• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الوفاء شيمة الأصفياء

الوفاء شيمة الأصفياء


من البداهات المسلَّمة أن الإنسان لا يستطيع البقاء في دنيا الناس إلا بمخالطتهم، وأن الدنيا تتقلب بأهلها؛ فهذا صحيحٌ أمسى عليلاً، وذاك غني صار فقيراً، ورُبَّ قوي أصبح ضعيفاً، وكم من عزيز صار مهيناً، ومن ثَمَّ فلا يمكن للناس أن يتخالطوا إلا بمراعاة بعض الصفات، ومن أهمها خُلُق الوفاء؛ وإلا ضاعت الثقة، وفسدت الحياة، لا سيما في هذا الزمان الذي طغت فيه المادة حتى سيطرت على الروح، وفشا فيه خُلْف العهد والوعد، وذاع نكران المعروف؛ فلا الجميل يُذكَر، ولا الإحسان يُشكَر.

والوفاء أبرز كنوز الأخلاق الإسلامية، ومن صفات النفوس الحرة الأبية، ومن لوازم القلوب الصافية النقية، وهو حفظ للعهد والوعد، واعتراف بالجميل، وشكر للمعروف، وهو نقيض الغدر والخيانة والنكران، وإذا كان الناس معادن كمعادن الذهب والفضة؛ فإن خُلُق الوفاء من أقوى الدلائل على شرف المعدن وطيب الأصل، كما أنه برهـان ناصع علـى صـدق وإنصاف صاحبه، ولـمَّــا كان الوفاء بهذا الوصف فقد أضحى عزيزاً، لا يتسم به إلا الأصفياء من الناس، ولذا ضربت العرب المثل بالوفاء في القِلة، فقالوا: هو أعز من الوفاء.

فضائل الوفاء ومثالب الغدر:

حقيق بأمة الإسلام أن تسبق في حفظ وعودها ومواعيدها، فنحن أحق من غيرنا بذلك وأجدر، وكيف لا وقد حفلت نصوص القرآن والسنة بالأوامر الصريحة في حفظ العهد والوعد، والوفاء بهما، وتُرَغِّب المسلمين في ذلك أشد التـرغيب، وتُحـذِّرهم مــن مغبــة الخُلْف والغدر، ومن ذلك أن الله - عز وجل - امتدح الوفاء في آيات كثيـرة؛ ففـي عـداد أهل البـر الصادقين المتقـين قال - تعالى -: {وَالْـمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]، وبيَّن - سبحانه وتعالى - أن الأوفياء هم أولى الناس بمضاعفة الثواب فقال: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 10]، وفي صفات الأبرار الذين يشربون من كؤوس الجنة قال - تعالى -: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان: ٧].

ورغَّب النبي صلى الله عليه وسلم  في الوفاء ترغيباً عظيماً في أحاديث كثيرة، حتى إنه ضَمن الجنة لمن حقق في نفسه ست خصال، منها: الوفاء بالوعد[1].

وقد جاء التحذير من الغدر في الوحيين؛ لأن الغدر يجمع كثيراً من المثالب والمعايب؛ فهو فرع من الكذب والخداع، وتعبير عن ضعف الإرادة، وعدم احترام شرف الكلمة، ولذا فإنه ينحطُّ بصاحبه إلى دركات النفاق، وصدق ربنا إذ يقول: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ} [التوبة: ٧٧]، وقال صلى الله عليه وسلم : «أربع خلالٍ من كن فيه كان منافقاً خالصاً» وعدَّ منها: «إذا عاهد غدر»[2].

كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم  من بشاعة وشؤم مصير الغادر الذي تجرد من الوفاء، فقال صلى الله عليه وسلم : «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يُرفَع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان»[3]، وما أشنع هذا المصير الذي يلقاه الغادر، وقد كان العرب يرفعون للوفاء راية بيضاء، ليشهروا الوفي، فيعظموه، ويمدحوه، ويرفعون للغدر راية سوداء، فيذموه، ويلوموه، ومقتضى هذا الحديث: أن الغادر يُفعَل به مثل ذلك في الآخرة؛ ليشهر بالخيانة والغدر، فيذمَّه أهل الموقف[4].

