فهم المراد عند أبي العباس
فهم مراد النصوص الشرعية، وفقه المقصود منها، والدراية والفهم لمقالات العلماء والطوائف والفرق؛ إن ذلك يعد من المعالم المنهجية الأصيلة التي تميز بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[1].
لقد احتفى أبو العباس بهذا المعلم الجليل تنظيرًا وتأصيلًا، وحققه واقعًا وتطبيقًا، فبيّن أن فهم القرآن هو طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان[2]، وقرر أن «معرفة مراد الرسول ومراد أصحابه هو أصل العلم وينبوع الهدى»[3]، وقال في موضع آخر: «معرفة ما جاء به الرسول وما أراده بألفاظ القرآن والحديث هو أصل العلم والإيمان والسعادة والنجاة»[4].
وأكد على وجوب الفهم والتدبر لنصوص الوحيين فقال: «الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقل، ويعرف برهانه ودليله»[5]، وأن فهم معاني القرآن هو المطلوب والمقصود كما في قوله: «المطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به، فإن لم تكن هذه همة حافظه لم يكن من أهل العلم والدين»[6]. بل جزم أن مقصود الخطاب في النصوص الإلهية النبوية هو الإفهام[7]. وطالما كرر أبو العباس وأكد على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم وأفصح وأنصح، فهو أحرص الناس على تفهيم المخاطبين، وأقدرهم على البيان[8].
وكما هي منهجية ابن تيمية المطردة في تقرير الجوانب العملية، والاهتمام بالأفعال لا مجرد التروك، والاحتفاء بتحريك الوجدان والحال القلبي، وليس مجرد معرفة بلا عمل ولا إرادة؛ فإنه لم يقتصر - هاهنا - على إثبات مجرد الفهم التنظيري المعرفي، بل أكد أن الفهم يستلزم عمل القلب والجوارح؛ كما بسطه في غير موضع.
ومن ذلك أنه لما ساق قوله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين» قال: «كل من أراد الله به خيرًا فلابد أن يفقهه في الدين، فمن لم يفقهه في الدين لم يرد به خيرًا، وليس كل من فقه في الدين قد أراد الله به خيرًا، بل لابد مع الفقه في الدين من العمل به، فالفقه في الدين شرط في حصول الفلاح فلابد من معرفة الرب تعالى، ولابد مع معرفته من عبادته»[9]. كما بيّن في كتاب آخر أن من كان أفهم للقرآن فهو أشد تعظيمًّا له[10].
وإذا كان فهم النصوص الشرعية مأمور به ومشروع، وكذا فهم مقالات الأشخاص والطوائف هو مقتضى ما يحبه الله تعالى من العلم والعدل، فإن هذا الفهم هو مقتضى الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ كما بسطه ابن تيمية في «القاعدة المراكشية»، فكان مما سطره: «إن العادة المطردة التي جبل الله عليها بني آدم توجب اعتناءهم بالقرآن لفظًا ومعنى، بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد فإنه قد علم أنه من قرأ كتابًا في الطب أو الحساب أو النحو أو الفقه أو غير ذلك فإنه لابد أن يكون راغبًا في فهمه وتصور معانيه»[11]. بل غلّظ ابن تيمية مقالة أهل التجهيل الذين يزعمون أن آيات الصفات الإلهية مجهولة المعنى، فقال: «أعظم أبواب الصد عن سبيل الله وإطفاء نور الله والإلحاد في آيات الله دعوى كون القرآن لا يُفهم معناه»[12].
ثم إن فهم الكلام وفقه الخطاب حاجة ماسة من حوائج المجتمعات، كما وضحه ابن تيمية بقوله: «لابد للإنسان أن يفهم كلام بني جنسه، إذ الإنسان مدنيّ بالطبع، لا يستقل بتحصيل مصالحه، فلابد لهم من الاجتماع للتعاون على المصالح، ولا يتمّ ذلك إلا بطريق يعلم به بعضهم ما يقصد غيره»[13].
ومن أجل فهم ما جاء به الرسول فيجب على الشخص القادر أن يتعلم لغة ذلك الرسول، فإذا لم يتحقق للشخص فهم كلام الرسول إلا بتعلم لغته فإنه يتعين عليه أن يتعلمها؛ كما قرره ابن تيمية قائلًا: «ومن لم يمكنه فهم كلام الرسول إلا بتعلم اللغة التي أُرسل بها وَجَب عليه ذلك؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به واجب»[14]. وقال في مصنف آخر: «علينا أن نعرف لغة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يخاطب بها؛ فإنها هي الطريق إلى معرفة كلامه ومعناه»[15].
وفي المقابل فإنه حكى الاتفاق على جواز ترجمة معاني النصوص الإلهية إذا احتيج إلى ذلك في حق من لا يحسن اللغة العربية، فقال رحمه الله: «اتفق المسلمون على أن القرآن والحديث يُترجم بغير لفظ الرسول وغير لغته لمن احتاج إلى ترجمته ممن لا يعرف العربية»[16].
ويلحظ ما عليه ابن تيمية من فقه للدعوة ورحمة بالخلق عندما قرر أن للمشرك أن يسمع كلام الله سماع فهم وعقل، كما في قوله تعالى: {وَإنْ أَحَدٌ مِّنَ الْـمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ} [التوبة: ٦] فقال أبو العباس: «قد علم أن المراد أن يسمعه سمعًا يتمكن منه فهم معناه»[17].
وبالجملة فإن مَعْلَم فهم مراد القائل وتحري مقصوده حاضرٌ في تحريرات ابن تيمية العلمية ومواقفه العملية، فطالما أسهب في الحديث عن الألفاظ والمصطلحات في العقيدة والسلوك.. وحرر ما فيها من إجمال واشتراك وقعّد وجوب التفصيل فيها، وبيان ما تحتمله من حق وباطل. وبهذا التفصيل والبيان يرتفع أكثر الاختلاف، ويحصل العلم والإنصاف.
