الاحتلال الفرنسي للجزائر والاستقلال الضائع
وأنت تقرأ هذه الحكاية ستعتريك مشاعر متناقضة متضاربة، ففيها يمتزج الشعور بالحزن والألم والرثاء، بالشعور بالفخر والإعجاب والثناء، بالشعور بالأسف والمرارة والعزاء.. إنها حكاية شعب الجزائر المسلم، محتلاً، ومقاوماً، ومغدوراً به، وذلك منذ بداية الاحتلال الفرنسي سنة 1830م، وحتى اليوم. وإليكم ملخص الحكاية:
أولاً: أسباب الغزو الفرنسي للجزائر:
إن الباحث عند دراسته للغزو الفرنسي للجزائر، سيجد أن وراءه مجموعة من الأسباب المتداخلة، أهمها:
الأسباب التاريخية والدينية: وهي تأتي في مقدمة كل الأسباب، بل إن ما عداها تبع لها، ففرنسا لم تنسَ عداوتها القديمة للإسلام، عندما غزاها المسلمون وقادوا الحملات العسكرية لفتحها في النصف الأول من القرن الثامن الميلادي، منطلقين من شمال إفريقيا والأندلس، وهي الفتوحات التي لا تزال حية في ذاكرة الفرنسيين بشكل خاص، والأوربيين بشكل عام، حتى يوم الناس هذا، وكل حوادث التاريخ القديم، التي كان فيها المسلمون فاعلاً، وهم مفعولاً به، لم ينسوها قط، فكيف بحوادث التاريخ الحديث والمعاصر؟ ففرنسا لم تغفر للجزائر تحالفها الوثيق، مع دولة الخلافة العثمانية، خلال القرون الثلاثة السابقة لغزوها، وما شكله ذلك التحالف من مصدر قوة للإسلام، مكن المسلمين من احتواء الخطر الأوربي الصليبي ضد الإسلام، والذي انبعث مجدداً وبكل قوة وشراسة وعنف مع عصر النهضة الأوربية وطرد المسلمين من الأندلس بعد سقوط غرناطة عام 1492م، فكان ذلك التحالف من أهم العوامل للتصدي لغارات الأساطيل الصليبية على سواحل شمال إفريقيا، وتلقينها الهزيمة تلو الهزيمة، ومن ضمن تلك الأساطيل، الأساطيل الفرنسية بطبيعة الحال. وفرنسا أيضاً لم تغفر للجزائر تلك الغارات المزلزلة التي قامت بها الأساطيل الإسلامية على الموانئ الفرنسية، انطلاقاً من موانئ الجزائر وتونس في تلك الفترة ذاتها، تحت قيادة القائدين البحريين الكبيرين، بربروسا وعروج باشا، واللذين كان اسمهما يبث الرعب في قلوب الأوربيين، وبخاصة الفرنسيين، وما كانت تمثله تلك الغارات البحرية من تهديد إستراتيجي على فرنسا، بل وعلى سائر أوربا. وفرنسا كذلك لم تنسَ للجزائر، حين كانت هذه الأخيرة إيالة عثمانية، بسط سيطرتها على البحر المتوسط، وكيف أن مرور الأساطيل التجارية الفرنسية في عرض هذا البحر لم يكن يحدث إلا بإذن من السلطات الجزائرية المسلمة، وبعد دفع الإتاوة المقررة.
