التعصب الأمازيغي في خدمة العلمانية

التعصب الأمازيغي في خدمة العلمانية

 

في أوائل عمليات بناء الدولة الحديثة في المغرب، قال «أكيست برنار»، أحد منظّري الفرانكفونية والأستاذ في مدرسة العلوم السياسية وكلية الآداب بباريس، في محاضرة له بتاريخ 25 فبراير 1927م في المدرسة نفسها:

«إذا أردنا تقوية الإسلام وتشجيعه يكون ذلك منا خطأ سياسياً؛ إنه ليس من مهامنا أن ننشر العربية والإسلام عند بربر المغرب وسود السودان إذا تركوا لهجتهم وتعلموا لغة أجنبية غير العربية، أي تعلموا الفرنسية التي هي واسطة أفكارنا وحضارتنا. إن الإسلام هو العقبة الكبرى في طريق التقارب بيننا وبين الأفارقة.

لا نهدم شيئاً إلا إذا وجدنا ما نضعه مكانه، فبأي شيء نستبدل الإسلام؟

هل نعلّم الأهالي أن الشعوب لها حق حكم نفسها بنفسها وأن الثورة هي أقدس الواجبات؟ وأنه لا يجب عليهم أن يخضعوا لإله أو رئيس؟ إننا إذا فعلنا ذلك نضرُّ أنفسنا.

إن جيراننا في إفريقيا الشمالية لم يسهلوا دائماً عملنا الصعب كما كنا نأمل، ومع ذلك ففي وجه الإسلام كل الدول الأوروبية متضامنة، ما الغاية التي نريد الوصول إليها في إفريقيا الشمالية؟

هل جئنا إليها فقط لنضع قليلاً من النظام في إدارتها الأهلية، ونعطي البلاد تجهيزها اللازم، وبعد ذلك ينتهي عملنا، ولا يبقى لنا فيها شيء نعتمد عليه، ما عدا اعتراف الأهالي لنا بالجميل على الخدمات التي قمنا بها؟

بالعكس، إن غايتنا القصوى هي تأسيس فرنسا وراء البحر، حيث تخلد لغتنا وتبقى حضارتنا، وفي كلمة مختصرة: غايتنا هي فرنسة الأهالي، فهذا هو آخر هدف نقصده ونرمي إليه، ولذلك يلزم جعل الأفارقة مضطرين إلى أن يتكلموا بلغتنا، وأن يقلدونا في مناهجنا وأفكارنا، وأن يندمجوا فيها، وقد قال أحد المستعمرين: (إن تربية شخص واحد يحتاج إلى عشرين سنة، أما تربية شعب كامل فلا بد له من عشرين قرناً).

إن التطور بطيء في إفريقيا، لكنه واقع لا شك فيه، فاتركوا الوقت يعمل عمله، إذ بدونه لا يتم عمل خالد»[1].

إن قراءة متأنية لهذا الكلام الصادر عن أحد رجالات فرنسا، تظهر يقيناً أن الدولة الإمبريالية فرنسا - أو غيرها - لم يكن همها ولا قصدها تطوير المنظومة المجتمعية للدول المحتلة مع ما يقتضيه ذلك من تقنين كل المجالات الأخرى وتطويرها؛ بل كان قصدها - بعد ثورة أنوارها ونهضتها الفكرية والاقتصادية - محاربة دينها وتقسيم كعكة دول العالم مع حلفائها ومنافسيها، والهيمنة على ثروات ومقدرات الشعوب، بحجة نقل المدنية وبناء الدولة الحديثة!

ولو اقتضى ذلك مزيداً من تقسيم هذه الدول، واللعب على وتر العرقية، وتسخيره في مهاجمة ومحاربة دينها وقيمها وتاريخها. وإن أهم معركة في مواجهة المغرب ودول شمال إفريقيا هي الحيلولة دون الأمازيغ والسود والإسلام القادم من الشرق بعربيته.

ولذلك؛ اجتهدت فرنسا كثيراً في المغرب لأجل محاربة اللغة العربية، وسنّ القوانين لتدريس الأمازيغ بالفرنسية، وتكوينهم ليكونوا أطراً تابعة لنظام الاحتلال[2].. بل استغلت وجود قبائل ومناطق تتحاكم إلى أعرافها وزعمائها[3]، لتعمم على الأمازيغ قضاء وضعياً لا علاقة له بأحكام الشريعة الإسلامية.