وفي صورة أخرى من صور التنفير من عدم الوفاء يوضح النبي صلى الله عليه وسلم  أن كفران العشير، وجحود المعروف، يفضي إلى النار، حيث قـال صلى الله عليه وسلم : «أُرِيتُ النـار فـإذا أكثر أهلهـا النسـاء، يكفـرن» قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، ويكفـرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط»[5].

وما أجمل قول الشاعر:

 إن الوفاء على الكريم فريضة

واللؤم مقرون بذي الإخلاف

وترى الكريم لمن يعاشر منصفاً

وترى اللئيم مجانب الإنصاف

أنواع الوفاء:

وأعظم الوفاء ما كان مع الله تعالى، الذي خلقنا من عدم، وربَّانا بالنعم، وكرَّمنا وفضَّلنا تفضيلاً، والوفاء معه - عز وجل - يكون بالقيام بعبادته، والحرص على طاعته، والتزام أمره ونهيه، وقد جاءت امرأة من جهينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «نعم! حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنت قاضية؟ اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء»[6].

ومِن أرقى الوفاء وأزكاه ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي جعله الله - تعالى - سبباً في هداية الناس من الضلالة، وإنقاذهم من الجهالة، وإخراجهم من الظلمات إلى النور. والوفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم  يكون بالدفاع عنه ضد شانئيه، والذود عن سنته، واتباع هديه، والتخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم .

ومن أجمل الوفاء ما يكون للوالدين والزوجة والأرحام، وذلك ببرهم والتغافل عن أخطائهم، ومن الوفاء ما يكون لسائر الخلق، مؤمِنهم وكافِرهم، في عقود المعاملات، وغيرها، وقد أمر الله - تعالى - بذلك كله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: ١]، وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} [الإسراء: 34].

ومن أنبل الوفاء ما يكون مع أهل الفضل والعطاء، كوفاء الإنسان لمن أسدى إليه معروفاً، أو حجب عنه مكروهاً، أو كان سبباً في تحصيله شيئاً من خيري الدنيا والآخرة، فإن الوفاء في مثل هذه الأحوال اعتراف بالجميل ومجافاة لنكران الماضي، وبُعدٌ عن جحد الإحسان والعطاء، ولذا كان من العلامات التي يُعرَف بها الوفي - كما ذكر الأصمعي -: حنينه إلى أوطانه، وتشوقه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه[7].

وقد ضرب سلفنا الصالح أروع الأمثال في هذا المضمار، ومن ذلك: وفاء أبي حنيفة لشيخه حمَّاد بن أبي سليمان حيث قال: «ما صليت صلاة منذ مات حماد إلا استغفرت له مع والديَّ، وإني لأستغفر لمن تعلمت منه علماً أو علمته علماً»[8]، وكان الإمام أحمد بن حنبل يكثر من الدعاء لأستاذه الشافعي، فيقول: «إني لأدعو الله للشافعي في صلاتي منذ أربعين سنة، أقول: اللهم اغفر لي ولوالديَّ ولمحمد بن إدريس الشافعي»، ولما سأله ابنه عن سبب دعائه قال: «يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف، أو عوض؟»[9].

خاتم الأنبياء إمام الأوفياء:

بلغ النبيُّ صلى الله عليه وسلم  الذروة العليا في الأخلاق السامية كلها، ومن ثَمَّ فلا غرو أن يضرب المثل الأعلى للبشرية قاطبة في خلق الوفاء؛ إذ وفَّى لزوجته خديجة - رضي الله عنها - بعد موتها أعظم الوفاء قولاً وعملاً؛ حيث كان يثني عليها إذا ذكرها، ويحسن الثناء، فغارت عائشة - رضي الله عنها - يوماً، فقالت: «ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق - أي: عجوز سقطت أسنانها من الكبَر ولم يبق في فمها إلا حمرة اللثة - قد أبدلك الله - عز وجل - بها خيراً منها»، فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم  منها تلك المقالة في حق خديجة بعد موتها، ورغم أن عائشة - رضي الله عنها - كانت أحب زوجاته إليه، إلا أنه ردَّ عليها كلامها، وقال في حق خديجة - رضي الله عنها - كلاماً يقطر بالوفاء والمحبة والشوق، وهو نبراس لكل منصف يفي بحق زوجته؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم : «ما أبدلني الله - عز وجل - خيراً منها؛ قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني  بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله - عز وجل - ولدها إذ حرمني أولاد النساء»[10]، ولم يقف وفاؤه لها عند الثناء العطر فقط؛ بل كان إذا ذبح الشاة قطَّعها أعضاء، ثم يبعثها في صديقات خديجة[11].