الأسباب الاقتصادية والسياسية: الجزائر بلد زراعي من الدرجة الأولى، وبه أراض زراعية خصبة، كان يسيل عليها لعاب السلطات الفرنسية، لاسيما وأن الفرنسيين كانوا أساساً عالة على إنتاجها من الحبوب، فقد كانت فرنسا تستورد حاجتها من الحبوب من فائض إنتاج الجزائر من تلك الحبوب، ولهذا السبب فكرت في غزوها عسكرياً واحتلالها، للسيطرة على تلك الموارد الزراعية، ولكي تكون أيضاً سوقاً لتصريف منتجاتها الصناعية، وفي نفس الوقت مركزاً للحصول على المواد الخام، لاسيما بعد انكشاف السواحل الجزائرية نتيجة لتدمير أسطولها في معركة «نافارين» إلى جانب الأسطول العثماني ضد أساطيل بريطانيا وفرنسا وروسيا. هذا فضلاً عما سيترتب على ذلك الاحتلال من إشباع روح الغزو لدى الجيش الفرنسي الذي غرسه فيه الطاغية نابليون بونابرت (1767-1821م)، وتوسيع رقعة الإمبراطورية الفرنسية، وذلك بعد الاستحواذ على هذا البلد البكر (القارة).
الأسباب العنصرية والقومية: كان الفرنسيون الذين يزايدون بكونهم ورثة حضارة الإمبراطورية الرومانية، سيدة العالم في العصور القديمة كما يزعمون، والمعروفون أيضاً بغرورهم واستعلائهم، كانوا يشعرون بالعار، كون الحاجة اضطرتهم للاستدانة من الجزائر في عهد الباي، من النقد الذهبي، ومن الحبوب أيضاً، وبصفة خاصة خلال المجاعة التي اجتاحت فرنسا بعد ثورة 1789م، فالجزائر بلد إسلامي عربي، وكانوا يرونه أقل رقياً وحضارة منهم، ومن ثم كانوا يأنفون من كونهم يمدون أيديهم إليه، وكانوا يشعرون لفرط استعلائهم ولنزعتي الأنانية والجشع في نفوسهم أنهم أولى من الباي ومن الجزائريين المسلمين بالموارد الاقتصادية التي تزخر بها الجزائر، لاسيما بعد تفجر الخلافات حول ديون فرنسا للجزائر بين السلطتين الجزائرية والفرنسية، هذه الأخيرة التي لم يكن لدى السلطات الفرنسية رغبة في سدادها، وذلك برغم اعترافها بتلك الديون وفقاً لاتفاقيات 1796م، 1801م، 1820م.
ثانياً: الغزو الفرنسي للجزائر وصراع الإرادات:
كانت تلك هي الأسباب الأساسية لطرح فرنسا موضوع الجزائر في مؤتمر فيينا (1814/1815م)، قبل أن يتفق المؤتمرون الأوربيون، على تحطيم هذه الدولة في مؤتمر «إكس لا شابيل» عام 1819م، وتخويل فرنسا باحتلال البلد، وقد استغلت فرنسا حادثة شروع الباي في ضرب القنصل الفرنسي بالمروحة، في أبريل 1827م، أثناء مناقشة مديونية فرنسا للجزائر، كذريعة للغزو، فحركت أساطيلها نحوها سنة 1828م، فنجحت في احتلال الجزائر العاصمة، في 5 يوليو 1830م، بعد مقاومة شرسة، ولكن مع ذلك، وحتى بعد استسلام الباي للفرنسسين عام 1832م، فإن الشعب الجزائري لم يضع السلاح، ولذلك فقد استغرق الفرنسيون الغزاة حوالي سبعين عاماً لبسط السيطرة الكاملة على البلاد، نظراً لاتساع مساحتها، ولشراسة المقاومة في الداخل، بما عرف به الجزائريون من بسالة وحمية وإصرار، فقد كان هناك رفض شامل للاستعمار، وعزيمة صادقة في إخراجه بالقوة مثلما دخل