• - الموافق2024/11/21م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
إشكال العلمانية في فكر المسيري...  رؤية أخرى

إشكال العلمانية في فكر المسيري... رؤية أخرى

 

بتتبُّع مسار عالم الأفكار تأكَّد أن الأفكار الحيَّة لا تموت بوفاة أصحابها، بل إن بعض الأفكار الفاعلة لم تجد طريقها إلى الفعل والتنفيذ إلا بعد غياب ذويها غياباً (فيزيقياً) عن عالمنا الدنيوي، ولعل من هذا القبيل بعض أفكار الفيلسوف الراحل عبد الوهاب المسيري - رحمه الله - حيث فرضت بعض أطاريحه على جمهرة الباحثين نقاشاً لم ينته - ولا أحسبه سينتهي - في جملة قضايا ومسائل شائكة، بعضها ربما أخذ حكم المسلَّمات ردحاً من الزمـن، حتى جاء المسـيري فأبدى حول بعضهـا من المعطيـات ما أحالها كغيرها أطروحة تقبل الأخذ والعطاء، ولعل من أشهر هذه المسائل حقيقة (بروتوكولات حكماء صهيون)، ومسألة (اللوبي الصهيوني)، وما إذا كان موجَّهاً أساساً لصانع القرار الأمريكي، أم أن الكيان الصهيوني برمَّته مجرَّد أداة استعمارية للولايات المتحدة، لمساعدتها في إحكام قبضة هيمنتها على المنطقة؟ كما أن من أشهر تلكم المسائل بالغة التعقيد – وهي محل نقاش هذه المقالة - تقسيم المسيري العَلمانية إلى مستويين: علمانية جزئية و أخرى كليِّة، فالأولى - بحسب المسيري - مجرَّد «رؤية جزئية للواقع (إجرائية)، لا تتعامل مع أبعاده الكليَّة والنهائية (المعرفية)، ومن ثمَّ لا تتسم بالشمول، وتذهب في هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة، وربما الاقتصاد، وربما بعض الجوانب الأخرى من الحياة العامة، وهو ما يعبَّر عنه أحياناً بعبارة (فصل الدين عن الدولة)، ومثل هذه الرؤية تلزم الصمتَ بشأن المجالات الأخرى من الحياة، كما أنَّها لا تنكر بالضرورة وجود مُطلَقات وكلِّيات أخلاقية وإنسانية وربما دينية، أو وجود ما ورائيات وميتافيزيقا؛ ولذلك لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلافية...»[1].

أما العَلمانية الشاملة فهي عنده: «رؤية شاملة للعالم ذات بُعْد معرفي ( كلِّي ونهائي)، تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدِّين والمطْلَقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة؛ وهي رؤية عقلانية مادية تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية التي ترى أن مركز الكون كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم بأسْره مكوَّن أساساً من مادة واحدة، ليست لها أية قداسة ولا تحوي أيَّة أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات، أو التفرُّد أو المطلقات أو الثوابت، هذه المادة تشكِّل كلاً من الإنسان والطبيعة...»[2].

ومع أن وجهة نظر الدكتور المسيري تظل رأياً كأي رأي قابل للنقاش والأخذ والعطاء، بل القبول والرفض؛ غير أن انتماء المسيري إلى دائرة الفكر الإسلامي، ونظراً لما يحظى به من مكانة مرموقة، واحترام ملحوظ لدى الجميع، بوصفه مفكِّراً حرّاً مستنيراً حقّاً، ذا تأثير في النخب جميعها، داخل مصر وخارجها، وفي مقدِّمتهم الإسلاميون، كل ذلك منح رأيه قبولاً في الوسط العَلماني، عن قناعة من بعضهم وعن تكتيك وبراغماتية من بعضهم الآخر؛ كما أنَّه لا يُستبعَد أن ثمَّة متابعين لأطروحة المسيري هذه من قِبَل بعض الإسلاميين؛ وكأنه استحال إلى حجَّة على الإسلاميين كآفة لا يسعهم سوى الإذعان له، أو أنَّه غدا حجة بذاته لا بمستنداته العلمية وحججه البرهانية، ولكن المنهجية العلميـة التـي يُعدُّ المسـيري مـن أبرز رموزهـا تفـرض علينـا أن لا يدفعنا الإعجاب بفيلسوف أو مفكِّر أو عالم أو باحث مهما علا قدره وارتفعت مكانته لأن نأخذ رأيه مسلَّمات تستعلي على النقد؛ فهذه إساءة إلى الفيلسوف أو المفكِّر أو العالم أو الباحث إن هو وافق على ذلك، وحاشا الفيلسوف المسيري أن يقع في شَرَك ذلك؛ ولا سيما أن بعض النقاد قد واجهه في مجلسه الفكري ( صالونه) بوجهة أخرى لا تخلو من شدَّة ولكنها في المسار المنهجي الذي عُرِف المسيري به طيلة مسيرته العلمية والفكرية، فلم ينزعج من ذلك، حسب رواية صاحب النقد الأستاذ محمد إبراهيم مبروك[3].