وأخرجت ذلك في جبة إصلاح القضاء وتقنينه ومأسسته.. وهدفها كان علمنة المغرب؛ لأن العلمانية ثورة ضد ما هو إلهي، في مقابل الانتصار لما هو بشري.. الأمر الذي تنبّه إليه رجالات المقاومة، وحاربوه باسم الظهير البربري الذي جاءت به فرنسا سنة 1930م لتفرق بين لحمة الأخوّة الإيمانية والوطنية التي تجمع العرب والأمازيغ.. لكن فرنسا استمرت في غيها ومخططها في علمنة وسلخ المغاربة من قيمهم وولائهم لدينهم، خصوصاً الأمازيغ.

كما أتقنت مخططها في غرس قيم التعصب في قلوب وعقول من لا يملكون ولاء للدين الذي يجمع المغاربة؛ وإن كانت فشلت في تقسيم المغاربة شعباً إلى عرب وأمازيغ، لكنها تركت فكراً إقصائياً وعرقياً لدى المتعلمنين والمتطرفين من الأمازيغ، وهو ما تطور مع فترة ما بعد الاستقلال، خصوصاً مع تهميش مناطقهم سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً، ما ولّد غلاً وحقداً لدى نابتة جعلت ولاءها الكبير للثقافة الأمازيغية الوثنية والفكر الغربي المادي، ما أنتج عندهم حقداً على الإسلام وعلى العرب والعربية؛ حتى طالب كبيرهم الذي علّمهم التعصب المقيت، العربَ بأن يرحلوا من المغرب ويحملوا معهم كتابهم (القرآن).

نعم، لقد قالها كسيلة البربر الجديد أحمد الدغرني يوم استقوى بحزبه الذي أسسه على نزعة عرقية عصبية (الحزب الديمقراطي الأمازيغي).. وقد تم حله لهذا السبب.

ثم جاء من بعده الكاهن الجديد، أحمد عصيد، الذي رفع خنجر الطعن واللمز والتنقيص من شرائع الإسلام ومحاربتها عن طريق الدعوة إلى سمو مكانة المواثيق الدولية والقوانين الوضعية في مقابل الشريعة الإسلامية، مع تفاخره بأن أجداده الذين ضلوا عن تحكيم شرع الله، سواء قبل مجيء الإسلام إلى المغرب أو بعد انتشاره في ربوع إفريقيا والأندلس؛ كانوا يستلهمون تحكيمهم وقضاءهم مما تعارفوا عليه من قوانين وأحكام، منتصراً بذلك لعلمنة الدولة وإقصاء الإسلام في سبيل انتصار الإنسان، وهو طرح يميل إلى الإلحاد الذي لا يؤمن بوجود إله خالق لهذا الكون.

إن المتاجرة بالعرقية في سبيل محاربة إسلامية الدولة؛ منهج الاحتلال الإمبريالي، ولقد فشل المحتل في هذه المتاجرة الكاسدة لأنها قوبلت وووجهت بشمولية الإسلام وهيمنته على جميع مناحي الحياة الفردية والجماعية.. فإذا تم إضعاف وإعدام هذه الشمولية والهيمنة التي هي مقتضى العبودية لربّ العالمين؛ أطلت بقرونها ثورات العرق وفيدرالية القبائل، ويومها لنسلم جميعاً سلام وداع على وحدة ودين هذا البلد.

وكلامنا هذا ينطبق كذلك على التعصب للعروبة دون الإسلام، وهو أحد العوامل التي أعانت على إسقاط الخلافة العثمانية يوم ظهرت القومية العربية في مواجهة الهيمنة التركية.

:: مجلة البيان العدد  322 جمادى الآخرة 1435هـ، إبريل  2014م.


[1] نشر هذا النص الأستاذ إدريس كرم في مقال له بعنوان: «إهانة المغاربة في حفل تسليم كأس الأندية بمراكش».

[2] «أما الهدف من تعليم الأهالي فهو خلق خدام وأصدقاء لفرنسا، وعمال جديرين بكسب عيشهم، لذلك يُعَلّمون أولاً لغتنا عبر برنامج مكون من ثلاث حلقات مشتركة المركز كل واحدة من سنتين يستطيعون فيها تطبيق ما يقال لهم» من مقال: «فرنسة التعليم بالمغرب.. مائة سنة من التجريب» للأستاذ إدريس كرم.

قال «أدينو»: «لا نعطي للمغاربة من العلم والمعارف إلا ما يكون لهم كافياً ليرضوا بمقامنا جانبهم أبداً» (ص: 205، «محور السياستين»).

أما «بول مارتي» فيقول: «إن المدرسة البربرية الفرنسية هي مدرسة: فرنسية بتعليمها وحياتها، بربرية بتلاميذها وبيئتها، إذن فلا واسطة لفقيه أو ظاهرة إسلامية يجب منعها بصرامة تامة».

[3] قانون «يزرف» نموذجاً.

 

 

أعلى