• - الموافق2025/09/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
ظاهرة «عصابة أبو شباب»:  حين يُولَد «الاستثناء» من قلب الفوضى

تحوّل «ياسر أبو شباب» من سجين جنائي إلى قائد ميليشيا مرتبطة بالاحتلال، مارست النهب والتعاون مع الجيش الإسرائيلي لضرب المقاومة وإضعاف المجتمع الغزّي. ورغم محاولاته لتسويق نفسه كحامٍ للمدنيين، انكشفت خيانته، وتبرأت منه عائلته، لتبقى ميليشياه ظاهرة عابرة مرش


في خضم الحرب الإسرائيلية المُدمِّرة على قطاع غزة بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، وبينما كانت أنقاض رفح والشجاعية تعجّ بالنازحين والركام؛ برز اسم «ياسر أبو شباب» الذي خرج من سجون وزارة الداخلية بغزة بعد قصف مقارّ الأجهزة الأمنية الحكومية، والذي كان سجينًا بتهمة تجارة المخدرات، ليتحوَّل خلال أشهر قليلة إلى قائد ميليشيا مسلحة عُرِفَت إعلاميًّا باسم «القوات الشعبية»، أو «ميليشيا أبو شباب»، والتي سُرعان ما تكشَّفت حقيقتها كعصابة منظَّمة مرتبطة مباشرة بالاحتلال «الإسرائيلي».

 فمنذ ذلك الحين، تحوَّل «أبو شباب» إلى محور جدل واسع داخل غزة وخارجها باعتباره أداة «إسرائيلية» لضرب المقاومة، في محاولة حقيقية من الاحتلال لإعادة إنتاج «روابط القرى» بصيغة جديدة في قطاع غزة.

البدايات والنشأة

وُلِدَ «ياسر أبو شباب» في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، ضمن عائلة تعود إلى قبيلة الترابين، إحدى كبرى القبائل في جنوب فلسطين وسيناء. لكنَّ مسيرة الرجل لم تُشْبه تاريخ القبيلة المُقاوِم؛ فقد كان متورطًا في قضايا جنائية، بينها تهريب المخدرات والسلاح، وقضى سنوات في السجن، ومع انهيار المنظومة الأمنية في غزة إثر القصف «الإسرائيلي» في بداية الحرب، خرج «أبو شباب» من السجن ليجد في الفوضى بيئة خصبة لصعوده.

فقد بدأت ملامح مشروعه حين أعلن عن تشكيل «جهاز مكافحة الإرهاب»، الذي سرعان ما تحوَّل إلى ما عُرِفَ بـ«القوات الشعبية» التي تمركزت قُرْب معبر كرم أبو سالم شرق مدينة رفح، وتحت أعين قوات جيش الاحتلال المنتشرة هناك، ثم تمددت جزئيًّا إلى مناطق غرب رفح؛ حيث يتم توزيع المساعدات.

تقديرات فلسطينية تحدثت عن أن عدد قوة «أبو شاب» يتراوح بين 100 و300 عنصر، تتحرك بأسلحتها على مرأى من الجيش «الإسرائيلي»، وتحت رقابته المباشر، دون أن يتعرضوا لاستهداف من الطائرات «الإسرائيلية»، في وقتٍ كانت المقاومة والشرطة المدنية تُلاحَق بضربات مكثَّفة.

لم يَطُل الوقت حتى بدأت الحقائق تتكشف، تقارير أُممية وصحفية وثَّقت تورُّط عصابة «أبو شباب» في نَهْب المساعدات الإنسانية، وتحويلها إلى تجارة في السوق السوداء.

الأخطر من ذلك أن مقاطع مصورة من كتائب القسام كشفت تورط عناصر «أبو شباب» في التعاون مع وحدات المستعربين التابعة لقوات الاحتلال، وهذا ما أكَّدته تصريحات «نتنياهو» نفسه، أكثر من مرة، والتي اعترف خلالها بدعم مجموعات محلية مسلحة في غزة، مُبرِّرًا ذلك بأنه «يُنقذ أرواح الجنود الإسرائيليين».

كما ذكر موقع «تايمز أوف إسرائيل» نقلًا عن مصادر دفاعية أن «إسرائيل» سلّمت جماعة «أبو شباب» بنادق كلاشنكوف، «بما فيها أسلحة كانت قد استولت عليها من حماس»، بموافقة من مجلس الوزراء الأمني «الإسرائيلي».

عائلته تتبرأ منه وتهدر دمه

في تصعيدٍ لافتٍ، أعلنت عائلة «ياسر أبو شباب» تبرؤها الكامل منه، في بيان نُشِر بتاريخ 30 مايو/ أيار 2025م، عبّرت فيه عن «خيبة أملها العميقة» مما وصفته بخيانة قِيَم القبيلة وتاريخها النضالي.

وأكَّد البيان أن ما قام به «ياسر» يُمثِّل «طعنة في ظهر المقاومة»، مشيرًا إلى أن العائلة التي قدَّمت شهداء في سبيل الدفاع عن الوطن، ترفض أن يرتبط اسمها بأيّ سلوك يُنظَر إليه على أنه خيانة.

