الموجه الثالثة من الحرب الأمريكية ضد المسلمين

الموجه الثالثة من الحرب الأمريكية ضد المسلمين

«فلنخرج جميع المسلمين من البلاد ولنبنِ حاجزاً بيننا وبينهم».

هذا تصريح لدونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة أثناء حملته الانتخابية في العام الماضي، الأمر الذي دفع صحيفة الجارديان البريطانية لتقول في إحدى افتتاحياتها، وهي تصف السلوك الذي حاول ترامب أن يظهره للعالم كله سواء أثناء حملته الانتخابية أو في خطاب تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية: إن التعصب أصبح يقود أقوى دولة في العالم عسكرياً واقتصادياً، ولذا فإن العالم مقبل على كوارث لا حصر لها.

وتتوقع الصحيفة أن فترة رئاسة ترامب ستكون مفزعة للغاية بينما اعتبرت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية الخطاب الذي ألقاه ترامب بمناسبة التنصيب امتداداً للحقد والكراهية التي سبق أن عبر عنها أثناء حملته الانتخابية وبشكل ليس له مثيل في تاريخ الولايات المتحدة، وخلصت الصحيفة إلى أن ترامب الذي ليس لديه خبرة سياسية أو عسكرية يأخذ الأمة الأمريكية نحو الهاوية.

- فهل هذه الانطباعات والتحليلات التي يمتلئ بها الإعلام الغربي تجاه ترامب صحيحة؟

- هل سيأخذ ترامب أمريكا إلى الهاوية وهي التي يعتبرها الخبراء الدولة العظمى التي تتربع على قمة النظام الدولي؟

- ما موقفه من قضايا المنطقة وأمتنا، خاصة أن تصريحاته تجاه المسلمين تتسم بالتعصب؟

- قد يقول قائل إنه يخص بحديثه المسلمين المتطرفين الإرهابيين ولا يقصد عموم المسلمين، أو أنه لا يقصد الإسلام كدين، فهل هذا هو بالفعل مقصده؟

- هل يمكن اعتبار أن ما ستقوم به إدارة ترامب القادمة هي الموجة الثالثة من الحرب الأمريكية ضد ما تصفه الإدارات المتعاقبة بـ«الإرهاب الإسلامي» الذي بدأ يتجدد لدى الغرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟

فمنذ أن انتكست الرايات المجاهدة للعالم الإسلامي وتراجع أمام الغزو الغربي في أواخر القرن التاسع عشر وشرع الغرب في ترتيب الأوضاع داخل هذه الكتلة - التي قادت العالم لقرون ونشرت حضارتها الراقية في العالم - فقسم هذه الأمة لحدود وكيانات جغرافية وجعل على رأسها نظماً تسير على خطاه بالقهر والفساد والاستبداد، وظل هذا الوضع مستقراً في العالم الإسلامي عقوداً عديدة وانشغل الغرب بحروب أخرى داخله، مرة مع النازية ومرة مع الشيوعية، ولكن مع الانتهاء من النازية والشيوعية بدأ الغرب يدرك أن المارد بدأ يستفيق وشرع في الخروج من قمقمه مرة أخرى، هنا لم ينتظر الغرب حتى يفيق المارد تماماً ويسترد وعيه كاملاً ومن ثم يضع الحلول للنهوض والخروج من ذل التبعية ومن غيوبته فاستبقه بثلاث ضربات وموجات مركزة:

الموجة الأولى: في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر:

اشتهر بوش الابن بمقولة هذا هو النزاع الأيدلوجي الحاسم في زماننا، قالها من البيت الأبيض وتم نقلها عبر التلفاز ليعلن بوش بكل وضوح الغاية من غزوه العراق، وهي أن الصراع في المنطقة هو صراع أيدلوجي، وهو وفق معتقدات بوش ديني صليبي كما صرح به ذات مرة، حربه في العراق رسالة دينية، وبعكس ما يعتقد البعض أن بوش لا يعبر عن الشعب الأمريكي في مضيه لحرب العراق فإن 78% ممن اختاروا بوش من الشعب الأمريكي قالوا إنهم فضلوه لدينه وللقيم الأخلاقية التي يمثلها. فتأكيد بوش على الطبيعة الدينية للصراع هو في حقيقته تذكير للشعب الأمريكي بالسبب الذي اختار بوش للرئاسة وأنه سائر وماض في هذا الدرب.

