الاعتراضات على قاعدة التعاون
توطئة:
بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون جامعاً للمؤمنين، رحمة لهم من عذابات الفرقة والنزاع وثائرات الاحتراب، وقد كثر في نصوص الشريعة بيان هذا المعنى قولاً وفعلاً وتقريراً، وبيان أن الاختلاف والتنازع بين المؤمنين من وسائل التهافت والفشل ووصائل الضعف والشلل في الأمة.
ويجري هذا المجرى أن كانت شعائر الإسلام الظاهرة من صلاة وصيام وحج تأخذ صورة الاجتماع العام، وتزكو في خصوبة الائتلاف والاتحاد، ولولا هذا لما شيدت المساجد بالقربات، وأفعمت الجوامع والمواسم بالذكر، ولما تراءى المسلمون الأهلة، واحتشد سوادهم الكثير في صعيد عرفات. وكان أولى الناس بالريادة في موارد جمع القلوب وتوحيد الصفوف هم أولو الأحلام منهم والنهى، وأهل العلم والإيمان، وذوو النجدة والكفاية، الذين هم غيث الأبدان والقلوب والأرواح، فإنَّ أصلح هذه الأمة قلوباً علماؤها، وهم أقوم الناس بصراط الله المستقيم فيها، هذا هو الأصل فيهم، بخلاف المغضوب عليهم والضالين، فإن علماءهم من أعظم أسباب انحرافهم وفرقتهم، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع من كتبه.
وقد وعد الله هذه الأمة أن يكون اجتماعها معصوماً، وأن يكون ائتلاف قلوبها والتئام شملها واتحاد سوادها نافياً خبث الضلالات، فلا خشية على الحق من الاجتماع، كما روى ابن أبي عاصم في السنة من حديث كعب بن عاصم الأشعري أنه سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول: «إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة»، فإن أمكن اجتماع الكل فبها ونعمت، وإلا كان المطلوب اجتماع الأكثر فالأكثر، ولا يترك اجتماع البعض لامتناع اجتماع الكل في بعض الأحوال، فإن الممكن من الشرائع لا يسقط لامتناع ما هو أعلى منه، وإن الميسور لا يسقط بالمعسور، في جملة طيبة من قواعد التأليف والتخفيف مستنبطة من قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[1].
فأين هذا ممن يظن أن اجتماع المسلمين ضلالة، أو هو سبيل إلى الضلالة، وهل هذا إلا غمط لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمر بالاجتماع، وأين منه من يظن أن ترتيب العداوات وتطمين المسالم وإنصاف المخالف - ولو كان غير مسلم - محدث في الدين، وخطر عليه، ولو كان هذا في سياق التحرز من التباس الحق بالباطل، والله تعالى يقول: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82]، فمع أن الآيات الكريمة أرشدت إلى التسامح في معاملة المخالف كهؤلاء القسيسين، إلا إنها عطفت بعد ذلك بالتحذير مما وقعوا فيه من تغيير الأحكام، فقال تعالى بعد أربع آيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]، فالتسامح مع المخالف لا يناكف التحرز من الوقوع في أغلاطه، فهذا لون وذا لون.
ولا تعارض البتة بين خفض الجناح للخلق والحزم في الحق، فهذا باب وذاك باب، ولهذا جمعهما الله في سياق واحد في موضعين من كتابه لينفي التمانع بينهما، قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِـــينَ 88 وَقُلْ إنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْـمُبِــــينُ} [الحجر: ٨٨، 89]، وقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِـمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ 215فَإنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 215، 216].
كما لا تعارض بين التعاون في مشاريع الخير والصلاح مع المخالف وإنكار مخالفته، فبعد أن بين الله تعالى ما وقع من مشركي مكة من ظلم؛ عطف بالتعاون معهم ومع غيرهم في تعظيم المسجد الحرام، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ} [المائدة: ٢]، فمن جعل المخالفة سبباً لعدم التعاون على ما فيه الخير - إذا تعين سبيلاً لتحصيل المصلحة الراجحة - فقد وقع في المخالفة وصار ممن يجرمه هذا الشنآن على الاعتداء.
