الوحشي الذي مارسه النظام ضد انتفاضة الشعب التونسي قائلاً: (إن تونس قطعت شوطاً كبيراً في محاربة التطرف وتمتيع المرأة بحقوقها والانفتاح على الغرب). وأكدت ذلك رشيدة داتي وزيرة العدل السابقة في حكومة (ساركوزي) بقولها: (بن علي حمى أوروبا من التطرف).
وقد استمر الدعم الفرنسي لهذا التوجه المستبد إلى آخر لحظة؛ حيث كشفت يومية (لوموند) الفرنسية في موقعها يوم الإثنين 12 صفر 1432هـ/ 17 يناير 2011م أن الحكومة الفرنسية حاولت تفادي سقوط النظام التونسي، وقدمت له الدعم (اللوجستيكي) لقمع ثورة الشعب[4]، وهو الدعم الذي عرضته وزيرة الخارجية (إليوت ماري).
وبمجرد أن تأكد سقوط النظام الذي خدم فرنسا أكثر من نصف قرن؛ تنكرت له كأنها لا تعرفه، وكانت هي أول من رفض استقبال زعيمه، وإظهار استنكار سياسته ونهب أسرته ومقربيه لثروات البلاد، وطالبت بتجميد أرصدته، ودعت ابنته للخروج من فرنسا. وسرعان ما حاولت التخندق في صف الشعب اتقاء أن يثور على ولائه لثقافتها ومبادئها ومصالحها الاقتصادية كما ثار على عميلها الوفي.
التلازم بين الضيق الاقتصادي والتضييق على الشريعة والتدين:
لعل من نافلة القول أن نذكر هنا أن الشريعة الإسلامية تضمن للمجتمع الذي يطبقها عدالة اجتماعية، وازدهاراً اقتصادياً يضمنان حقوق الناس ويحققان مصالحهم في المعاش والمعاد. ومن هنا فإن إقصاءها يمثل جناية على المسلمين، ويجعل حقوقهم في مهب رياح الاقتصاد المُسَيَّس والأطماع الشخصية للحكام الذين لا تهمهم مصـالح شعوبهم بقدر ما يهمهم توسيع ثرواتهم وإشباع نهمهم البشع للمال وحياة البذخ والترف.
والحقيقة أن الحاكم التونسي الفارَّ أخذ من هذا الحال أوفر الحظ وأعظم النصيب، وكان حاله مع شعبه كحال ذلك الحاكم الأسطوري الذي كان يأكل الكعب (نوع من الحلوى الجيدة) بعد إزالة القشر المكون من الدقيق، ويكتفي بأكل اللب الذي هو عبارة عن خليط مسحوق (اللوز)، فلما اشتكى شعبه من المجاعة؛ قال لوزرائه: قولوا لهم: يأكلوا (الكعب) بقشره، مع أنهم لا يعرفون منه لُبّاً ولا قشراً.
وقد صرح (بن علي) نفسه في خطابه الأخير بأن بطانته كانت تخفي عنه حالة الشعب؛ وهو اعتذار أقبح من الزلة.
أما الحكَّام المقسطون فيعتبرون مصالح شعوبهم الدينية والدنيوية أمانة عظمى وواجباً كبيراً. قال ابن سعد: (أخبرنا عبيد الله بن موسى قال أخبرنا هشام بن عروة - قال عبيد الله أظنه عن أبيه - قال: لما ولي أبو بكر خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس! قد وليت أمركم ولست بخيركم، ولكن نزل القرآن وسن النبي صلى الله عليه وسلم السنن... اعلموا أن أكيس الكيس التقوى، وأن أحمق الحمق الفجور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق. أيها الناس! إنما أنا متَّبع ولست بمبتدعٍ؛ فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني) اهـ[5].
إن الدين عند المسلمين يمثل عاملاً أساسياً من عوامل الاستقرار وحفظ التوازن، والدين يبعث في الإنسان روح الأمل ويجعله قادراً على تحمُّل صعاب الحياة وتجاوزها. والذي ينصب نفسه حاكماً على المسلمين يتعين عليه أن يوفر حاجياتهم المادية من خلال نظام اقتصادي متوازن وعادل، كما يتعين عليه أن يوفر حاجياتهم المعنوية وعلى رأسها التوازن الروحي الذي يوفره الدين دون غيره، فإذا حصل التقصير في أحدهما فهو ضرر بليغ يلحق بالناس، فإذا حصل التقصير في الأمرين فهي طامة كبرى ستؤدي لا محالة إلى ما شاهدناه في تونس ومصر وليبيا.
فسياسة التجهيل الديني، والتضييق على التدين، وغياب الثقافة الدينية هي - في الحقيقة - التي حملت مئات من الناس على الانتحار منذ مطلع الثمانينيات.
لقد صدق (بن علي) حين وصف المنتحرين بالهشاشة النفسية، لكنه نسي أن نظامه العَلماني المتطرف هو الذي أدى بهم إلى ذلك الحال.
{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
[1] كان في أول الأمر يُظهِر المنافحة عن الإسلام مراعاة لمشاعر الناس، واتقاء محاربتهم لمشروعه، كما فعل (أتاتورك).
[2] تونس، الإسلام الجريح، ص49.
[3] جريدة الصباح التونسية، 21 مارس 1974م.
[4] انظر عن الثورة (مفهوماً وحكماً) ملخصاً مفيداً في مقدمة الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان لكتاب (الإنجاد في أحكام الجهاد).
[5] الطبقات الكبرى: 3/182.