في عهد بوش الابن تشكلت حوله مجموعة من المستشارين الذين ينتسبون بشكل ما إلى المحافظين الجدد أمثال ريتشارد بيرل ودوغلاس فيت وبول وولفوفيتز وجون بولتون؛ وبالطبع ديك تشيني ودونالد رامسفيلد وكونداليزا رايس، وقد تمثل هدف هذه المجموعة السياسي الرئيس في محاولة إقامة نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط له منظومة أمنية واحدة تكون فيها الولايات المتحدة شريكاً كاملاً في الالتزامات والحقوق والواجبات مع هذه الدول، هذه المنظومة الواسعة سيكون هدفها بالأساس مكافحة الإرهاب واقتفاء أثر ومحاصرة نظم الحكم التي ترعى الإرهاب في هذه المنطقة.

وقد حاولت إدارة بوش تطبيق أهدافها تلك عن طريق إستراتيجية عرفت باسم مبدأ بوش: «مبدأ الضربات الاستباقية» و«حق التدخل في كل أنحاء العالم» و«القرارات والخطوات الانفرادية النابعة من مصالح الولايات المتحدة وحدها»، والتي لا تأخذ في الاعتبار مصالح وحقوق أي طرف أو بلد آخر حتى ولو كان من أقرب حلفاء واشنطن وأصدقائها.

وبالتوازي مع الحرب العسكرية والتدخل المباشر خاضت الولايات المتحدة حرب الأفكار عن طريق الترويج لإسلام جديد يطلق عليه تارة الإسلام العلماني أو الإسلام الليبرالي وبث ما يعرف بثقافة التعايش وغيرها من المصطلحات.

ولكن باءت هذه الإستراتيجية بالفشل بعد أن تمددت التيارات الإسلامية العسكرية إلى العراق وكبدت القوات الأمريكية خسائر ضخمة واستنزف الجيش والاقتصاد الأمريكي في أفغانستان، فغرقت أمريكا حتي أذنيها في مستنقعات أفغانستان والعراق، فالجنود الأمريكان يقتلون هناك يومياً فضلاً عن إنفاق عسكري ضخم يسبب نزيفاً في الميزانية الفيدرالية ويؤدي إلى تدني الخدمات التعليمية والصحية ويثقل كاهل الفرد الأمريكي بالضرائب والديون، وباتت فضائح التعذيب في أبو غريب وجوانتنامو تزكم الأنوف، ومذابح المدنيين لا تكاد تتوقف في أفغانستان وباكستان والعراق وداخل الشرق الأوسط (بلاد المسلمين) في نزاعات طائفية وعرقية بشكل لم يسبق له مثيل نتيجة محاولة تطبيق نظريات وأحلام أقطاب المحافظين الجدد وصراع الحضارات والتعصب البروتستانتي، وهكذا سقطت الرسالة الأمريكية للعالم والتي ترفع لواء الديمقراطية وحرية الشعوب والمساواة بين الأجناس. ولم تحقق حرب الأفكار نجاحاً يذكر على صعيد تغيير مفاهيم الإسلام بل باتت السلفية التي هي جوهر الإسلام أكثر انتشاراً وتمدداً.