هذا وإن في جنس الإنسان ضعفاً جبلياً غائراً في عموم أفراده، يحفزه على الاجتماع مع أشباهه وأمثاله، ليتقي بهم نوائب الدهر وخطوب الزمان، وهذه فطرة بشرية، جاءت شرائع السماء بتزكيتها وتعزيزها، لكنها ارتقت بها من مجرد الاجتماع الضروري الطبيعي الملتئم على العصبية الجاهلية، إلى الاجتماع الإيماني الأخلاقي المقصود، الملتقي على الخير والبر والإحسان، واشتُق لهذا النوع من الاجتماع اسم «الأمة»، الذي يحيل إلى معاني الاتحاد والالتقاء، فهي ضد الفرقة والتشرذم، ويطلق على اجتماع الجمع الغفير من البشر في شاسع من الأرض، الذين تربطهم عناصر مميزة، على قصد رسالة ثقافية وحضارية متماسكة، ولهذا تطلق «الأمة» على الملة والدين والمنهج الفكري، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، ومعنى الأمة يأتي كجهاز جامع ديني مدني لأجيال من الناس توافقوا على ذلك.
مدخل منهجي:
موضوع ائتلاف المسلمين واجتماع كلمة قادتهم وعلمائهم وذوي الحل والعقد منهم هو فريضة دينية، ومصلحة دنيوية، وهي وإن كان لها هذا الأصل الديني، إلا إنها في تفاصيلها وإجراءاتها تدبير دنيوي معقول المعنى، يلتفت إلى مناطات اجتماع الكلمة ووحدة الصف، ولا يحتاج في آحاد أفراده وصوره الجزئية إلى دليل خاص على الإقدام، بل كل ما يحقق هذا المعنى فهو مطلوب بالأمر الأول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
والتصويب والتخطئة في تفاصيل مشاريع جمع الكلمة لا يرجع إلى جادة قطعية، بل هو من مسارح العقول وموارد الظنون، وهو يأخذ أحكام نظائره في أبواب التدبير والإدارة والسياسة والإيالة، وهو من جهة أرحب من باب الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الحسبة راجعة إلى جادة أدلتها من الشريعة من حيث الأصل، تلك التي رسمت معايير المعروف والمنكر في الجملة، وإن كان بابها مصلحياً أيضاً، يوزن بأوصاف شرعية معقولة المعنى، ثم النظر في باب الحسبة أوسع منه في أبواب المعاملات المالية والشخصية المنوطة بأوصاف منضبطة، تفيد الوجوب تارة والحرمة تارة والإباحة ثالثة، وهكذا بقية رتب الحكم التكليفي، ثم إن المعاملات أوسع من أبواب العبادات، التي يغلب عليها التوقيف والتعبد، ولا تسبح العقول فيها إلا على قد المنصوص ووزانه، ولا تجاوزه إلى اقتراح قربات بالنظر العقلي المرسل، فهذه فروق تكشف مراتب أبواب الأحكام، من حيث التوقيف أو المعقولية، وتبين إيغال التدبير السياسي والمصلحي وإعراقه في موارد النظر العقلي ومراشد التدبير المصلحي، ومنه تفاصيل اجتماع الكلمة وتدابير وحدة الصف للمسلمين كما تقدم.
وفيما يأتي عرض لجملة الاعتراضات والأسئلة التي توجه لقاعدة الاجتماع والائتلاف بين المسلمين، أعرضها مع مناقشتها على سبيل الإيجاز، بما يناسب المقام.
سؤال الإرجاء:
وحاصل هذا السؤال: أن الدعوة إلى قاعدة التعاون وجمع الكلمة تستلزم حداً أدنى من التسامح مع المخالف وقبول الاختلاف، وهو ما يتوافق مع عقيدة المرجئة - في نظر هؤلاء - المخالفين للسلف في قولهم بإرجاء الحكم على المخالفين إلى الله.
وإذا فحصنا هذه التهمة لم نجد ما يسندها في هذا الباب، لأن الإرجاء يتعلق بالحكم على الشخص نفسه ومصيره في الآخرة، لا في حكم التعامل والتعاون معه، فلا تلازم بينهما، فالحكم على المقالات والأشخاص مرجعه الأوصاف الشرعية الموضوعية، وأما التعاون على الخير فمرجعه المصلحة الشرعية المعقولة، عامة كانت أو خاصة، فقد تعاون النبي صلى الله عليه وسلم وتعاقد مع كثير من المخالفين، من المنافقين واليهود والنصارى والمشركين، ولم يكن موقفه الديني إزاءهم مانعاً من التعاون معهم على الخير.
