العلاقة الوثيقة بين حملة عرش الرحمن والمؤمنين
لا تدور المعركة بين الحق والباطل على الأرض وحدها، ولا يعبر انتفاش الباطل وجرأته،
وتراجع أهل الحق وانكسارهم عن كل ما في مشهد الصراع؛ فثمة جوانب لا يطلع عليها إلا
العارفون الصالحون، الذين لا يحجب عنهم احتشاد الباطل وسطوته وطغيانه رؤية خضوع هذا
الكون كله لله، وتناغم مخلوقاته جميعها في سياق واحد من العبادة والتسبيح والتحميد
والتهليل لخالق الأرض والسماوات.
وبعيداً عن ضجيج الحياة، ووهدة الآلام، ومذلة الانكسار، يُرى في مشهد علوي جليل
اصطفاف مخلوقات متباعدة في الخلقة والتكوين، متحدة في سباحتها في عالم العبادة
واللجوء لله سبحانه وتعالى والأنس بطاعته.
مشهد عظيم، ووشيجة مبهرة تجمع بين حملة عرش الرحمن والمؤمنين، تصل إلى حد دعاء حملة
العرش للمؤمنين، وإشهاد أهل الإيمان للملائكة العظام على خير الشهادات السامية.
في الأرض، ومع انبلاج الفجر أو غشيان الليل، يصدح المؤمنون بأعظم الذكر، ذكر
التوحيد، ويستشهدون عليه خالق الأكوان، وحملة عرش الرحمن، جميع الملائكة، وجميع
الخلق، إنسهم وجنهم، عقلاءهم وجمادهم، يقولون بكل عزة لا يعرفها أهل الدنيا، ولا
يرتقي إليها الظالمون الطاغون الجاحدون، يقولون كما علمهم صلى الله عليه وسلم
ووعدهم بالعتق من النار إن قالوها صباحاً أو مساءً أربعاً:
«اللهم
إني أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك، وملائكتك وجميع خلقك، أنك أنت الله لا إله إلا
أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك».
أمر مبهر أن تخاطب الله، وأعظم ملائكته، كل صباح ومساء، وأمر عظيم أن تعلم أن حملة
العرش يشاطرونك تلك الثقة، ويبذلون لك النصح من فوق سبع سماوات، وسيأخذ لبك أن تعلم
أنهم يساندونك، ويقفون بصفك في رضاء: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ
لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ
لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْـجَحِيمِ 7
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ
آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْـحَكِيمُ
8 وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ
وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: ٧ - ٩].
هذا النصح وذاك الرضا الذي أشار إليه مطرف بن الشخير حين قال:
«وجدنا
أنصح العباد للعباد الملائكة، وأغش العباد للعباد الشياطين، وتلا هذه الآية»،
وعلق أبو حيان الغرناطي على ذلك بأنه
«ينبغي
أن يقال: أنصح العباد للعباد الأنبياء والملائكة».
ويقول الألوسي في تفسير الآية:
«قوله
تعالى: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75] مسوق لتسلية رسول
الله صلى الله عليه وسلم ببيان أن الملائكة الذين هم في المحل الأعلى مثابرون على
ولاية من معه من المؤمنين ونصرتهم واستدعاء ما يسعدهم في الدارين، أي ينزهونه تعالى
عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل... ملتبسين بحمده جل شأنه على نعمائه التي لا تتناهى».
وهذا تشريف ما بعده تشريف لأهل الإيمان أن ينبري حملة العرش للاستغفار للمؤمنين في
الأرض، والدعاء لهم، على النحو الذي أوضحته الآيات، يقول الزمخشري:
«وقد
روعي التناسب في قوله {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا} [غافر: ٧] كأنه قيل: ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم،
وفيه تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة وأبعثه
على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن، فإنه لا تجانس بين ملك
وإنسان، ولا بين سماوي وأرضى قط. ثم لما جاء جامع الإيمان جاء معه التجانس الكلى
والتناسب الحقيقي حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض».
