• - الموافق2024/11/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
المُسعِف

المُسعِف

لا يخفى أن أشدَّ جرائم الاحتلال الإسرائيلي إبَّان الحرب على غزة كانت مع بداية الهجوم البري في 3/1/2009م؛ حيث صبَّت قوات الاحتلال جام غضبها على المواطنين العزَّل، وهنا يقدِّم أحد العاملين في لجان الإغاثة شهادته عن بعض المشاهد التي تقشعرُّ لها الأبدان؛ حيث يقول:   
في اليوم الثاني من الاجتياح البري بدأت الاتصالات تأتي من قِبَل المواطنين المحاصَرين في منطقة الزيتون لإنقاذهم، ولكن هذه المنطقة لا نستطيع دخولها إلا بإذن الجيش الإسرائيلي بالتنسيق مع الصليب الأحمر الدولي؛ لذا مرَّ أوَّل يوم ولا حياة لمن تنادي؛ على الرغم من أننا ناشدنا الصليب الأحمر للتدخل لحماية الأبرياء: من النساء والأطفال والشيوخ، كما نصَّت اتفاقية جنيف الرابعة، والقانون الدولي الإنساني.
وفي صباح يوم الإثنين الموافق 4/1/2009م توافدت  الاتصالات من الأهالي للبحث عن أقاربهم في منطقة سوق السيارات، وبالأخص عائلة السموني حتـى أتـى أحد أقاربهـم من داخـل مــدينة غـــزة إلى مستشفــى القـــدس التـابع للهـلال الأحمـــر الفلسطينــي وصـــار يسـتنجـــد، ويقـــول: واللـــه يا جماعة! أهلي ماتوا ولا يوجـد أحـد منهم علــى قيد الحيــاة، لو أن واحداً منكم يذهب معي، فقلت له: المكان خطير جداً لا يمكن دخوله، فقال لي: لنذهب ونستكشف المكان. فذهبنا حتى إذا ما وصلنا منطقة الزيتون (منطقة دولا) بدأ إطلاق النار علينا من جميع النواحي؛ وفي تلك اللحظة لم أستطع الخروج من سيارة الإسعاف ولا الرجوع إلى الخلف؛ فبدأت أنا والفريق الموجود معي ننطق الشهادتين؛ لأن الرصاص أصاب سيارة الإسعاف إصابات مباشرة، فقلت: بسم الله، ورجعت إلى الخلف بأقصى سرعة، وإذا بطائرات الاستطلاع تطلق صاروخاً باتجاه سيارة الإسعاف، فخرجت من المكان، ولا أعلم كيف خرجت؟ ثم أبلغت الصليب الأحمر الدولي بما حدث معي ليبلِّغ الإسرائيليين أن هذه سيارة إسعاف تحمل جميع الإشارات الدولية؛ إلا أن الإسرائيليين رفضوا دخول أي سيارة إسعاف إلى المنطقة.
وفي يوم الأربعاء 7/1/2009م جاء اتصال من الصليب الأحمر بالسماح لنا بدخول منطقة سوق السيارات في منطقة الزيتون، فوصلنا الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر إلى المنطقة، فأمَرَنا الجيشُ بالنزول من سيارات الإسعاف، وتوجهنا إلى منطقة السموني، ومشينا على الأقدام مسافة 2.5 كم. نسير وبجوارنا الجيش وعلى أسطح المنازل والدبابات وداخل غرف المنازل، وكانوا يصرخون علينا ونحن نسير؛ حتى يُلقوا الرعب في قلوبنا؛ ولكنَّ الله معنا.
وصلنا أوَّل منزل وبدأنا ننادي: نحن الصليب الأحمر والهلال الأحمر، و دخلنا أحد المنازل وإذا بشاب قد أعدمته قوات الاحتلال وهو على فراشه؛ حيث أصيب بعدَّة طلقات نارية في الرأس، فتركناه وخرجنا وإذا بشابين آخرَين أيضاً قد أُعدمَا وأُلقيَت جثتاهما بجانب حمار.
ثم ذهبنا إلى منزل آخر يبعد عن الأول خمسين متراً  وأخذنا ننادي... فسمعنا صوت صراخ نساء وأطفال، عندها خرجت امرأة وعلى يدها طفلة لا يتجاوز عُمُرها سبعة شهور وقالت لي: نحن في البيت أكثر من عشرين شخصاً، فدخلنا البيت فوجدنا بجوار باب البيت امرأة مقتولة وبجوارها ابنها الشاب قد قُتِل هو أيضاً، فقمت بوضعهما في أكياس الموتى، ثم  دخلت إلى البيت وإذا بالأطفال يستغيثــون: نــريد مــاءً (يا عمو) وكان معنا ماءٌ للشرب، فبدأت أسقيهم واحداً تِلوَ الآخر، في مشهد لم أتمالك فيه نفسي أنا ومن معي؛ حيث أخذنا بالبكاء، ثم وجدنا المصابين من عائلتَي (حجي وعرفات)، وعثرنا على طفلة وأمِّها، فقلت لأمها: أين إصابتها؟ فقالت لي: في صدرها؛ لقد دخلت رصاصة من ظهرها وخرجت من صدرها، فكشفت عن جرح الطفلة وإذا بالجرح قد التأم، فقلت: هذه قدرة الله، ولكن باقي العائلة جروحهم غير مخيفة، فأخرجناهم إلى خارج البيت؛ لنبعدهم من المنطقة، ثم ذهبنا بعدها إلى المنطقة القريبة من سوق السيارات. وأخذت أنادي في أحد المنازل: هل أحد موجود في هذا المنزل؟ فخرج إليَّ جندي صهيوني، فقالي لي: اذهب من هنا وإلا قتلتك.