بالقوة، واعتبار مهادنته خيانة عظمى. وبين عامي 1930 و1900م، تمكن المجاهدون الجزائريون من تطهير كل أنحاء الجزائر من الفرنسيين تطهيراً كاملاً، باستثناء الجزائر العاصمة. ولكن بالمقابل، فإن فرنسا كانت تبدي في كل مرة إصراراً منقطع النظير على وجودها في الجزائر، وكانت تتشبث بكل ما يمكنها من البقاء فيها بأظافرها وتعض عليه بنواجذها، ورفضت التخلي عنها، برغم كثرة هزائمها وخسائرها الفادحة، وكان ترسيخ وجودها في الجزائر العاصمة، والتي تقع على ساحل البحر المتوسط، في مواجهة السواحل الفرنسية، ما سهل للبحرية الفرنسية التدخل مباشرة لنجدة حاميتهم هناك، وتزويدها بالجنود والسلاح والمؤن في الوقت المناسب، كما أن ذلك الموقع قد ساعد أساطيلها على الإغارة على موانئ الجزائر الأخرى، عند اللزوم، ومن ثم إنزال جنودها وعتادها على سواحلها، وبصورة تسمح لها باستئناف جولات القتال في الداخل، وفرض سيطرتها مجدداً على الأقاليم نظراً لافتقاد البلاد السلطة المركزية. وكانت العوامل المذكورة آنفاً هي التي وقفت وراء إصرار فرنسا المستميت على البقاء في الجزائر، وعدم الاعتراف بالفشل في السيطرة عليها، وعلى تكرار غزوها مرة بعد مرة، وعدم اليأس من إمكانية سحق مقاومة شعبها وكسر إرادته مهما كان الثمن، وبالتالي عدم اليأس من اقتطاعها من جسد الإسلام، وفرض الاحتلال العسكري المباشر عليها وبصورة نهائية، وبما يسمح بإدخالها في حظيرة ممتلكاتها وتحويلها إلى مزرعة فرنسية، وإلى بقرة حلوب تدر اللبن لأفواه الفرنسيين. وهكذا، ونتيجة لذلك الإصرار المستميت من قبل الطرفين، الفرنسيون لبسط سيطرتهم العسكرية والسياسية على الجزائر، والجزائريون لرفضهم لهذه السيطرة ومقاومتهم الباسلة لها، فقد استمرت عمليات الكر والفر على مدى حوالي سبعين عاماً، وتبادل فيها الطرفان النكسات والهزائم. إلا أن الشعب الجزائري كان الأكثر غرماً، والأكثر تضرراً، كونه كان يجابه الجيش النظامي الفرنسي الحديث والمنظم، بآلته العسكرية المتطورة وجحافله الجرارة، كجماعات متفرقة، وغير موحدة، وبأسلحة قديمة وبدائية، وكون رحى المعارك كانت تدور في دياره، وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، ولذلك فقد انتهى صراع الإرادات ذلك لصاح فرنسا في نهاية المطاف، بعدما ارتكب جيشها ما ارتكب من مذابح بشعة، أباد فيها قبائل كاملة، ومسح مدناً وقرى من على وجه الأرض، وفتك بالجزائريين العزل فتك الوحوش شيوخاً ونساء وأطفالاً، واستباح الأعراض والمقدسات، وهي السياسة التي دشنها الجنرال بيجو (1784-1849م) السفاح الدموي الصليبي، الذي حل بالجزائر سنة 1841م، ففي نظره إن حرب الإبادة وحدها هي الكفيلة بالقضاء على مقاومة الشعب الجزائري، ونتيجة لذلك فقد تقلص عدد سكان الجزائر البالغ عددهم يومئذ ثلاثة ملايين نسمة إلى مليونين خلال 15 سنة فقط. ومع ذلك فإن جهاد شعب الجزائر المسلم لم ينته، ولم يكن ما حدث سوى جولة من الصراع كسبتها فرنسا.
