• - الموافق2024/12/04م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
إمامة الطغيان

إمامة الطغيان

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير البرية محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد:

فإن النفس الإنسانية هي مكمن كل خير أو شر يصيبها ويلحق بها، وإن دراسة أحوال الماضين تكشف لنا كم كانت نفس الإنسان التي بين جنبيه هي سبب سعادته أو شقاوته، وهذا مما يلزمنا بتعاهد النفس لمعرفة طموحاتها الشريرة ولمعرفة كيف يكبحها ويلزمها طريق النجاة، وإن من الشخصيات المشهورة على مدى التاريخ كله التي كان لنفسها الشريرة الأثر الواضح على ما حل بها وبقومها هي شخصية فرعون الطاغي الملعون صاحب الأوليات في الشر والفساد والتي لو فتشنا في الشخصيات الشريرة اللاحقة لشخصية فرعون لوجدنا تطابقاً مذهلاً في التصرفات والأقوال وهو ما يكشف لنا جانباً من أسباب عناية القرآن الكريم الشديدة بقصة موسى عليه السلام كليم الله تعالى مع هذا الطاغية الملعون وتكرارها في القرآن حتى كادت هذه القصة أن تستحوذ على قصص القرآن الذي جعله الله عبرة للناس كما قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: ١١١]. وكما جعله الله عبرة للناس فقد جعله تثبيتاً لقلوب رسله في مواجهة الطغاة المشركين من عتاة الملأ في زمنهم قال تعالى: {وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْـحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].

لم يكن عدم وضوح الحجة والدليل أو عدمها أصلاً سبب صدود فرعون عن اتباع الحق والالتزام به، وإنما الكبر والاستنكاف عن اتباع الحق هو ما صد فرعون كما ذكر ذلك القرآن الكريم في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ، وقوله: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْـحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} [القصص: 39]، وقال فرعون وملؤه لموسى وأخيه هارون عليهما السلام: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس: 78] فكان حرصهم على متابعة آبائهم في ضلالهم إضافة إلى حرصهم على أن تكون الكبرياء أي الملك والسلطان والطاعة لهم، وهذا ما صده عن الإيمان وجعله يستنكف أن تكون الكبرياء ليست له وإنما لموسى عليه السلام وأخيه هارون، وقد كان لكل ذلك أثره الكبير على تصرفات فرعون وملئه وأقوالهم فهم لا يعترفون بظلمهم وقهرهم للناس بل يرون أن ما يقومون به من قتل الأبناء الذكور واستحياء الإناث حق لفرعون للحفاظ على ملكه ولادعائه الإلهية والربوبية فقد قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] ، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38] ، وتوعد من اتخذ إلهاً غيره بالسجن فقال لموسى عليه السلام: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْـمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29]، واستخف قومه فقال لهم مدللاً على دعواه الباطلة بالربوبية والإلهية: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51] ، ورأى أن إيمان من آمن من السحرة بموسى عليه السلام إنما هو مكر وخدعة ومؤامرة منهم لإخراج أهلها منها {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّ هَذَا لَـمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْـمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 123]، ورأى فرعون في نفسه أنه القدوة لهم وأنه أعلم منهم بما ينفعهم وأنه يهديهم إلى سبيل الرشاد فقال لهم: {مَا أُرِيكُمْ إلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29]، ورأى في دعوة موسى عليه السلام تبديلاً لدين المصريين المؤمنين بربوبية فرعون وإلهيته وتغييراً لهويتهم وأن في ذلك إظهاراً للفساد في الأرض قال الرازي: و «المقصود من هذا الكلام بيان السبب الموجب لقتله وهو أن وجوده يوجب إما فساد الدين أو فساد الدنيا، أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو الذي كانوا عليه، فلما كان موسى ساعياً في إفساده كان في اعتقادهم أنه ساع في إفساد الدين الحق، وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد أن يجتمع عليه قوم ويصير ذلك سبباً لوقوع الخصومات وإثارة الفتن، ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم لا جرم بدأ فرعون بذكر الدين فقال: {إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ}، ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال: {أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]». وهو ما يستوجب قتله لذا طلب من الشعب موافقتهم على قتله والسماح له بفعل ذلك حتى يكون قتله بمنزلة طلب أو موافقة الإرادة الشعبية على قتله وليس إرادة حاكم فقال فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] أي دعوني أو اتركوني أقتل موسى، وهل كان أحد من الناس يمكنه منع فرعون من عمل ما يريد حتى يطلب منهم ذلك الطلب؟ فإذا نظرنا في أفعال الطغاة في كل العصور وأقوالهم وتصرفاتهم نجد أنها تجري على منوال أفعال فرعون وأقواله وتصرفاته فالروح واحدة وإن تغيرت المفردات اللفظية، وهو ما يبين أوليته في الشر والفساد وأنه إمام في الطغيان، وأن الطغاة تبع له كما بين تعالى ذلك بقوله: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ 41 وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْـمَقْبُوحِينَ} [القصص: 41، 42] ، قال الطبري: «يقول تعالى ذكره: وجعلنا فرعون وقومه أئمة يأتم بهم أهل العتو على الله والكفر به، يدعون الناس إلى أعمال أهل النار {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ} يقول جل ثناؤه: ويوم القيامة لا ينصرهم إذا عذبهم الله ناصر، وقد كانوا في الدنيا يتناصرون، فاضمحلت تلك النصرة يومئذ».

 وقال ابن تيمية: «قال بعض العارفين: ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، غير أن فرعون قدر فأظهر، وغيره عجز فأضمر» ثم عقب على ذلك بقوله: «وذلك أن الإنسان إذا اعتبر وتعرف نفسه والناس، وسمع أخبارهم، رأى الواحد منهم يريد لنفسه أن تطاع وتعلو بحسب قدرته.

فالنفس مشحونة بحب العلو والرياسة، بحسب إمكانها، فتجد أحدهم يوالي من يوافقه على هواه، ويعادي من يخالفه في هواه، وإنما معبوده ما يهواه ويريده، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} [الفرقان: 43] ا.هـ ومثل هذا التصور نجده في طغاة اليوم ونجد أيضاً استغفال الشعوب عن طريق وسائل تزييف الوعي وسائل الإعلام؛ لتتابعه الشعوب على ضلاله رغم فساده ووضوح بطلانه.

ويستفيد المسلم من قصة فرعون أمور مهمة، منها:

معرفة السبب الذي به تكون الهلكة والضياع وهو الكبر والاستنكاف عن اتباع الحق. فيحذر المسلم هذا السبب من نفسه أشد الحذر ويقطع كل سبب يوصل إليه

وأن الباطل مهما علا وطغا وبغى فإنه زائل كما فعل الله بفرعون إذ أغرقه في اليم وهو في كامل عدته وسلاحه وحذره وهو بين جنوده وقواد جيشه، فلا يستعظم المسلم ما عليه أهل الباطل من قوة وعتاد ولا ييأس ويعلم أن نصر الله قريب ما دام مستمسكاً بالحق غير مفرط فيه، وأن الحق مهما كان أصحابه في ضعف فإنه ظاهر ومنصور ما دام أصحابه به مستمسكون، وأن النصر إذا لم تكن وسائله كافية لتحقيقه فإن الله تعالى يأتي به بآية من عنده ترعب الكافرين وتبث الطمأنينة والأمل في قلوب الموحدين.

أعلى