نظرنا أمامنا وإذا بمسجد مهدَّم جزئياً فذهبنا إلى ذلك المسجد وبجواره عدة منازل من بينها منزل مفتوح؛ فدخلنا ذلك المنزل وإذا بأربعة أطفال ورجل عجوز يصرخون وهم جالسون على الأرض، فقلت لهم: لا تخافوا نحن عرب مسعفون جئنا لنخرجكم من هذا المنزل، فقالوا لي: نريد ماءً وطعاماً، فأعطيتهم ماءً قليلاً كان معي. نظرت في ذلك المنزل؛ وإذا فيه ما يقارب عشرين شهيداً على جانب حائط المنزل من الداخل. وكان مما لفت نظري أنا وزملائي، أمٌّ وطفلها قد قُتلا والطفل يرضع من أمِّه، فأخذنا نبكي من هول المنظر ونقول: يا الله! يا الله! الْطف بعبادك! ثم رجعت إلى الأطفال، فقلت لواحد منهم ما اسمك؟ قال لي: أحمد السموني وعمري 13 سنة. وكانت الطفلة أمل ابنة 9 سنوات أيضاً مصابة، فنظرنا إلى جراحها من قريب؛ حيث أسودَّ لونها وانبعثت منها رائحة كريهة جداً؛ نتيجة قلة الأكل والشرب والعناية بالمصابين.
بعد ذلك بقليل خرج علينا جندي صهيوني من الغرفة الثانية، فقال: هيا اخرجوا. ولعدم وجود إمكانيات معنا، ولوعورة الطرق أبقينا الشهداء مكانهم وأخذنا المصابين؛ حيث حملناهم على عربة حمار وقمنا بسحب العربة بأنفسنا؛ إذ منَعَنا الجيش من استخدام الحمار.
وعندما نفد الماء الذي بحوزتنا طلبنا من الجيش ماءً لنسقي طفلة صغيرة كانت معنا؛ إلا أنهم رفضوا وقالوا لنا: انتهت مدة التنسيق؛ هيا اخرجوا. فأخذنا نجر العربة بسرعة حتى وصلنا سيارة الإسعاف، فأنزلنا الشهداء والجرحى وذهبنا إلى مستشفى القدس التابع للهلال الأحمر لعمل اللازم لهم من الناحية الطبية.
وفي اليوم الآخَر ذهبنا إلى المكان نفسه في شارع صلاح الدين حتى وصلنا الشركة الهندسية للإسمنت مشياً على الأقدام، فصادفنا منزلاً لا يوجد فيه أحد من أهله، وكان فيه جندي إسرائيلي قام باللعب بالسلاح ليرعبنا، ثم تابعنا حتى وصلنا إلى عائلة المغربي في شارع صلاح الدين؛ حيث خرج إلينا رجل، فقال: أين أنتم؟ فقلت له: اليهود رفضوا التنسيق، ثم سألته: كم شخصاً يوجد في المنزل؟ وإذا بمجموعة كبيرة تخرج من المنزل؛ وكأنها مسيرة. كان عددهم ثمانين شخصاً، أطفالاً وشباباً ونساءً وعجائز حاملين بين أيدهم شهيداً يبلغ من العمر 19 سنة فطلبوا منا ماءً للشرب، فأخذناهم إلى منطقة آمنة ونجحنا بإخراجهم، والحمد لله.
وفي إحدى المرات أُبلغنا بوجود حالة ولادة في حي الشيخ عجلين، فذهبت إلى تلك المنطقة وإذا بالجيش الإسرائيلي يتصل بالصليب الأحمر يسأل: يوجد سيارة إسعاف على طريق الساحل هل هي لكم؟ فقام الصليب بالاتصال بالمحطة، فقال: صحيح توجد سيارة؛ حيث كنت أنا وصاحب لي في السيارة فأخذ الجيش  ينادي علينا على جهاز اللاسلكي وأننا معرضون للخطر، فطلبت منهم التنسيق لي لدخول منطقة الشيخ عجلين؛ لإنقاذ هذه الحالة، فقيل لي: لا يوجد تنسيق في الليل، فقلت لصاحبي: الله الحافظ وسأقوم بمهمتي الإنسانية، فقيل لي: الزوارق أبلغتنا بضرورة خروجك فوراً من المكان. وخرجت مرة أخرى وسرت باسم الله إلى المنطقة؛ وإذا بالمرأة تصرخ وتقول: أنقذوني! وزوجها بجوار الحائط مختبئ؛ فنزلت من سيارة الإسعاف ونظرت إلى المرأة؛ وإذا بالجنين ملقىً على الأرض؛ فقمت بعمل اللازم لتلك المرأة، فقالت لي: أنا خائفة على ابني وزوجي، فقلت لها: لا تخافي؛ إن الله معنا.
سار الصليب الأحمر وإدارة الهلال تنادي: اخرج يا خالد! فقلت: سأخرج بعد انتهاء مهمتي، فخرجت إلى المستشفى والحمد لله، ونجحت في عملي الإنساني بتوفيق وحماية من الواحد الأحد.
كنا ندعو الله في الليل ألا يحدث قصف أو إطلاق نار؛ لأننا لا نستطيع الوصول إلى تلك الأماكن، وكانت أياماً عصيبة علينا وعلى أهلنا وعلى أولادنا، ولكن الله ثبَّتنا في أعمالنا. نسأل الله أن يكون عملنا خالصاً لوجهه الكريم!
 

أعلى