الموجة الثانية: إدارة أوباما من القوة المباشرة إلى القوة الناعمة:

جاء أوباما إلى سدة الرئاسة عام ٢٠٠٩ وكانت أمريكا في مأزق حقيقي، فحاول إصلاح ما أفسدته الإدارة السابقة وأقطابها باتباع إستراتيجيات جديدة فأصدر عام 2010 وثيقة إستراتيجية الأمن القومي حاولت الابتعاد عن المفهوم الضيق لمعني الأمن وهو المفهوم العسكري ومن ثم التعاون مع أمم أخرى، ومن بين عناصر هذه الإستراتيجية ما يعرف بالقيادة الأخلاقية التي تقوم على أساس قوة المثل الذي تضربه أمريكا وليس عن طريق القوة لفرض نظامها على شعوب أخرى، وتشرح الوثيقة تبرير ذلك: «إننا إذا ما أضعفنا قيمنا خلال السعي للأمن سنقوض الاثنين، أما إذا دعمناهما فإننا نحافظ على مصدر رئيس لقوتنا وقيادتنا في العالم وهي قوة تبعدنا عن أعدائنا وعن منافسينا المحتملين».

إستراتيجية أوباما لم تغفل الجانب العسكري بل أكدت على ضرورة أن تحافظ الولايات المتحدة على تفوقها العسكري وأن تكون هي الدولة الوحيدة القادرة على القيام بعمليات كبيرة وإدامتها عبر مساحات شاسعة دون تبديد هذه القوة بكثرة الاستخدام أو العمل بدون حلفاء، فقد كانت إستراتيجية أوباما أكثر شمولاً من الإستراتيجية الأحادية التي تبناها بوش.

ونتيجة لإستراتيجية العمل مع الحلفاء أو تركهم يعملون لتجنب المواجهة العسكرية المباشرة سميت إستراتيجيته الصبر الإستراتيجي وإدارة الصراع من الخلف.

وبرغم أن التحدي واحد لكل من الإدارتين وهو مكافحة الإرهاب لكن الاختلاف يمكن في طبيعة المواجهة، فقد استخدمت إدارة بوش الابن الأدوات العسكرية وحق الولايات المتحدة في توجيه الضربات الاستباقية والعمل الانفرادي من أجل مكافحة الإرهاب، وصبغت إستراتيجيتها بصبغة أيدلوجية، أما إدارة أوباما فقد رأت في التحالفات واصطباغ النظام العالمي بالمؤسسية وحكم القانون والتأكيد على حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطية الأسلوب الأمثل في مكافحة الإرهاب، وهذا ما تأكد من خلال التحالف الدولي ضد تنظيم داعش كما حاولت إدارة أوباما استخدام ميزان القوى في التحالف مع إيران لمجابهة الصعود السني

ويقول جون كيري وزير الخارجية الأمريكي السابق إن «الرئيس أوباما يدرك أننا لا نستطيع أن نحقق العالم الذي نريده إن لم نكن ندرك كُنه العالم كما هو قائم الآن، وهذه التركيبة التي تمزج بين المثالية والواقعية هي أساس إستراتيجيته»، ولكن هذا المزج بين المثالية والواقعية أكسبت فترة أوباما انسحاباً وجموداً.

والحقيقة، إن أوباما حاول ضرب العالم الإسلامي بمحاولات التصالح مع إيران وزيادة نفوذها في العالم الإسلامي لوقف ما أطلق عليه الإرهاب الإسلامي، كما كان دوره باهتاً في ثورات الربيع العربي بعد أن تحمس لها في البداية، ولكن عندما أثمرت على ما بدا أنه صعود للتيارات الإسلامية التي هي خيار الشعوب في المنطقة بدأ في التراجع عن تأييدها، فصمت عن الانقلاب المصري على الشرعية الانتخابية، وشارك في وأد الثورة السورية بضرب الجماعات المسلحة هناك وعمل على إضعافها وتقسيمها.

وفي نهاية فترة أوباما كانت الحصيلة كالتالي بالنسبة للعالم الإسلامي: ظهور تنظيم داعش كمظهر أكثر تطرفاً من القاعدة التي حاول أوباما تفكيكها وإضعافها ووقعت أجزاء من العراق وسوريا تحت سيطرته، تورط أكثر في باكستان وأفغانستان وتراجع عن خططه للانسحاب من أفغانستان، نجاح الثورات المضادة في إجبار الربيع العربي على التراجع، زيادة نفوذ إيران في العالم الإسلامي وتساقط عواصم عربية في دائرة نفوذها، تراجع الهيمنة الأمريكية في العالم مما سمح بتمدد الهيمنة الروسية وتعاظم دورها.