إنه أمر جدير بأن يثبت أهل الإيمان ويربط على قلوبهم، ويسمو بهم أعلى بكثير من
أعدائهم الكفار الذين يناصبونهم العداء، وإن اختلفت موازين القوى على الأرض، فإن
للمؤمنين مزايا لا يرتقي إليها أبداً أحد سواهم على وجه الأرض، ولقد جعل الله لهم
منهم هذه المزية العظيمة، والتي تجعل من الاستغفار للمؤمنين والدعاء لهم مهمة من
تلك المهام الواقعة على هؤلاء الملائكة العظام، يقول القاسمي في تفسيره:
«وفي
نظم استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم، من تسبيحهم، وتحميدهم، وإيمانهم،
إيذان بكمال اعتنائهم به، وإشعار بوقوعه عند الله تعالى في موقع القبول»،
وهو تكريم كبير للمؤمنين، يقول عنه ابن عطية:
«أخبر
تعالى بخبر يتضمن تشريف المؤمنين ويعظم الرجاء لهم، وهو أن الملائكة الحاملين للعرش
والذين حول العرش - وهم أفضل الملائكة - يستغفرون للمؤمنين، ويسألون الله تبارك
وتعالى لهم الجنة والرحمة، وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية: {كَانَ عَلَى
رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولًا} [الفرقان: 16]، أي: سألته الملائكة».
وعلى المعنى ذاته يؤكد النحاس في إعراب القرآن:
«ويستغفرون
للذين آمنوا وقد غفر لهم لأن الله يحب ذلك فهم مطيعون لله بذلك».
وهؤلاء الملائكة هم الأعظم في عموم الملائكة، وأكثرهم شرفاً ورفعة، كونهم يحملون
عرش الرحمن، وخلقهم عظيم كذلك، يكفي أن يتأمله المرء من خلال حديث جابر رضي الله
عنه والذي رواه أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«أذن
لي أن أحدث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمئة عام»،
قال ابن حجر في الفتح: إسناده على شرط الصحيح.
بهذه العظمة، وتلك الهيئة، وبهذا الشرف، يستغفر، ويدعو حملة العرش للمؤمنين، وبهذا
القدر، وبجلال كلمة التوحيد، يُشهد المؤمنون حملة العرش على:
«أنك
أنت الله لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك».
هي إذن علاقة علوية سامقة، بسمو الإيمان الذي يجمع حملة العرش ويربطهم بوشيجة رفيعة
المستوى لا يقاربها أحد من أهل الأرض مهما ظن أن المال أو الجاه أو السلطان قد حيز
له، فكساه بشرف زائف. إنه الإيمان الجامع بين أهل الإيمان عند العرش وفوق الأرض:
{وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: ٧]، فكما
الإيمان يربط بين المؤمنين في الأرض باختلاف قومياتهم وألوانهم وشعوبهم ومناطقهم؛
فهو يربط بينهم كذلك، وجموع المؤمنين في السماء، بل وأهل الشرف والعزة الفوقية من
حملة عرش الرحمن.
وقد يجد المؤمن أن حركة الواقع لا تسير بصالحه، وأن الأمم قد تداعت على أمته،
وأعداؤها قد طوقوا رقبتها، وأن السبل قد تقطعت والأسباب قد تراخت وستائر الريادة قد
بليت، فقد يتسلل إليه اليأس والإحباط، لكن حينما تتجلى أمامه أبعاد أخرى لهذا
الصراع، ويدرك أن الاختبار ليس مقصوراً على هذه الدنيا الفانية، وحين يستشعر معية
الله، ويلمس هذا الرباط الطويل الممتد المخترق في سموه طبقات السماوات العلى،
الرباط الفريد بينه وبين حملة العرش العظام، يرى المشهد بصورة مغايرة تماماً وتنبلج
أمامه كل الحقائق الغائبات؛ فينبعث الأمل في نفسه مجدداً، ويبارحه ألم الطريق،
وتذهب عنه أشواكه وتحل أشواقه.
دون المؤمن من تهده المصاعب والعراقيل والمصائب لأن عينه محكومة بتراب الأرض
ومسالكها، لكن المؤمن يرى ما لا يراه غيره؛ فلا تزده الابتلاءات إلا مزيداً من
الإيمان والاطمئنان؛ فإن انقطعت به السبل لم تبارحه مساندة أهل السماء، حملة العرش
من فوق سبع سماوات يستغفرون له، ويشاطرونه محبة الرحمن سائرين سوياً في طريق
الإيمان لا يوقفهم أحد حتى يصل المؤمنون إلى بر الأمان.. إلى جنة عرضها السماوات
والأرض.