توفيق أم تلفيق؟

بعد إنعام النظر في حديث المسيري بهذا الشأن خلصت إلى أن رأيه لا يسلم من نقاش معمَّق؛ إذ إنه يحوي جوانب من أوجه التداخل والاضطراب بل التلفيق أحياناً؛ من خلال محاولته الفصل الموضوعي بين ما يصفه بالعَلمانية الكليَّة الشاملة، والعَلمانية الجزئية المحدودة؛ بل أجدني مع جوهر رأي الأستاذ محمد إبراهيم مبروك في نقده لذلك الفصل؛ نظراً للسبب المشار إليه آنفاً[4]، ولم أجد من تفسيرٍ لذلك سوى أن المسيري - كأي مفكِّـر توفيقي كبير - كان يحلم بالتقريب بين الاتجاهين: الإسلامي المعتدل الوسطي، ومن يصفهم بالعَلمانيين الجزئيين؛ وذلك من خلال محاولته تصوير أن الأمر لا يزيد عن عملية فصل بين إجراءات مؤسسات الدولة وبين تخصُّصات (رجال الدين) أو علماء الشريعة[5]، وهذا رأيه الخاص على كل حال.

لكن هيَّا بنا إلى مناقشةٍ أكثرَ تفصيلاً للمسألة ذاتها ولكن في ما يتصل بذلك التقسيم للعَلمانية من زاوية فكر المسيري الخاص وموقفه الشخصي من العَلمانية الجزئية بوجه خاص.

تأمَّّل – على سبيل المثال – في هذا النص من هذا الحوار الذي يبدو لأول وهلة مشكلاً، لكن بتتبع إجاباته التفصيلية بعد ذلك يظهر موقف المسيري المؤكِّد لما سبقت الإشارة إليه في مستهل مناقشة فكره.

يجيب المسيري على سؤال مباشر بهذا الصدد قائلاً: «العَلمانية احتلت الجزء الأساسي في مشروعي الفكري، فقد قيل لنا: إن العَلمانية تعني فصل الدين عن الدولة، وهذا تعريف قوي لا بأس به، وأنا لا مانع عندي من فصل الدين عن الدولة، إذا كانت الدولة تعني مجموعة الإجراءات السياسية والاقتصادية والإستراتيجية؛ فلا أحب أن أرى المشايخ يهرولون في طرقات وزارتَي الخارجية والدفاع، ولا أحب أن أجلس في لجنة تناقش إستراتيجية مصر القادمة، خلال القرن الحادي والعشرين، ويجلس إلى جواري أحد الشيوخ» فقاطعه المحاوِر قائلاً: «معنى ذلك أنك ترفض سيادة الدولة الدينية، كما كان سائداً في أوروبا، إبَّان العصور الوسطى؟» فأجاب المسيري: «كلمة دولة محدَّدة؛ فهي تعني الإجراءات السياسية والاقتصادية المباشرة، لكن إذا أخذنا الدولـة بالمعنى الشـامل، تثـار هنا قضيـة المرجعية؛ ما مرجعيـة هـذه الدولـة؟ مرجعيـة الدولـة الأمريكية - مثلاً - هي المنظـومة الداروينيـة، بمعنى أن القـوَّة هي المعوَّل عليه الأساسي للإستراتيجية الأمريكية؛ أي أن عقيدتها وديانتها هي القوَّة، وإسرائيل عقيدتها أو مرجعيتها: هي أن الشعب اليهودي له حق مطلق في أرض فلسطين، وأن من يتجاوز هذا الحق يجب القضاء عليه مبرماً، فما مرجعية عالمنا العربي؟ أعتقد أن مرجعيتنا يجب أن تكون إسلامية... لأننا إذا لم نؤمن بالمرجعية الإسلامية فسوف نأخذ بالداروينية، ومن هنا يأتي التمييز بين ما أسميه بالعَلمانية الجزئية ونظيرتها الشاملة، العَلمـانية الجزئية تعني فصـل الـدين عن الدولـة، والدولـة هنا - كما قلت - تعني كياناً صغيراً ينصرف إلى السياسة والاقتصاد بالمعنى المباشر. أما العَلمانية الشاملة فهي ليست فصل الدِّين عن الدولة، وإنما فصل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية لا عن الدولة فحسب؛ وإنما عن حياة الإنسان بجانبها العام والخاص»[6].