الموجة الثالثة: صعود ترامب:

لا شك أنه توجد صعوبة في معرفة نوايا ترامب وحتى توقع السياسات التي سينتهجها في فترة رئاسته القادمة حتى هو نفسه تتحكم في سياساته التي يريد إنتهاجها عوامل متداخلة يمكن أن تجعله يتراجع عما ينتويه.

لذلك سنحاول قدر الإمكان توقع ما يضمره ترامب تجاه قضايا المسلمين التي يلزمنا للإحاطة بها عدة اتجاهات تؤثر على إستراتيجية ترامب الموجهة للشرق الأوسط، وهي: توجهات ترامب وفريقه الرئاسي، والمؤسسات المؤثرة في صنع القرار داخل أمريكا وجماعات الضغط، والبيئة الدولية من قوى دولية وإقليمية.

وسوف يقتصر حديثنا في هذا المقال عن توجهات ترامب وفريقه الرئاسي.

ترامب وفريقه الرئاسي:

شخصية ترامب:

تبلغ ثروة دونالد ترامب وفق بعض التقديرات ٩ مليارات دولار، وبتاريخ حافل من الانتقالات السياسية من حزب إلى آخر، فقد حصل على عضوية الحزب الجمهوري قبل الانتقال إلى الديمقراطي والعودة مرة أخرى للجمهوري، وفي خطابه الذى أعلن فيه دخوله السباق الرئاسي أسهب في المديح على نفسه وعلى ثروته وقدراته السياسية.

ويحلل أخصائي الصحة النفسية والمعرفية الدكتور قاسم حسين صالح[1] شخصية ترامب فيرى أن الرجل يمتاز بصفتين سيكون لهما دور مؤثر في أدائه السياسي، الأولى: الطموح والقدرة الفائقة على تجاوز الإخفاقات. ويبين صالح أن الشخصية من وجهة نظر علماء النفس تتألف من ثلاثة مكونات هي: الفكر والانفعال والسلوك، ففيما يخص الأفكار فإن ترامب هو الشخصية الأكثر وضوحاً وصراحة في تاريخ الرئاسة الأمريكية، لكن مشكلته أن لديه أفكاراً كثيرة وخيالات واسعة تتطلب حلولاً كثيرة فيكون من الصعب التنبؤ بقراراته، فضلاً عن أنه يتصف بالسرعة في اتخاذ القرارات بدليل أنه اتخذ ٥٠ قراراً تنفيذياً في أول أسبوع لرئاسته ،في سابقة لم تحصل من قبل في البيت الأبيض، على أن الأخطر من ذلك أنه مصاب بعقدة «الإسلاموفوبيا»،  وبالفعل أصدر قراراً بمنع دخول مواطني سبع دول إسلامية، وقال إنه مهما اشتد السخط والضغط فأنه لن يتراجع عنه  مطلقاً. وطبقاً لرأي الدكتور صالح فإن هناك مشكلة أخرى في ترامب أنه يحمل فكرة عن نفسه بأنه «سوبرمان» عززها فيه مناصروه وطاقمه الانتخابي ما يعني أن فيه إحدى أهم خصائص الشخصية النرجسية المتمثلة بشعارها «أنا مميز» غير أنه يحمل من جانب آخر أفكاراً وردية عن مستقبل أميركا تجعله ينشغل بها أمنياً واقتصادياً وخدمياً أكثر من أي رئيس أميركي سبقه، وأنه يريد أن يجعل من أميركا صورة مطابقة لمواصفات شخصيته، وفيما يخص المكون الثاني للشخصية (الانفعالات) فإن أخطر انفعالات ترامب على أدائه السياسي هي سرعة الغضب التي قد تدفع به إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة ومن دون اكتراث بأحاسيس ومشاعر الناس الذين تطالهم تلك القرارات، غير أن ترامب سيشعر بفرح غامر لكل قرار يعجب به الآخرون وأنه ممثل بارع في نشر الفرح بين مريديه بطريقة استعراضية يكون فيها هو مركز الانتباه وحديث الناس.