ثالثاً: السياسة الفرنسية في الجزائر:
ارتكزت هذه السياسة على أربعة محاور أساسية، هي:
محور الفرنسة: من مظاهره محاربة اللغة العربية، وإجبار الأهالي على استعمال الفرنسية، والتي جعلوها هي اللغة الرسمية وحدها، في الروضة والمدرسة والجامعة، وقامت فرنسا بإنشاء إدارة جديدة مفرنسة بنسبة 100%، وعملت على شطب الأسماء العربية للمدن والشوارع والمعالم، واستبدلتها بأسماء فرنسية، كما عملت على إصدار عدة مراسيم لفرنسة التعليم، ومنها مرسوم 24 ديسمبر 1904م، والذي يقضي بمنع أي معلم من فتح مدرسة قرآنية إلا بترخيص، بعد التزامه بجملة من الشروط التعجيزية، ثم أصدرت قانون 8 مارس 1938م، الذي قضى بحظر استعمال اللغة العربية، بل واعتبارها لغة أجنبية. والعمل على تدريس جغرافيا وتاريخ فرنسا على أنهما جغرافيا وتاريخ الجزائر، وتشويه التاريخ الإسلامي، كما شمل ذلك تشكيك الجزائريين في عروبتهم، فزعموا أنهم من أعقاب الرومان والبربر، وذلك كي يبقى البلد تابعاً وجزءاً من الثقافة الفرنسية، وقد نجحت في ذلك في منطقة القبائل البربرية.
محور التنصير: تم تحويل 80% من المساجد إلى كنائس وثكنات وإسطبلات، وتشجيع البعثات التبشيرية للانتشار في البلاد لتنصير الشعب، وسحق الإسلام، وتمت مصادرة الأوقاف الإسلامية، وجعلها تحت تصرف المبشرين، وكان الكاردينال لافجري (1825-1892م) من أشد المتحمسين للتنصير، وهو القائل: «علينا أن نجعل من أرض الجزائريين مهداً لدولة مسيحية... تلك هي رسالتنا». وعمل هؤلاء المبشرون وقادة الجيش الفرنسي على إحياء كنيسة إفريقيا الرومانية، تطبيقاً لمقولة: «إن العرب لا يطيعون فرنسا إلا إذا أصبحوا فرنسيين، ولن يصبحوا فرنسيين إلا إذا أصبحوا مسيحيين»، وكان الجنرال بيجو يأتي بالأطفال الجزائريين اليتامى إلى القسيس ويسلمه لهم قائلاً: «حاول يا أبتي أن تجعلهم مسيحيين، وإذا فعلت ذلك فلن يعودوا إلى دينهم ليطلقوا علينا النار». وشمل ذلك أيضاً تشجيع الطرق الصوفية على نشر الخرافات والشعوذة، فأصبحت هذه الطرق معولاً في يد المستعمر لهدم الإسلام.
محور التفقير: قام الفرنسيون باغتصاب وسلب الأراضي الزراعية الخصبة، وإعطائها للمعمرين من فرنسيين ومتفرنسين من شذاذ الآفاق، والذين تم جلبهم من دول أوربية عدة، والذين بلغ عددهم عند الاستقلال أكثر من مليون مستوطن، وقد انتهجت فرنسا أساليب متعددة للاستيلاء على الأراضي الزراعية، منها تأسيس شركات زراعية، وإنشاء سكك حديد تربط بين سهول الجزائر الخصبة وميناء الجزائر، وفي مقدمتها سهل متيجة عام 1857م، وكانت فرنسا تعاقب الثوار الجزائريين بالقتل والحبس والنفي ومصادرة الأملاك. وبعد تجريد الشعب الجزائري من ممتلكاته، أخضعته لقوانين قاسية، ومنها قانون الأهالي عام 1871م، والذي فرض عليه حمل رخصة تجيز له التنقل من مكان لآخر داخل وطنه، فإذا لم تكن بحوزته يعاقب، وقد أصاب الجزائريين نتيجة هذه السياسة فقر مدقع.