ولأجل تحقيق الفهم الصحيح لنصوص الوحيين فإن أبا العباس يستصحب جملة قواعد وضوابط يحصل بها فهم المراد وفقه الخطاب، منها:
اليقين والثقة بأن النصوص الشرعية مستوعبة جميع أحوال العباد؛ ففيها الغناء والشفاء وإنما القصور من أفهام الناس، فقال رحمه الله: «النصوص محيطة بجميع أحكام العباد، فقد بيّن الله تعالى بكتابه وسنة رسوله جميعَ ما أمر الله به، وجميع ما نهى عنه، وجميع ما أحلّه وجميع ما حرّمه، وبهذا أكمل الدين، حيث قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: ٣] ولكن قد يقصر فهم كثير من الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص، والناس متفاوتون في الأفهام»[18]. ثم إن اعتقاد الحق الثابت في نصوص الوحيين يقوي الإدراك ويصحح الفهم كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: ٦٦][19].
ومنها: «أن حمل كلام الله ورسوله على معنى من المعاني لابد فيه من شيئين:
أحدهما: أن يكون ذلك المعنى حقًّا في دين الإسلام يصلح إخبار الرسول عنه.
الثاني: أن يكون قد دلّ عليه بالنص لفظ يدل عليه دلالة لفظ على معناه»[20].
ومنها: الاعتناء بفقه الصحابة - رضي الله عنهم - للنصوص الشرعية، فقد شاهدوا التنزيل، وهم أعلم بالتأويل، ولديهم من الفقه والدين ما ليس لغيرهم؛ فهم أبرّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، ومن له اختصاص بالرسول - كما هو شأن الصحابة - يعلم بالاضطرار ما لا يعلمه غيره[21].
ومن تقريراته في منزلة فهم الصحابة: «وللصحابة فهم في القرآن يخفى على أكثر المتأخرين... وقد قال الإمام أحمد: ما من مسألة إلا وقد تكلم فيها الصحابة أو في نظيرها»[22].
وقال في مصنف آخر: «وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - مع أنهم أكمل الناس علمًا نافعًا وعملًا صالحًا - أقل الناس تكلفًا، يصدر عن أحدهم الكلمة والكلمتان من الحكمة أو من المعارف ما يهدي الله بها أمة»[23].
ومنها: العناية بدلالة «السياق» للنصوص القرآنية والنبوية، والنظر إلى ما قبل النص وبعده، ومراعاة القرائن المعتبرة، فإن ذلك هو الذي يعطي النصوص حق دلالتها وصحة فهمها.
ومن ذلك قوله: «ينظر في كل آية وحديث بخصوصه وسياقه، وما يبيّن معناه من القرائن والدلالات، فهذا أصل عظيم مهم نافع في باب فهم الكتاب والسنة، والاستدلال بهما مطلقًا»[24].
وبيّن - رحمه الله - أن سبب الغلط في فهم الأحاديث في الصفات الإلهية هو أن الغالطين يبترون ألفاظ الحديث ويقطعونها، كما وضحه بقوله: «إن هؤلاء يعمدون إلى ألفاظ الحديث يقطعونها، ويفرقون بينهما، ثم يتأولون كل قطعة بما يمكن وما لا يمكن»[25].
والحاصل أن فهم الخطاب وعقل النصوص والمقالات - كما حققه ابن تيمية - يورث ثباتًا واستقرارًا في المعتقد، واطرادًا في المنهج، ويخلص النفوس من ظلمات البطلان، وشكوك المتهوكين، وعمايات الحيارى التي عبر عنها المعريّ بقوله:
ونظيري في العلم مثلي أعمى
فترانا في حندس نتصادم
:: مجلة البيان العدد 341 مـحـرّم 1437هـ، أكتوبر - نوفمبر 2015م.
[1] أجاد الباحث د. عبدالله الدعجاني - في أطروحته المطبوعة لنيل الدكتوراه والموسومة بـ«منهج ابن تيمية المعرفي» - في تجلية هذا الأصل وتحريره كما في الفصل الثاني: «الواقعية اللغوية» من الباب الثاني: «الواقعية المعرفية»، وقد انتفعت بذلك الكتاب.
[2] ينظر: الفتاوى 15/211.
[3] شرح حديث النزول ص230.
[4] الفتاوى 17/355.
[5] الفتاوى 13/145(الفرقان).
[6] الفتاوى 23/55.
[7] ينظر: الدرء 5/243.
[8] ينظر: الدرء 5/373، الفتاوى13/136.
[9] الصفدية 2/ 266، وينظر: الجواب الصحيح 4/ 274.
[10] ينظر: بيان تلبيس الجهمية 8/ 332.
[11] القاعدة المراكشية ص29، وينظر: جواب الاعتراضات المصرية ص14.
[12] جواب الاعتراضات المصرية ص24.
[13] الدرء 7/136.
[14] الجواب الصحيح 1/189.
[15] بيان تلبيس الجهمية 7/399.
[16] بيان تلبيس الجهمية 8/474، وينظر: الجواب الصحيح 3/203 والدرء 1/43.
[17] الجواب الصحيح 1/68.
[18] جامع المسائل 2/272.
[19] ينظر: الفتاوى 4/10.
[20] السبعينية (بغية المرتاد) ص357.
[21] ينظر: الدرء 1/ 184، 8/ 53.
[22] الفتاوى 19/ 200، 285.
[23] الفتاوى 4/ 138.
[24] الفتاوى 6/18، وينظر: منهاج السنة النبوية 7/145، والجواب الصحيح 3/91.
[25] بيان تلبيس الجهمية 7/374.