أما المكون الثالث (السلوك) فيرى الدكتور صالح أن طبيعة الأفكار ونوعية الانفعالات تحدد السلوك، فإن الذي يعنينا هنا هو القرارات التي سيتخذها وتفيد قراءتنا لشخصية ترامب بأنه لن يلتزم تماماً كما فعل سابقوه بمبدأ الحكم في أميركا القائل بأن الرئيس سواء أكان جمهورياً أم ديمقراطياً لا بد له من الانصياع لمؤسسة الحكم في الولايات المتحدة، لتحدد له ما يجب أن تكون عليه سياسته وفقاً لأطر ثابتة، ليس فقط لأنه يتصف بالعناد والثقة المطلقة بالذات وعدم الأخذ برأي منتقدي سياسته بل ولأنه يرى أن مؤسسة الحكم هذه كانت هي السبب الذي أطاح بعظمة أميركا.

الفريق الرئاسي:

أخطر اثنين تم تعيينهم من قبل ترامب وربما سيؤثران بصورة قوية على توجهات إدارته: مايكل فلين مستشار الأمن القومي، وستيفن بانون كبير المستشارين ومسئول التخطيط الإستراتيجي الذي تم ضمه إلى مجلس الأمن القومي الأمريكي. بالنسبة لفلين فقد شغل منصب مدير الاستخبارات العسكرية في الجيش الأمريكي وقد فصله أوباما لأنه بحسب فلين في حديثه مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية: «لأنني دعوت أعداءنا باسم الجهاديين المتشددين»، في إشارة إلى رفض الرئيس الأمريكي باراك أوباما تسمية الإرهابيين بالمتطرفين الإسلاميين.

وقد نشر فلين تسجيلاً على موقع التواصل الاجتماعي تويتر قال فيه: الخوف من الإسلام أمر معقول فليس هناك شك في أن الحقيقة مخيفة وله تصريح يقول فيه إن «الإسلام سرطان».

فلين لم يخدم فقط كرئيس لوكالة الاستخبارات العسكرية في عهد أوباما حتى استقالته ولكنه عمل أيضاً مع الخبير في شؤون الشرق الأوسط مايكل ليدين وقام بتأليف كتاب معه تحت عنوان «ميدان القتال: كيف يمكننا كسب الحرب العالمية ضد الإسلام الراديكالي وحلفائه»، الصادر في يوليو من العام الماضي أي قبل سبعة أشهر فقط، ويرى فلين في هذا الكتاب[2] الخطير أن الإسلام الراديكالي قد انتصر على الولايات المتحدة لأن القادة الأمريكيين قد فشلوا في وضع إستراتيجية جيدة لمواجهته، وكانوا يفتقرون إلى وضوح الرؤية واليقين اللازم من أجل فهم العدو بشكل أوضح وطرح آليات ناجحة للتعامل معه، ولذا فإن الأعداء لم يعودوا يكتفون بالتهديد من بعيد بل إنهم باتوا يُبادرون بالهجوم في أماكن متفرقة من الدول الغربية بلا هوادة.

ويُشير فلين في مؤلفه إلى أن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط وعلى مدى عقودٍ قد تجاهلت التهديد الإيراني حتى إن إدارة أوباما توصلت مع إيران لاتفاق نووي. وعن إيران يقول إنها الدولة التي لا تكف عن دعم الأنشطة المتطرفة من خلال تمويل الميليشيات الشيعية الموالية لها.