محور الإدماج: عملت فرنسا على اقتلاع الجزائر من محيطها العربي الإسلامي، وبالتالي إذابتها في الكيان الفرنسي، فألحقتها بفرنسا قانونياً، بموجب مرسوم 22 يوليو 1834م، واعتبرتها أرضاً فرنسية، ومنحت الجنسية الفرنسية للجزائريين، وفي 2 فبراير 1912م أصدرت قانون التجنيد الإجباري، الذي تضمن تجنيد الجزائريين في الجيش الفرنسي باعتبارهم رعايا فرنسيين، وبلغ عدد هؤلاء المجندين في الجيش الفرنسي أكثر من 250 ألفاً قبيل الحرب الأولى، وبلغ عدد الجزائريين الذين شاركوا في الحرب الثانية زهاء مليون، ما بين جنود مقاتلين وعاملين لتأمين الجنود، وقد ذهب مئات الآلاف منهم وقوداً لحروب فرنسا في تلك الحربين، وفي حروبها الاستعمارية في الهند الصينية. علماً بأن الإدماج كان أكذوبة، فقد ظلت الجالية الفرنسية والمتفرنسة الطارئة على البلاد هي المتحكمة في الجزائريين، وظل الفرنسي يعتبر نفسه سيداً، ويعامل الجزائري كعبد، هو وما ملك لسيده.
رابعاً: جمعية العلماء وحرب التحرير:
برغم كل الإجراءات التي وضعها لتثبيت وجوده، والقرارات والمراسيم الكثيرة التي اتخذها لفرنسة الجزائر، وبرغم سياسات القمع، والبطش، والتنكيل، والقهر، والتجهيل، والتفقير، التي اتبعها، فقد تواصلت مقاومة الشعب الجزائري في القرن العشرين، برغم الجراح، والنزيف، والمصاعب، والآلام، ففي العقد الثاني من هذا القرن ظهر العالم الإصلاحي الجليل عبد الحميد بن باديس (1889-1940م)، والذي رفع لواء الدفاع عن الإسلام والعروبة في الجزائر، متوجاً جهوده في هذا المجال بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1931م، بالتعاون مع نخبة من علماء الجزائر المخلصين، وقد أعلن بن باديس بكل جرأة ووضوح أن: «الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت». وكان له ولجمعية العلماء الفضل الكبير في إصلاح العملية التعليمية، وإعادة الناس إلى الكتاب والسنة وعقيدة السلف، ومحاربة البدع والضلالات التي كان ينشرها الصوفية القبوريون بدعم وتشجيع الاستعمار الفرنسي، الذي اعتمد على الطرق الصوفية كإحدى الركائز لوجوده في البلاد. ومع أن القانون الأساسي للجمعية كان ينص على عدم الخوض في السياسة، إلا إن أعضاءها لم يلتزموا بذلك عملياً، فقد كان لا بد من الجمع بين السياسة والعلم، لتحقيق الثمار المرجوة، وهذا ما كان يعتقده ابن باديس، وكان يؤمن أن ما أخذ بالقوة لا يسترجع إلا بالقوة، وأن الجزائر لن تتحرر إلا بالجهاد. وذلك قد كان. فقد استطاعت هذه الجمعية أن تغير مجرى التاريخ، وأن تحفر قبر الاحتلال الفرنسي للجزائر، وقد توفي ابن باديس سنة 1940م، وهو ابن 51 عاماً، لكن جمعية العلماء استمرت في تأدية نشاطها التعليمي، برغم القيود الصارمة التي فرضها عليها الاحتلال الفرنسي، وصار لها فروع ومدارس في مختلف أنحاء الجزائر، وكان لها دور في تهيئة الأجواء لثورة التحرير الجزائرية، التي اندلعت ليلة أول نوفمبر 1954م، وكان لأبنائها دور في الكفاح المسلح خلال فترة هذه الثورة، فقد كان أغلب المجاهدين في جيش التحرير من خريجي