وقد حفلت سيرته بأروع الأمثلة في الوفاء مع كل من تعامل معه؛ فقد اقترض أربعين ألفاً فلما جاءه مال وفَّى دَينه، ثم قال لمقرضه كلمة ترسم معالم الخلق القويم في شكر الجميل، والوفاء بالمعروف، حيث قال صلى الله عليه وسلم : «بارك الله لك في أهلك ومالك، إنما جزاء السلف الحمد والأداء»[12]

وبلغ وفاؤه صلى الله عليه وسلم  المنزلة العليا حتى إنه وفَّى مع الكفار، ولم ينقض لهم عهداً، فقد وفَّى معهم في بدر حيث خرج حذيفة وأبوه من مكة فأخذهما كفار قريش، فقالوا: إنكما تريدان محمداً، فقالا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا عليهما عهد الله وميثاقه لينصرفن إلى المدينة، ولا يقاتلان مع محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما قدما على النبي صلى الله عليه وسلم  وأخبراه الخبر، قال صلى الله عليه وسلم : «انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم»[13].

وهذا موقف آخر في صلح الحديبية حيث جاءه أبو جندل مسلماً بعد الصلح فردَّه وفاء بالعهد، وحثه على الصبر وبشره بأن الله جاعلٌ له ولمن معه من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، ثم قال كلمته الوضيئة: «إنا قد صالحنا هؤلاء القوم، وجرى بيننا وبينهم العهد، وإنا لا نغدر»[14].

وحتى تظل سيرته زكية نقية لا يشوبها شيء من كدر عدم الوفاء؛ فقد حرص الصحابة على الوفاء بوعود النبي صلى الله عليه وسلم  التي وعدها ومات قبل وفائها؛ فقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم  جابر - رضي الله عنه - أن يعطيه من مال البحرين إذا جاء، فلم يقدم المال حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر أبو بكر منادياً فنادى مَن كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم  عِدَة أو دين، فليأتنا، قال جابر: «فأتيته، فقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم  وعدني، فحثا لي ثلاثاً»[15].

وهذا عمر - رضي الله عنه - يفي بوعد النبي صلى الله عليه وسلم  لسراقة بن مالك رضي الله عنه بسواري كسرى، حيث فُتحَت المدائن في خلافته فنادى سراقةَ وألبسه إياهما وفاء بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم [16].

وهكذا بقيت سيرته صلى الله عليه وسلم  منارة للوفاء، وقدوة للأوفياء، ولم تدنس بجحود أو غدر، فما أحرى أمتنا أن تقتفي آثار سيد الأنبياء وأن ترفع في العالمين لواء الوفاء.


 


[1] ابن حبان (271)، والحاكم (8066)، وصححه.

[2] البخاري (3178)، ومسلم (58).

[3] البخاري (6177)، ومسلم (1735) واللفظ له.

[4] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (3/ 520)، دار ابن كثير، دمشق، ط. الأولى.

[5] البخاري (29)، ومسلم (907).

[6] البخاري (1852).

[7] الآداب الشرعية لابن مفلح 3/ 563، عالم الكتب.

[8] تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (13/ 334)، دار الكتب العلمية، بيروت.

[9] مناقب الشافعي للبيهقي (2/ 254)، دار التراث، القاهرة، صفة الصفوة لابن الجوزي (1/ 435)، دار الحديث، القاهرة.

[10] البخاري (3821)، ومسلم (2437)، وأحمد (24864) واللفظ له.

[11] البخاري (3818)، ومسلم (2435).

[12] النسائي (4683)، وابن ماجة  (2424)، وحسنه العراقي في تخريج الإحياء.

[13] مسلم (1787).

[14] أحمد (18910)، والبيهقي في الكبرى (18831)، وأصله في البخاري (4180).

[15] البخاري (2598)، ومسلم (2314).

[16] الاستيعاب لابن عبد البر (2/ 581)، دار الجيل، بيروت.

 

  

أعلى