 وإني بعد تأمُّل في حديث المسيري ومناقشةٍ ذاتية له في أكثر من مناسبة، وفي غير ما مصدر له (نصّاً مباشراً، أو حواراً مباشراً أو غير مباشر بهذا الشأن)؛ ومع تأكيدي على ذلك الاضطراب في خطاب المسيري بسبب النزعة التوفيقية عنده؛ لا أرى موقعاً ممكناً، أو منطقاً مقنعاً، أو وجاهة لاستخلاص أن المسيري يشايع وجهة النظر العَلمانية التي ينادي بها بعض الأصدقاء والزملاء المفتونين بالنموذج العَلماني الغربي الرامي إلى فصل الدين عن السلوك الحياتي جميعِه، وإن شئت فقل: فصل الإنسان عن روحه وقيمه وهويته الحضارية وكينونته ومصيره؛ إذ إنهم إنما يتحدَّثون عن فصل الديني عن السياسي بالكامل؛ وإن لم يعلن بعضهم عن ذلك صراحة، أو يدرك بعضهم الآخر مآل مناداته بالعَلمانية، أو تقبُّله لها نظاماً حاكماً في المجتمع المسلم، وهو ما لا يؤمن به المسيري شخصياً؛ بل هو ضدُّ قناعاته، ولكنه يحاول أن يقرِّب الشقَّة بين الاتجاهين المتضادين كما سلف القول

إنَّ المناداة بالصيغة العَلمانية لحل مشكلات مجتمعاتنا المسلمة حتى بصيغتها الجزئية لا بد أن تفضي - وإن لم يرِد المسيري ذلك - إلى أن يُقصَى جانب أو جوانب من جوهر الدين وليس (إجراءات السياسة وتقنياتها التنفيذية) من شؤون الدولة بشتى مجالاتها واختصاصاتها أو في بعضها، وهو لا يخرج عن ذلك المستوى الجوهري؛ سواء أكان ذلك سياسياً بالمعنى المباشر أم سياسياً بالمعنى غير المباشر؛ أي علاقة الدولة بالسياسة من حيث حاكميتُها على روح النظام السياسي وقوانينه في إطارها الداخلي والخارجي، أم من حيث جوانبُ الاجتماع والتربية والسلوك الأخلاقي والقيم المجتمعية والاقتصاد من حيث روحُها وفلسفتُها إلخ...