ومنتسبي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان «الكثير ممن قدموا حياتهم من أجل استقلال الجزائر هم من طلبة عبد الحميد بن باديس (الأب الروحي للجمعية)»، وفقاً لشهادة محمد ياحي، أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر، وبعض هؤلاء صاروا قادة في جيش التحرير، من أمثال العقيد محمد شعباني (1934-1964م)، قائد الناحية الثالثة (الصحراء)، كما كان لعلمائها دور في التحريض على الجهاد ضد المستعمر، من أمثال الشيخ الشهيد العربي التبسي (1895-1957م)، والشيخ محمد السعيد الزموشي (1904-1960م)، والشيخ أحمد حماني (1915-1998)، والشيخ عمار مطاطلة (1915-2015م)، داخل الجزائر، وفي مصر كان هناك الشيخ محمد البشير الإبراهيمي (1889-1966م)، رئيس الجمعية خلفاً لابن باديس، والذي أعلن تأييده للثورة منذ انطلاقتها واعتبر التراجع عنها هو «الفناء الأبدي والذل السرمدي»، وكان بجانبه الفضيل الورتلاني (1900-1959م)، بل ومنهم من قاتل بالسلاح من أمثال الشيخ أحمد سحنون (1907-2003م)، وهو الكفاح الذي توج بنيل الاستقلال سنة 1962م، بعد تضحيات وجهود جبارة أدهشت العالم، وأجبرت السلطات الفرنسية المحتلة، التي كانت تعتبر الجزائر قطعة من فرنسا، أن تستيقظ من أحلام يقظتها، وأن تسلم بالأمر الواقع، وتقر صاغرة ذليلة بأن الجزائر ليست فرنسية، وذلك برغم المجازر الفظيعة التي ارتكبتها، والممارسات الوحشية التي قامت بها لوأد الثورة، إلا أن جمعية العلماء ظلت بعيدة عن القيادة السياسية للثورة، فهذه القيادة تولاها اليساريون والفرانكفونيون، للأسف، حيث أجبرت كل الأحزاب والمنظمات ومنها جمعية علماء المسلمين الجزائريين أن تحل نفسها، وأن ينضوي المنتسبون إليها إذا أرادوا المشاركة في الجهاد في جبهة التحرير الوطني العلمانية، ذات التوجه الماركسي، والثقافة الفرانكفونية، كأفراد حتى يسهل تذويبهم في هذا التنظيم الجديد.
خامساً: الاستقلال الضائع:
هكذا خرجت فرنسا من الجزائر بعد 132 عاماً من الاحتلال، بفضل تضحيات الشعب الجزائري المسلم، التي لم يعرف التاريخ لها مثيلاً. ولكن الفرحة لم تكتمل، فقد ظهر منذ الأيام الأولى للاستقلال أن الذي خرج من البلاد، هو الاستعمار العسكري فقط، أما الاستعمار بأشكاله الثقافية والسياسية والاقتصادية فظل قائماً، وكان يتوجب مواصلة الجهاد حتى يتم تطهير البلاد تماماً من مخلفات الاستعمار، ولكن فرنسا لم تعط الفرصة للشعب الجزائري لكي يلتقط أنفاسه، وبعد أن سكتت أصوات طائراتها ومدافعها لجأت إلى الحرب الناعمة، بل إنها كثفت من هذه الحرب التي كانت قد بدأتها منذ انطلاقة الثورة فقد عملت فرنسا بكل خبث ودهاء على اختراق جبهة التحرير، الواجهة السياسية لجيش التحرير الوطني، فزجت فيها بالعديد من الجزائريين الفرانكفونيين الموالين لها، فنجحت في إبعاد الإسلام، من منهج الجبهة، وبعد خروجها العسكري عام 1962م عملت على تسليم السلطة لمجموعة وجدة بقيادة هواري بومدين (1932-1978م)، رئيس أركان جيش الحدود، هذا الأخير الذي كانت قد دست فيه العديد من الضباط الجزائريين