وقد جرى الخوارج في عصور لاحقة للقرون المفضلة على اتهام مخالفيهم ونبزهم بألقاب، منها: الإرجاء، فكان ماذا؟ وكان من مزالقهم في هذا الباب: استدعاؤهم الأسماء والأحكام الشرعية في غير مواردها، وخلط العقائد وأحوال القلوب بالتدابير والسياسات، ففرقوا المسلمين أولاً، ثم تفرقوا هم فيما بينهم شيعاً.
سؤال الشمولية:
حاصل هذا السؤال: لزوم تطبيق الشرع كله، في كل وقت، وكل زمان ومكان وحال، من غير مراعاة لأي شيء آخر في نظر هؤلاء. وواضع هذا السؤال يعتقد أن هذا موجب أدلة العموم في الشريعة، التي أفادت عموم أحكامها بإطلاق، وهو معنى قطعي صحيح من حيث الأصل، لكن خفي على هؤلاء أن هذه الأحكام مع عمومها هي منوطة بأوصاف منضبطة وبتوفر شروط وانتفاء موانع، وإن لم يلتفت إليها من يتصدى لتنزيل أحكام الشرع على الواقع فسوف يتخبط في الأحكام والوقائع خبط عشواء. ولما كثر غلط الناس في تعميم ما هو خاص وتخصيص ما هو عام في الشريعة كتب الإمام الشافعي رسالته الأصولية، ليحرر العقل الفقهي من أوهام التعميم والتخصيص الخاطئ، في جملة أخطاء أخرى تخل بالفقه، ولا خلاف بين العلماء في أن صحة تنزيل الآيات موقوفة على حسن تحرير الدلالات.
سؤال التميز:
وحاصل هذا السؤال: أن الاختلاف كثر في هذه الأمة، ولا بد لتمييز الحق من تميز أهله عن السواد الأعظم بانفراد وشعار، دفعاً للتلبيس على عموم الأمة، هكذا يقرر هؤلاء.
والتميز قد يطلب في بعض المواضع والبلاد لمصلحة راجحة، إذا لم تحصل المصلحة بغيره، ولكنه استثناء، والأصل المحكم هو الاستمساك بوحدة الأمة، والتزام السواد الأعظم، وعدم تميز بعضها عن بعض في الشعار، قال تعالى: {إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، وهذا بالطبع في الشأن الديني، كما قال غير واحد من السلف: «دينكم دين واحد»[2]، فأما في التنوع الدنيوي فهذا مطلوب، وهو من ضرورات العيش.
وأولئك الباحثون عن التميز باسم ورسم؛ لما كانوا من جملة من فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، بحثوا عما يميزهم عن من افترقوا معهم وعنهم، وصارت كل فرقة منهم ترى نفسها المعبر الصحيح عن الدين، وهذا هو مقتضى الفرقة المذمومة ولا بد، فإنه لا تنحاز طائفة عن سواد المسلمين بباعث ديني، إلا وهي ترى نفسها أنها الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وأن غيرها ليس كذلك. وإلا فإن التمييز الأعظم هو الانتساب إلى الاسم الذي نسبنا الله تعالى إليه، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْـمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا } [الحج: 78]. وهل تترك السنن والشرائع لأجل مخالفة من خالف، وهل هذا إلا مسارعة في نقض عرى الإسلام عروة عروة.