ويضيف أن طهران تدعم أيضاً جماعات سنية متطرفة انطلاقاً من مقولة أن عدو عدوي صديقي، ولهذا يرى فلين أن هناك ما أطلق عليه «تحالف العدو في مواجهة المصالح الأمريكية»، حيث إن أعداء الولايات المتحدة يتحالفون ضدها حتى لو كانوا خصوماً في حين أن إدارة أوباما خلال سنوات حكمها الأخيرة عملت جاهدة على اتباع سياسة لفت الأنظار عن الحقيقة من خلال تقديم خطاب يتسم باللباقة السياسية لكنه مفرغ من الحقائق ومن المعطيات الواقعية التي تنذر بمخاطر جمة على الأمن القومي الأمريكي حيث كانت هناك أولوية للسياسة على حساب المعلومات الاستخباراتية.

وفي مؤلفه يطرح فلين خمس أولويات مهمة لمواجهة «الإسلام الراديكالي»، وذلك على النحو التالي:

أولاً:

أولوية الأمن القومي على التوازنات السياسيةيؤكد فلين أن على الولايات المتحدة تنظيم كافة مواردها وجهودها تحت قيادة وطنية واحدة تتحمل مسئولية التعامل بجدية مع مخاطر التنظيمات المتطرفة كما لو أنها حرب عالمية نظراً لأن تهديدات تلك التنظيمات على الأمن القومي لا تختلف عن تهديدات الحرب العالمية الثانية أو الحرب الباردة. وكذلك من المهم المصارحة وكشف الإخفاقات وعدم الهدنة مع الأعداء وأن يكون هناك اتساق بين الأقوال والأفعال وألا تكون السياسة والدبلوماسية مقدمة على متطلبات الأمن وتحدياته المتباينة

ثانياً:

ملاحقة المتطرفينيرى فلين ضرورة   ملاحقة «الإسلاميين الراديكاليين» في جميع أنحاء العالم وليس في الدول التي تشكل تهديداً على الأمن القومي الأمريكي فقط، وذلك بطردهم من أي أراضٍ يوجدون بها وملاحقتهم في معسكرات التدريب التي تأويهم، وذلك من خلال التعاون مع حكومات تلك الدول حيث يرى أنه من المهم ألا يحصلوا أبداً على ليلة نوم هانئة وعليهم أن يتوقعوا الهجوم في أي لحظة وفي أي مكان من أجل ألا يُمنحوا فرصة للتخطيط والتفكير.

ثالثاً:

الداخل قبل الخارجيبرز فلين أن المعركة ضد الإرهاب والإسلام الراديكالي تبدأ بالأساس من داخل الولايات المتحدة من خلال مواجهة المتطرفين فيها، ويجزم بأن تلك المعركة لن تُجدي نفعاً معهم في الخارج إلا بعد مواجهتهم في الداخل وتنقية المجتمع الأمريكي منهم، ويُحذر من الإسلاميين الراديكاليين الموجودين داخل أمريكا لأنهم قد يتخذون خطوات من أجل إقامة دولة إسلامية في البلاد على حد قوله.

رابعاً:

تغيير سلوك الدوليشير فلين إلى أهمية إجبار الدول التي تقوم بتقديم الدعم أو التمويل للإسلاميين الراديكاليين على التوقف عن ذلك فوراً، وذلك بالتهديد بقطع العلاقات العسكرية والاقتصادية معها، حيث يرى أن على السياسة الخارجية الأمريكية التوقف عن مجرد إلقاء اللوم والكلام المنمق وفي المقابل فإن عليها أن تقوم بأفعال تغير من سلوك تلك الدول على أرض الواقع.

خامساً:

تصحيح الأفكاريؤكد فلين في مؤلفه على أهمية معالجة الأفكار المتطرفة التي تدعو إلى الموت والدمار في الغرب من خلال التعامل الأيدلوجي مثلما تم التغلب على أيدلوجيات النازيين واليابانيين في الحرب العالمية الثانية، والشيوعيين خلال الحرب الباردة، ويعتبر أن تصحيح أفكار الأعداء المغلوطة ضرورة من أجل كسب المعركة بشكل كامل، حيث يرى أن «الإسلام الراديكالي» ليس بظاهرة بجديدة ولم يكن بأي حال من الأحوال رد فعل على الإمبريالية الأمريكية. ولذلك يرى أن الحرب ضد الإرهاب التي يراها حرباً عالمية جديدة هي حرب أيدلوجية وليست مجرد حرب عسكرية ضد المتشددين في ميادين القتال في العراق أو سوريا.