المتفرنسين[1]، وليس لجيش التحرير، الذي فجر الثورة، وعُرف بضرباته الصاعقة والموجعة للجيش الفرنسي، والذي كان أيضاً معظم المنتسبين إليه من أصحاب التوجه الإسلامي، وكان بومدين الذي صار وزيراً للدفاع في حكومة الاستقلال هو الماسك بزمام الأمور، في حين لم يكن بن بلا (1916-2012م) رئيس الجمهورية سوى واجهة، وبرغم ما كان بينهما من خلافات، فقد كانا متفقين على تبني النظام الاشتراكي للدولة الجديدة، مع تنحية الإسلام تماماً عن الشأن العام، ولذلك فقد تم منع جمعية العلماء من العودة لممارسة نشاطها، وفرضت الإقامة الجبرية على رئيسها الشيخ البشير الإبراهيمي، ثم لم يلبث الأول أن أطاح بالثاني سنة 1965م وحل محله، فدشن عهداً جديداً من الكبت والظلم والمطاردة ومصادرة الحريات، وأولها حرية الدعوة إلى الله، وعمل على تهميش من تبقى من ضباط جيش التحرير أو إبعادهم، وفضل عليهم الضباط الجزائريين المتفرنسين، ووكل هؤلاء بمهمة تدريب الجيش الجديد، كما عين بعضهم في مناصب حساسة بوزارة الدفاع. وامتازت فترة حكم بومدين بكثرة الشعارات التي تدغدغ عواطف الشعب، كالتعريب، والثورة الزراعية، والثورة الصناعية، ومكافحة الاستعمار، وقضية فلسطين، وعدم الانحياز، وغيرها، لكن النتائج على أرض الواقع كانت دائماً دون المستوى، إن لم تكن عكسية. فالنتائج التي ترتبت على جهوده في التعريب كانت محدودة، كما أن الكادر الإداري الذي كان جله من الإدارة الفرنسية السابقة، ظل هو المسيطر على الإدارة والتعليم والإعلام، بل إن التبعية الثقافية ترسخت أكثر، وهذا طبيعي، طالما الإسلام قد استبعد من مشروع بومدين، وطالما قد زج بالعلماء في السجون. والأخطر من ذلك هو اختراق ضباط فرنسا للجيش، وعند وفاة بومدين مسموماً في نهاية عام 1978م، كانوا قد صاروا رقماً صعباً في الجيش، ولذلك كان لهم بجانب قاصدي مرباح رئيس المخابرات، دور في تنصيب الشاذلي بن جديد (1929-2012م) رئيساً للبلاد خلفاً لبومدين، وفي عهد الشاذلي حصلوا على العديد من الترقيات، فسيطروا على الجيش سيطرة تامة، وصارت لهم الكلمة العليا في البلاد، وقد تجلى ذلك من خلال إيقاف سير الانتخابات التي فازت فيها جبهة الإنقاذ الإسلامية، وإجبار بن جديد على الاستقالة عام 1992م، وهو الانقلاب الذي لقي التأييد من قبل السياسيين والمثقفين الفرانكفونيين المتغلغلين في المرافق الحيوية للدولة، والذين وقفوا يصفقون لجنرالات فرنسا وهم يغرقون الشعب في حمام دم، ويدافعون عنهم في كل محفل، وهكذا ضاع الاستقلال، وعادت الجزائر إلى الحظيرة[2]، وبالمقابل فإن كفاح الشعب الجزائري المسلم مستمر، ولم يتوقف، ولن يتوقف، إلا بالتخلص من حزب فرنسا، واستعادة الهوية الإسلامية لجزائر الإسلام والعروبة.
[1] انظر مقالنا: بومدين وحلم ديجول في جزائر ما بعد الاستقلال، موقع مجلة البيان الإلكتروني، 4/3/2019م، رابط: (http://cutt.us/ykWpd ).
[2] تناولنا ذلك بتفصيل أوسع في مقال: ضباط فرنسا ومفارقات ثورة المليون شهيد، موقع مجلة البيان الإلكتروني، 12/3/2019م، رابط: (http://cutt.us/mEKtM ).