تهيئة مجالات الحياة

تهيئة مجالات الحياة

قبل أن يخلق الله تعالى الإنسان هيّأ له الحياة وأسبابها، وذلل له الأرض وخيراتها؛ فخلق  لأجله الجمادات والنباتات والحيوانات، وجعلها مُسخَّرة بين يديه يتصرف فيها بما يعود عليه بالنفع والفائدة، والحكمة من ذلك هي جعل الحياة صالحة لاستقبال هذا المخلوق المكرم المكلف بعمارة الأرض، والقيام على رسالة الاستخلاف بما يقيم الحياة، ويحميها من الاندثار والشقاء.

وقد كانت هذه العناية الربانية سابقة لمرحلة الخطاب التكليفي الذي رفع قدر الإنسان وأصبغ عليه صفة التكريم ثم جعل حياته محلاً للابتلاء؛ والدليل أن الخطاب الموحي بالتذليل والتمكين والتسخير كقوله تعالى في سورة لقمان: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15]، {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]، قد سبق خطاب التكليف {الَّذِي خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْـحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: ٢]؛ وهذا جدير بالبحث والتأمل مع توارد الآيات الممتنة على الإنسان بجعل الكون وآياته مسخرة لرسالة العمارة والاستخلاف حتى بلغ عددها ألفاً وثلاثمئة آية، وكلما خطُر الشيء في الإسلام وعظم أمره كلما كثر ذكره حتى ينتبه إليه المسلم البصير.

لكن الكثير من المتحدثين في الشأن الاجتماعي، يغفل عند الحديث عن الإنسان عن قضية العناية بتهيئة مجالات الحياة، التي هي محل وجود الإنسان وتفاعله، مما يجعل التنظير لمختلف قضايا الإنسان يكتنفه الغموض والاعوجاج وعدم وضوح الطريق في أحيان كثيرة؛ لذلك فإنه من الواجب أن يهتم القائمون على شؤون الناس وأمور الحياة حق الاهتمام بالعوالم الثلاثة التي يتفاعل معها الإنسان، وهي عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء؛ لأن الإنسان ابن هذه العوالم ومنها ينطلق نحو تحقيق رغباته الحسية والمعنوية في الحياة، ومنها ينطلق في رسم أهدافه وأحلامه وطموحاته، ولكن مجرد الاهتمام بها لا يكفي، وحتى يكون المنطلق سليماً وجب علينا كمجتمع تهيئة هذه العوالم وجوداً وعدماً؛ فمن غير المقبول ولا المعقول أن نطالب الإنسان بتفاعلات إيجابية ونافعة ونحن لم نهيئ له أسباب الرشاد المادي والمعنوي.

ولنا في هجرة المهاجرين رضوان الله عليهم نحو المدينة المثل الواضح؛ فقد هيّأ لهم النبي عليه الصلاة والسلام الأرضية وجهز لهم سبل الحياة، وذلّل لهم المصاعب بتلك المؤاخاة التاريخية، التي هيأت لكل واحد منهم مجالات الحياة المختلفة؛ حتى ينطلق في رحاب الدعوة والدولة انطلاقة سليمة. ويلاحظ أن التشريعات والأحكام لم تنزل إلا بعد تلك المؤاخاة التي جعلت المجتمع المدني النبوي مستقراً جاهزاً للانطلاق في مسيرة البناء والتشييد الدعوي والحضاري.

ومما يؤكد أهمية تهيئة مجالات الحياة المختلفة أن الحياة لا تخلو أبداً من عوائق ومنغصات ومصاعب ومتاعب، تضطر الإنسان أثناء سعيه لتحقيق رغباته وتلبية حاجاته إلى التأقلم معها تارة، ومحاولة التكيف مع ظروف طلبها تارة أخرى، لكن هذه العملية لا يمكن أن نضمن لها السلامة والرشاد الحضاري ما لم نهيئ لها المحل الذي تقع فيه؛ ونقصد بذلك إقصاء كل ما من شأنه أن يجعل الإنسان واقعاً تحت المشقة غير المقدور عليها، أو تحت التكليف بما لا يطاق أثناء سعيه في الحياة، وهذا ديدن الإسلام ومنهجه الراقي المبني على اعتبار تمازج الخير والشر، والمصلحة والمفسدة في الحياة الدنيا. وما حديث الفقهاء وعلماء المقاصد عن المشقة وأنواعها وتبيين المشقة المعتادة، والمشقة التي يستحيل على الإنسان تحملها، إلا من باب تهيئته بتهيئة مجالات الحياة لفعله، والحفاظ على عدم خروجها إلى دائرة الحياة المتسمة بالمشقة القاهرة.

صحيح أن الإنسان ابن بيئته وأن الشارع الحكيم قد حباه بقدرات جبارة للتفاعل مع الحياة والتكيف معها، والحؤول دون أن تتلفه ظروفها المتقلبة، فيستعمل صبره وذكاءه للتأقلم، وطاقته للتكيف، وذوقه للتناغم، وبصيرته للتغير، لكن لا يمكن الادعاء أن هذا المخلوق الضعيف بإمكانه أن يصدر سلوكيات قويمة وأفعالاً رشيدة في بيئة حياتية لم تنل حظها من التهيئة والرعاية والعناية؛ بل إن ذلك الإهمال سيؤدي إلى ظهور إنسان مسخ مشوه في تفكيره وتصرفاته، والتاريخ طافح بأمثلة لا حصر لها.

إن تهيئة كافة مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية، هي الكفيل برؤية قيم حياة حضارية ونبيلة، قيم حياة تتغلب فيها الرحمة على الحقد، والبذل على الشح، والعطاء على البخل، والتسامح والتعايش على الثأر والانتقام، والعمل على الكسل، والرسالية على الأنانية والشخصانية.

أما إهمال كل ذلك فإنه سيثمر بيئة متوترة، وحياة نكدة، واضطراباً مستمراً في تفاعلات مكونات المجتمع الواحد، وتمزقاً في نسيجه الثقافي والاجتماعي، وتسمماً في علاقاته المتشابكة، واختلالاً في شبكته الاجتماعية.

لذلك وجب على الجميع  كل في موقعه تهيئة الحياة ومجالاتها، وإيجاد الحقوق التي كفلها الرحمن للإنسان كالعدالة والرعاية والحرية والكرامة وغيرها، ثم الحفاظ عليها ودفع كل ما ينافيها، ويتأكد هذا في كل خلايا المجتمع انطلاقاً من الأسرة إلى المدرسة والمسجد والجامعة والشركة والوزارة والدولة، وهذا هو السبيل الوحيد الذي يكفل للمجتمع السعادة والطمأنينة والرخاء والأخوة الاجتماعية.

إن التهيئة الحقيقية الصادقة والبناءة هي التي توجد ذلك الإنسان الذي توجه إليه خطاب القرآن بالعمارة والاستخلاف والإحسان، ذلك الإنسان الذي تعلوه مسحة الرحمة، وتسكنه روح السماحة، وتظلله سحب العطاء.

:: مجلة البيان العدد  331 ربيع الأول  1436هـ، يناير  2015م.

 

أعلى