يشار إلى أن مايكل ليدين الذي ألف هذا الكتاب مع فلين يرجع إليه تاريخياً مصطلح الفوضى الخلاقة، وهو أستاذ باحث في معهد أميركان إنتربرايز اليميني، وعضو في مجلس مستشاري المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي، وهو من الصقور المتطرفين ويمارس نفوذاً في أوساط الإدارة الأميركية كما يحاضر عن الحرب والسلام والشرق الأوسط والسياسة الأميركية، وفي السابق عمل مستشاراً للرئيس بوش الابن.

أما ستيفن بانون فقد وصفته وكالة أنباء بلومبرج الأمريكية بأنه أكثر الناشطين السياسيين خطورة في أمريكا وقد أصدر مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية كير بياناً استنكر فيه تعيين ستيفن بانون كبير المستشارين ومسئول التخطيط الإستراتيجي بالبيت الأبيض، ووصفه بأنه معاد للمسلمين ويميني متشدد وصاحب نظريات مؤامرة معادية للمسلمين، وأضاف البيان أن بانون أدار سابقاً نشرة بريتبارت نيوز وكان يروّج فيها لنظريات مؤامرة ترسم صورة داكنة ومرعبة حول الأمريكيين المسلمين، وتستهدف أيضاً النساء والملونين والمهاجرين، وندد نواب ديمقراطيون بارزون إلى جانب هيئات إسلامية أمريكية بقرار الرئيس المنتخب دونالد ترامب تعيين ستيفن بانون بمنصب مستشار خاص وكبير الإستراتيجيين في البيت الأبيض، مشيرين إلى أنه يمثل انتصاراً للقوى المنادية بتفوق أصحاب البشرة البيضاء كما اتهمت هيئة إسلامية بانون بنشر الشائعات ونظريات المؤامرة المعادية للمسلمين. ومواقفه السابقة التي كانت تُبث أساساً عبر موقع بريتبارت وغيره من المنصات المحافظة خدمت كخريطة طريق للأجندة المثيرة للجدل التي اكتسحت واشنطن منذ تسلم ترامب.

وتذهب العديد من التقارير الإعلامية إلى الإشارة إلى أن بانون كان مهندس الكثير من القرارات المتخذة خلال أول أسبوعين لترامب في البيت الأبيض، بدءاً بالانسحاب من اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادئ ووصولاً إلى منع دخول المهاجرين من سبع دول إسلامية، وتذكر الكاتبة كاثرين دي يونغ في واشنطن بوست أن دوره كان مباشراً في وضع قانون الهجرة الأمر الذي تؤكده شبكة سي أن أن موضحة أن الدائرة المقرّبة من ترامب ومنها ستيفن بانون وضعت النقاط الأساسية للقرار حتى إن هذا الأخير كان يدير النقاش المتعلق بحاملي البطاقات الخضراء ويعطي التوجيهات في هذا الإطار.

ويصف ديفيد إغناتيوس المحلل الشهير في واشنطن بوست بانون بأنه كبير الإستراتيجيين الذي يسعى إلى تنظيم حركة شعبية عالمية من أجل القيم اليهودية - المسيحية وضد الإسلام الراديكالي، ثمّ يذهب إغناتيوس إلى أبعد من ذلك مشيراً إلى أنه المركز الفكري للإدارة الجديدة الذي روّج على مدى عقد تقريباً لرغبته بقلب أميركا والعالم رأساً على عقب وهو اليوم يقوم بذلك فعلاً، ولكن لعلّ الأكثر اختصاراً لموقع بانون الجديد في الحياة الأميركية هو ما ذكرته نيويورك تايمز في افتتاحيتها إذ رأت أن قرار توسيع صلاحياته يعني أنه يتموضع ليكون رئيس الأمر الواقع.