احترام التخصَّصات... ماذا يعني؟

أدركت أن المسيري رغم تشعبه في التفصيل، ومحاولته إيجاد فرص الالتقاء بين فريقي السياسة والدين: حريصٌ أكثر من أيِّ شيء على احترام التخصُّصات - وهذا ليس رأيه وحدَه في حقيقة الأمر - بحيث لا ينبغي أن يُحشَر علماء الدين في غير تخصُّصاتهم، دون أن يعني أن لا علاقة للدين - بوصفه مرجعية المجتمع - بالحاكمية على جوهر سياسة الدولة في شتى مجالاتها. وأحسب أن حرص المسيري على التمييز بين الإجراءات التنفيذية والعملية للدولة في جانبي الاقتصاد والسـياسـة: أمر لا يتعارض مع الإطار الفكري والمرجعي للاقتصاد والسياسة، عدا غيرهما من المجالات، وهنا يكمن الفرق الجوهري بين تبرير المسيري لطبيعة هذا الفصل، وبين آخرين يتبنون مسألة الفصل ذاتها، وليس أدلَّ على ذلك من كونه يؤكد على الجوانب الفنية أو الإجرائية في الجانبين الاقتصادي والسياسي، في الوقت نفسه الذي يؤكِّد فيه على عدم شمول ذلك الفلسفةَ والمضامين، ناهيك عن المجالات الأخرى تربوياً وأخلاقياً وقيمياً. ويعزز هذا الاعتقاد أكثر في فكر المسيري؛ أي أنه لا يؤمن بشمول العَلمانية الجزئية سوى للجـوانب الإجرائيـة في الاقتصـاد والسـياسية - على سبيل المثال - دون انفصال ذلك في نهاية المطاف عن الإطار المرجعي والقيمي، أقول: يعزز ذلك ما صرَّح به في حواره مع الدكتور عزيز العظمـة؛ إذ إنه بعد أن يستعرض جملة من التعريفات الخاصة ببعض الباحثين العرب (بصرف النظر عن مساحة الاتفاق أو الاختلاف معه حول رأيه الإيجابي في بعضها) يخلص بعدها إلى القول: «... والتعريفات السابقة للعلمانية لم تجعل منها رؤية شاملة للعالم، ولم تعطها صفة العالمية والشمول، كما قلَّصت من نطاقها لتشير إلى المجال السياسي وربما الاقتصادي، ولم تمتدَّ بأية حال لتشمل المجالات الأخرى للحياة، أو الجوانب النهائية (القيم الأخلاقية - القيم الدينية)، ومن ثَمَّ فهي لا تشمل كل جوانب الواقع، ولا كل تاريخ البشر، وتسمح بوجود حيِّز غير عَلماني (مطلق، كلِّي، نهائي، غائي، غير مادي) يسمح بانفصال الإنسان عن الطبيعة وبإمكانية تجاوزه لها، ويترك مجالاً واسعاً للمطْلَقات (الإنسانية والأخلاقية والدينية)، ولفكرة الجوهر والكليَّات؛ ولذا فهذه العَلمانية تتسم بقدر من الثنائية؛ (غير المادي مقابل المادي، الإنساني مقابل الطبيعي، المطلق مقابل النسبي، الأخلاقي مقابل غير الأخلاقي، الكلّي مقابل الجزئي، الثابت مقابل المتغيِّر)، كما تتسم بقدر من التعدُّدية الحقيقية ولا تتبنى النماذج الواحدية المادية الساذجة؛ فالرؤية المادية الحقة رؤية شاملة للكون (الطبيعة والإنسان)، لا تقبل التجزئة ولا الثنائية ولا التجريد، ولا تجاوز سطح الحركة الدائمة، بل ترى أن قانون المادة يسري على الإنسان ( في كل مجالات الحياة) سريانه على الأشياء والطبيعة»[7].

على الرغم من تأكيد الخلاف مع المسيري حول سلامة تقسيمه ودرجة انضباطه ودقة موضوعيته؛ إلا أن حديثه السـالف ينفي عنـه مطلقـاً ذلك المعنى الذي ينادي بفصـل كل ما هو ديني عن كل ما هو سياسي (إن صحَّ الوصف)، وأحسب أن ذلك كافٍ في كون المسيري لا يذهب ذلك المذهب الذي ينادي به من يتبنى مقولة (فصل الدين عن الدولة أو السياسة)؛ إذ إن حديثه السابق من أقوى الشواهد على أن ذلك عنده غير مراد ألبتة. بل لقد صرَّح في حوار آخر يُعَد من أحدث حواراته نسبياً بما لا يدع مجالاً للشك في رأيه المخالف للعََلمانية السائدة في الواقع - دعك من فرضياته المثالية أو أمنياته البعيدة بالنسبة لعَلمانية الآخرين - حين تحدَّث عن العَلمانية فقال: «إن هذا المصطلح لا بد أن يُفهَم في سياقه وتطوُّره التاريخي فهو عُرِف في القرن التاسع عشر على أنه فصل الدين عن الدولة، وكان ذلك حينما كانت الدولة كياناً صغيراً ترك رقعة الحياة العامة ومنظومة القيم والمرجعية النهائية للأفراد يحددونها حسب رؤيتهم؛ ولذلك فإن ما تم علمنته في هذا الإطار هو أجزاء معيَّنة من الحياة العامة التي يمكن أن نحصرها في بعض جوانب السياسة والاقتصاد وليس كلها. ونلاحظ أن هذا التعريف يلزم الصمت بخصوص الأخلاق والحياة الخاصة؛ ولذلك أميل للقول: إن هذا التعريف يعني فصل القيم الدينية عن بعض الإجراءات السياسية والاقتصادية وليس عن المرجعيات النهائية للمجتمع»[8].