سؤال المثالية:
ومقتضاه اشتراط الكمال في من يصح إجراء قاعدة التعاون معه والاجتماع إليه، وهو سؤال قديم في هذه الأمة، نزع به الحرورية الأوائل، حين اشترطوا على عثمان وعلي رضي الله عنهما أن يسيرا سيرة الشيخين، وزادوا في ذلك شروطاً لم تكن قبل، وحاصل هذا السؤال: الظن بإمكان إلغاء الاختلاف جملةً بين المسلمين، وإعمال الولاء والبراء في باب الاجتماع والتعاون، فلا اجتماع ولا تعاون عندهم إلا مع من يوافقهم في تفاصيل مذهبهم ورأيهم وعلاقاتهم، ومن خالفهم تبرأوا منه ونبذوه، ولو فرض أن أحداً وافقهم على كل ذلك فوالوه، ثم وجدوه يوماً نزع بشيء من اللين مع مخالفيهم وجدتهم ينبذونه ويناصبونه العداء. وهذه المثالية التي يشترطها البعض للاجتماع والتعاون بين المسلمين - أن يتفقوا في آرائهم ومذاهبهم - هي باب من أبواب الغلو في الدين، فقد قدر الله أن تتفاوت الآراء والأفكار، في كل عصر ومصر، ولو فرض أن النصوص الواردة الآمرة بالاجتماع كانت مشروطة بهذه الشروط لكانت من قبيل المسألة الموسومة في الأصول بالتكليف بما لا يطاق، وهو ممتنع على التحقيق لأن الأمر يستدعي مأموراً، وما لا يتصور وقوعه لا يصح استدعاؤه. والقاعدة أنه ما اشترط أحد الكمال في غيره إلا ابتلاه الله بالنقص، واعتبر ذلك بالخوارج الذين رفضوا موالاة علي رضي الله عنه ومن معه من خيار المؤمنين، من أنفق من قبل الفتح وقاتل، وأعرضوا عن سائر الصحابة الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا ووعدهم الله الحسنى، وتركوا من يقرون بأن الله تعالى علم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم، ورضي عنهم، وتركوا جميع الصحابة، وهم الأشداء على الكفار الرحماء بينهم، الركع السجد، المبتغون فضلاً من الله ورضواناً، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، المثنى عليهم في التوراة والإنجيل من عند الله عز وجل، الذين غاظ الله بهم الكفار، المقطوع بأن باطنهم في الخير كظاهرهم، لأن الله عز وجل شهد بذلك، فلم يبايعوا أحداً منهم، وبايعوا شيث بن ربعي مؤذن سجاح أيام ادعت النبوة[3].
سؤال الاحتساب
وحاصله: أن الأخذ بقاعدة الاجتماع يقتضي قدراً من السكوت على ما يراه الإنسان خطأً أو مخالفة أو منكراً، لأن الناس يتفاوتون في آرائهم ومذاهبهم، ويلزم من هذا اجتماع المختلفين، والتقاء المتباينين في الآراء والمذاهب، ويتبع هذا عادة التغاضي عن بعض المخالفات، وهذا - عند هؤلاء - محل مؤاخذة، وقد يحتجون بنصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي كثيرة، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْـمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]. ولا شك أنه لا تمانع بين الاجتماع والتناصح، ولا يلزم من النصح هجر المنصوح في كل حال، بل النصح من القريب المحبوب أجدر بالقبول في العادة، فإن أصل كل فعل: النية والمحبة، وهذان يتحققان في صورة الاجتماع أكثر منهما في صورة الفرقة والنزاع، وأيضاً فالأمر والنهي من المقامات الدينية القرآنية، بيد أنهما مشروطان بما يحقق مقصودهما من تكثير المصالح وتقليل المفاسد، كشأن أمثالهما من مقامات الدين ومناصبه، وأيضاً فإن من مشمولات الأمر بالمعروف الأمر بالاجتماع ونبذ الفرقة، فقاعدة الاجتماع نفسها هي من مناطات الأمر بالمعروف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «من الأمر بالمعروف: الأمر بالائتلاف والاجتماع، والنهي عن الاختلاف والفرقة»[4]، وهذا مأخذ لطيف من هذا الإمام، فإن بعض المتدينة يظن أنهما متناقضان، فربما أخذ بأحدهما وهجر الآخر، فوقع في المؤاخذة التي فر منها.
وحاصل القول: أن السعي في جمع كلمة أهل الإسلام فريضة على أولي العلم والدعوة في هذه الأمة، وكل ما يخشى منه في الاجتماع، سيقع مثله وأشد منه في حال الاحتراب، وتأجيل قرارات الاجتماع يزيد النكاية في المؤمنين لا غير، فالمتعين المبادرة بالسعي في جمع الكلمة، قبل فوات الأوان:
وخير الرأي ما استقبلت منه
وليس بأن تتبّعه اتّباعاً
[1] البخاري (7288)، مسلم (412).
[2] تفسير بن كثير (5/371).
[3] ينظر: الفصل؛ لابن حزم (4/122).
[4] مجموع الفتاوي (3/421).