ويخشى كثيرون من أن يقنع بانون رئيسه بما كان يردده من أفكار إبان الحملات الانتخابية ولعل أخطرها توقعاته التي ظل يبوح بها في لقاءاته الإذاعية، إذ تكهن بتورط أميركا في حروب في شرق آسيا والشرق الأوسط، وقال إن الولايات المتحدة ستدخل في حرب كبيرة في الشرق الأوسط وأخرى في الصين في غضون السنوات العشر المقبلة.

ووصف بانون في مقابلاته الإذاعية الإسلام بالدين التوسعي تماماً مثل الصين، وزعم في هذا الصدد أن الإسلام والصين متحفزان ومتغطرسان وزاحفان للأمام.

وأضاف في مقابلة إذاعية في فبراير 2016 أن الإسلام والصين يعتقدان أن الغرب اليهودي المسيحي في تراجع، زاعماً أن المسيحية في العالم مهددة، ولم يكتف بانون بذلك فقد نعت الإسلام بالدين الأكثر تطرفاً في العالم.

ويلخص جورج فريدمان، مدير مركز ستراتفور الأمريكي اليميني وأحد صناع إستراتيجيات السياسة الأمريكية، إستراتيجية ترامب بأنها محاولة للعودة بالعالم الإسلامي إلى الوضع الذي كان قائماً في عام 1954 أي في موقف دفاعي مع روحٍ منقسمة حيث إن المفتاح هو كسر ثقة العالم الإسلامي المتنامية في ذاته. ووفق فريدمان فإنه بالنسبة لـترامب إن العدو هو الحيوية والثقة المتزايدة ولا يمكن القضاء على الإسلام السياسي، لكن يمكن القضاء على ثقته، ومفاهيم مثل التطرف التي تستخدم للجدال حول الإجراءات القاسية تفوت هذه النقطة فليس الغضب على القسوة هو ما يأتي بالتطررف لكنه الفخر والأمل في المستقبل، وقد تقود الموافقة على هذه الفكرة إلى نقاش حول إقحام قواتٍ أمريكية ليست مصممة فقط لتحطيم حركةٍ ما ولكن لترسيخ اليأس من الإسلام السياسي لقرنٍ آخر.
لقد حاول بوش في حربه الأولى مجابهة العالم الإسلامي بالغطرسة العسكرية الأمريكية وتفردها بالقوة حتى عن أقرب حلفائها فاستنزفت في جبال الأفغان ودفعت ثمناً غالياً في الفلوجة والأنبار.

ثم جاء أوباما ليحاول أن يضمد الجرح، فحاول بالقوة الناعمة والإدارة من الخلف تجنب المواجهة المباشرة وضرورة فصل الإسلام عن ما يطلق عليه إرهاب، ولكن جاء تحالفه مع إيران وموقفه السلبي من الربيع العربي ليثبت أن الحرب على الإسلام مستمرة بشكل مختلف، ولكن أبى الرجل إلا أن يرحل وقد اعترف الخبراء بالتراجع الأمريكي في بلاد المسلمين أمام قوى أخرى صاعدة.

وجاء ترامب الذي ملأ الدنيا هو ومستشاروه بتصريحاته المتطرفة الواضحة ضد الإسلام والمسلمين، ولكننا نكاد نجزم أن إستراتيجيته وحربه لن تختلف عن سابقتيها وستخيب كما انهارت الحروب الأخرى.


 


[1]  أ. د. قاسم حسين صالح، شخصية ترامب.. تحليل سيكولوجي، صحيفة المثقف ( http://cutt.us/vz44Y ).

[2]  استفدت من عرض الكتاب للباحث أحمد عبد العليم في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة على هذا الرابط: ( https://goo.gl/VQp63z ).

 

 

أعلى