 ويقول في تأكيد هذا المعنى في الحوار نفسه: «أنا كمفكر إسلامي لا أرى غضاضة في قبول ما أسميه العَلمانية الجزئية إن كان يعني بعض الإجراءات السياسية والاقتصادية ذات الطابع الفني، والتي لا تمس من قريب أو من بعيد المرجعية النهائية وهو ما أفهمه من حديثٍ لرسول صلى الله عليه وسلم: «أبِّروا أو لا تؤبروا.. أنتم أعلم بأمور دنياكم»[9]؛ أي أن الفصل هنا بين الدين والدنيا ينصرف إلى تفصيلة مادية محددة (تأبير النخل) ولا يمس المرجعية النهائية الدينية المتجاوزة لسطح المادة»[10].

وعن شعار إحدى أكبر الجماعات الإسلامية الشهير (الإسلام هو الحل) يعلن المسيري رأيَه المؤيِّد للشعار قائلاً إن: «شعار الإسلام هو الحل يجسِّد رؤية بعض المفكِّرين الذين يقودون تياراً سياسياً مهماً، يؤمن بأن المرجعية الإسلامية هي المجال أو الطريق لحلِّ مشاكل هذا المجتمع، وهو ما أتفقُ عليه معه؛ لأن أيَّ مجتمع لا بد أن يكون له مرجعية نهائية واحدة، ومن لم يكن له مرجعية نابعة من تراثه، فسيستورده من الآخر»[11].

وصفوة القول هنا: إن رؤى المسيري وأطاريحه الإجمالية والتفصيلية في أكثر من دراسة وكتاب وحوار ومحاضرة ونحو ذلك؛ تجعله أبعد ما يكون عن فكرٍ عَلماني يفصل الدين عن الحياة، أو المعتقد عن السلوك، بل إن أطاريحه الأخرى في ما يتصل بالمرأة والطفولة، وأصالة المعرفة وهويتها ووقوع التحيُّز العَلماني فيها، والإنسان، والقيم، والكون ونحو ذلك، التي برز بعضها في تحريره لكتاب (إشكالية التحيُّز) - على سبيل المثال - ومقدِّمته الضافية له، التي احتلت الجزء الأول بكامله، علاوة على بحثه الخاص في الكتاب، الذي ضمَّنه بعض صفحات الجزء الخاص بالتحيُّز في الأدب والنقد؛ كل ذلك ليجعل منه مفكِّراً موحِّداً مؤمناً بشمول الفكر الإسلامي لكل قضايا الإنسان والكون والمعرفة والقيم ونظم المجتمع.

جوهر المفارقة:

وهنا يكمن جوهر المفارقة؛ إذ كيف يستقيم الجمع بين ذلك الموقف الواضح للمسيري وبين تلمُّسه المبرِّرات والتأويلات (المتعسِّفة) لبعض رموز المدرسة العَلمانية المتطرِّفة أمثال: حسين أحمد أمين، وفؤاد زكريا، ومحمود أمين العالم، ومحمَّد رضا محرَّم، بوصف هؤلاء على نحو أو آخر لا يزالون في إطار العَلمانية الجزئية[12]؛ وذلك لَعَمرُ الله ضرب من الأمنيات البعيدة أو الخيال العجيب! ولست أدري سرَّ قسوته بعد ذلك على مراد وهبة؛ حيث وصفـه من بين آخـرين بـ (العَلماني الكلِّي)؛ إذ لو أعمل المسيري منهج (التبرير) أو (الاعتذار) الذي لا ندري ضـابطاً موضـوعياً له؛ لألفـى مقولة مَّا تدرأ عنـه ذلك الوصـم بـ (العَلمانية الكليَّة)، لكني أزعم أني أدركت جانباً من السرِّ (وأرجو - قارئي العزيز - أن تحاول معي إدراك ذلك)، وذلك في قول المسيري بعد إخراج وهبة من دائرة (العَلمانين الجزئيين) بسبب مقولته عن العَلمانية: «هي المسار الإنساني في حضارتنا» فيعلِّق المسيري «أي: حضارة كل البشر، في كل زمان ومكان، (هل العولمة والعَلمانية هما الشيء نفسه؟) ومن هذا المنظور قام ( أي مراد وهبه) بالدِّفاع عن التطبيع مع إسرائيل، (ألسنا حضارة مادية واحدة؟)، كما قام بتأييد تحـالف كوبنهاغن بقوله: «إن ما دفعه هذا [هكذا في المصدر وربما الأدق هو] إيمانه بفلسفة التنوير القائلة: إنَّه «لا سلطان على العقل إلا العقل وحده»، (وهذا هو أحد تعريفاته للعلمانية[13].

والآن هل أدركت معيقارئي العزيز- جانباً من ذلك السرِّ المتمثِّل في الموقف السياسي لوهبة من الكيان الصهيوني قبل أي عامل آخر، أمَّ أن ذلك انعكاس مباشر بالضرورة لمفهومه للعَلمانية (الكليِّة) المتمثِّلة في افتراض العولمة والعَلمانية شيئاً مترادفاً أو واحداً؟ أو في كون وهبة يعتقد - بناءً على مفهومه للعلمانية - أننا والصهاينة المحتلين حضارة مادية واحدة؟ ناهيك عن المقولة التي تكاد تجمع عدداً ممن يعدُّهم المسيري من ذوي العَلمانية الجزئية. ورحمك الله أيها المفكِّر العظيم! هل كنت جادّاً في جعل هذه المقولة: «لا سلطان على العقل إلا العقل» السبب الحقيقي في إخراج الفيلسوف وهبة من الدائرة الجزئية إلى الكلِّية؟ دون أن ينطبق الشيء نفسه على الفيلسوفين الآخرين: محمود أمين العالم وفؤاد زكريا، اللذين اشتهرا بمناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني بكل قوة وصلابة وثبات، ولكن - مع كل التقدير لهما - ليس ذلك مؤهلاً وحدَه للبقاء في دائرة العَلمانية الجزئية، تماماً كما أنَّ الموقف المغاير لا يستأهل أن يكون سبباً وحيداً أو كافياً كذلك في الزجِّ بصاحب الموقف في أتون العَلمانية الشاملة وإقصائه من الأولى، وكل ذلك بحسب التقسيم الخاص بالمسيري.

اعذرني قارئي العزيز! إن أنا - على غير عادتي في منهجية التوثيق - أعرضت عن ذكر الأدلة والشواهد على مصداق زعمي في كون الأمر لا يختلف لدى العالم وزكريا، في مسألة مرجعية العقل (المطلقة)، وأزعم أن كل من درس مقرَّراً على يدي أيٍّ من الفيلسوفين، أو قرأ ولو مقالة ذات علاقة لأيٍّ منهما يدرك بلا لبس أن مقولة: إن المرجعية النهائية للعقل (وليس للوحي) قاسم مشترك بين ثلاثتهم بوجه خاص. بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك، إذا ما ذكَّرت بأنه حتى بعض من يردِّد مقولة (فصل الدين عن الدولة)، على نحو من الفصل التام بين السياسة والدين، (وليس الفصل الإجرائي الذي لا يكاد يوجد إلا في أمنية الفيلسوف المسيري وخياله) لا يعدُّ الوحيَ المرجعَ النهائي من خصائص الفكر؛ إذ لو كان يعدُّه كذلك لما وسعه إلا التسليم بنصوص الوحي ذات الصلة بمجالات الحياة المتنوعة، وتلك أبرز السمات الأبجدية في الاتجاه العَلماني بكلِّ مكوِّناته ومدارسه.

 لزوم ما لا يلزم:

وفي الأخير استوقفني حديث المفكِّر المسيري عن الموقف مما يصفه بـ (العَلمانية الجزئية)؛ حيث يبدي تفهُّماً لها، وتقبُّلاً للمنادين بها، وهذا ما لم يعد جديداً بعد كل ما تقدَّم؛ بيد أن الجديد المثير هو أن يستشهد المسيري ببعض رموز مدرسة الوسطية الإسلامية أمثال: فهمي هويدي، ويوسف القرضاوي، وأحمد العسَّال، ومحمد سليم العوا، وعبد الغفار عزيز، وسيف عبد الفتَّاح، وراشد الغنوشي، وطه العلواني، وعبد الحميد أبو سليمان، ومدرسة المعهد العالمي للفكر الإسلامي وسواهم على موقفهم من العَلمانيين الجزئيين حسب وصفه، من حيث قبول التعايش معهم، وعدُّهم جزءاً أساساً من أبناء الوطن الواحد[14]، ولم أدرك حتى اللحظة وجه العلاقة العضوي بين الاختلاف مع مفهوم العَلمانية واتجاه المؤمنين بها بشقيها - وهو المشكل الحقيقي في أطروحة المسيري لدى كل من جاء على ذكر أسمائهم حسب متابعتي لأطاريحهم، وفي مقدِّمتهم رمز الوسطية المعاصرة ورائدها الإمام يوسف القرضاوي - وبين الموقف الشخصي أو الجماعي ممن يحملون تلك الآراء بشقيها الجزئي والكلِّي.

بتعبير أكثر وضوحاً: ما وجه الربط بين مسألتين لا تلازم بينهما - حسب اعتقادي -: الأولى: مفهوم العَلمانية ودلالاته وانعكاساته الفكرية والعملية، والأخرى: الموقف من المؤمنين بالعَلمانية بقسميها؟

وبالمناسبة فإن صاحب هذه السطور - ويزعم أنَّه لا يختلف في موقفه هذا مع المثقفين الإسلاميين كافة ومن وردت أسماؤهم آنفاً بوجه أخص - يتبنَّى الموقف الرافض للمفهومين، وما ينبني عليهما من دلالات فكرية وانعكاسات عملية؛ لكن ذلك لا يستلزم موقفاً مماثلاً من حيث مبدأُ القَبول بالتعايش مع المؤمنين بالعَلمانية، بقسميها - حسب المسيري - وعدِّهم جزءاً من النسيج الاجتماعي والمكوِّن الوطني؛ فذلك موقف مستقل، والآخر موقف مستقلٌّ كذلك، ولا يستلزم أيٌّ منهما الإيمان بالآخر، لا ضرورة ولا تبعاً. ومن ثَمَّ فالربط بينهما تعسفي ومندرج تحت قاعدة (لزوم ما لا يلزم).

مرة أخرى ما كان لهذا الجدل أن يثور لو لم يكن المفكر المسيري على تلك الدرجة من الأهمية والتأثير.

 


[1] المسيري، العَلمانية تحت المجهر (حوار بين المسيري وعزيز العظمة)، 1421هـ - 2000م، الطبعة الأولى، دمشق: دار الفكر - بيروت: دار الفكر المعاصر، ص 119 - 120.
[2] المرجع السابق، ص 120.
[3] راجع: محمد إبراهيم مبروك، نقد مفهوم العَلمانية الجزئية والشاملة عند الدكتور عبد الوهاب المسيري، نُشِر في مجلة البيان - السعودية، وأعيد نشره في موقع إخوان نت. http://www.ikhwan.net/forum/showthread.php?7127
[4] محمد إبراهيم مبروك، المرجع السابق.
[5] راجع رأيه المفصََّل بهذا الخصوص في حواره في: العَلمانية تحت المجهر، مرجع سابق.
[6] حوار مع عبد الوهاب المسيري، (أجراه في القاهرة رجب الدمنهوري)، مجلة نوافذ(صنعاء)، العدد الثاني، سبتمبر 1997م، ص 20 - 21، وانظر: تأكيد ذلك التعريف في العَلمانية تحت المجهر للمسيري، مرجع سابق، ص 119 - 122.
[7] المسيري، العَلمانية تحت المجهر، مرجع سابق، ص 65.
[8] حوار مع عبد الوهاب المسيري، (أجراه في القاهرة حسام تمام، حول التدين والتفسير العَلماني)، موقع إسلام أون لاين،15/1/2006م.
[9] أخرج الشيخان في صحيحيهما عن عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يلقحون، فقال: لو لم تفلعوا لصلح. قال: فخرج شيصاً. فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت: كذا وكذا. قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم»، الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم، لمحمد بن فتوح الحميدي، دار ابن حزم - بيروت، 1423هـ - 2002م الطبعة الثانية، تحقيق د. علي حسين البواب. والشيص: التمر الذي لا يشتد نواه ويقوى. وقد لا يكون له نوى أصلاً. ^
[10] حوار مع عبد الوهاب المسيري (أجراه في القاهرة حسام تمام، حول التدين والتفسير العَلماني)، موقع إسلام أونلاين، 15/1/2006م.
[11] المرجع السابق.
[12] المسيري، العَلمانية تحت المجهر، مرجع سابق، ص 64 - 69.
[13] المسيري، المرجع السابق، 69 - 70.
[14] المسيري، العَلمانية تحت المجهر، مرجع سابق، ص 146 - 149.
 

 

أعلى