الأخطر في البيان كان ما ورد بشأن «هدر الدم»؛ إذ أكدت العائلة أنها تَعتبر دمه مهدورًا؛ ما لم يعلن تراجعه ويُسلِّم نفسه للجهات المختصة.

هذا الموقف العلني شكَّل نقطة تحوُّل حاسمة في مسار الرجل؛ إذ فقد بذلك آخر أشكال الحماية الاجتماعية المتمثلة في انتمائه القبلي، الذي كان يأمل أن يكون مظلة تحميه من تصاعد الغضب الشعبي، فبدلاً من أن يُشكِّل هذا الانتماء دعمًا له، تحوَّل إلى أداة عزلة ونَبْذ، عرّضته لمواجهة فردية في وجه مجتمع غاضب وشارع متوتر.

 

وظيفة أمنية وسياسية

علميًّا، يمكن تصنيف ظاهرة «أبو شباب» ضمن ما يُعرَف بـ«الميليشيات الوظيفية»، أي تلك التي تُنْشَأ لخدمة قوة احتلال عبر أدوار محددة مثل ضرب المقاومة من الداخل، وخلق بديل محلي يمكن تسويقه كإدارة مدنية، وتفكيك النسيج الاجتماعي. وبالمقارنة مع التجارب التاريخية، يمكن وضع عصابة «أبو شباب» في خانة «روابط القرى» التي أنشأتها إسرائيل في الضفة الغربية، أو «جيش لحد» في جنوب لبنان، الذي انهار بسقوط الاحتلال عام 2000م.

ففي ظل حصار خانق، ومَنْع متعمّد لدخول المساعدات؛ لعبت عصابة «أبو شباب» دورًا بارزًا في تجويع الناس، وحرمانهم من المساعدات الإنسانية التي كانت تُرسَل إليهم من خارج قطاع غزة؛ من خلال سرقة الميليشيا لها، وتكديسها في مخازن خاصة بها في منطق قريبة من الجيش «الإسرائيلي» شرق مدينة رفح؛ فبحسب تقارير الأمم المتحدة التي وثَّقت سرقة الشاحنات أو فرض إتاوات على العائلات مقابل الحصول على حصص غذائية، معتبرةً أنَّ هذا السلوك لا يعكس فقط جشعًا فرديًّا، بل يدخل في إطار ما يُسمَّى بـ«استخدام الغذاء كسلاح»، وهي أداة استعمارية قديمة تَستهدف كسر إرادة الشعوب عبر التجويع.

وهذا ما أقرَّ به، مدير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية «جوناثان ويتال» بقوله: «إن السرقة الحقيقية للمساعدات منذ بداية الحرب نفَّذتها عصابات إجرامية تحت أنظار القوات «الإسرائيلية»؛ حيث سُمح لها بالعمل بمقربة من معبر كرم أبو سالم».

وهذا التصريح يتناغم مع ما كشفته صحيفة «هآرتس الإسرائيلية» استنادًا إلى وثائق عسكرية داخلية، تفيد بأن القيادة «الإسرائيلية» كانت على عِلْم بعمليات نَهْب المساعدات الإنسانية، بل إن الجيش «الإسرائيلي» درس إمكانية تفويض بعض العشائر المحلية بتوزيع الإغاثة، بدلًا من المؤسسات الرسمية، رغم تقارير أمنية تشير إلى تورُّط أفراد من هذه العشائر في أنشطة إرهابية وارتباطهم بتنظيم «داعش».

وتعززت الشكوك حول وجود تواطؤ «إسرائيلي» بعد تدخُّل الجيش ميدانيًّا لحماية «أبو شباب» من استهداف مباشر مِن قِبَل كتائب حماس. ففي يونيو/ حزيران 2025م، شهدت مدينة رفح اشتباكات عنيفة بين مقاومي حماس ومسلحين تابعين لمليشيا «أبو شباب». ومع تصاعد المواجهات واقتراب حماس من تصفية قادة الميليشيا، تدخلت وحدة «إسرائيلية» خاصة لمنع ذلك.

وبحسب تقرير بثَّته قناة «i24news الإسرائيلية»؛ فقد خاض جنود «إسرائيليون» اشتباكات مع عناصر من حماس؛ دفاعًا عن «أبو شباب»، وأسفرت المواجهات عن سقوط قتلى من الطرفين. كما نفَّذت طائرة مُسيَّرة إسرائيلية ضربة جوية استهدفت مجموعة من مقاتلي حماس، فيما اعتُبِرَ أول تدخُّل عسكري «إسرائيلي» مباشر هدفه دعم ميليشيا محلية ضد فصيل فلسطيني مسلح.

النتيجة المباشرة لعمل هذه الميليشيا انعكس بشكل مباشر على المواطنين، من خلال الأثر النفسي والاجتماعي لهذه الظاهرة على سكان غزة؛ كفقدان الثقة الداخلية لدى المواطنين، وخوفهم من حرمانهم من حقّهم في المأكل والمشرب، بالإضافة للشرخ الاجتماعي الداخلي؛ نتيجة انتشار عمليات السلب والنهب في المجتمع، والإحباط بين صفوف المواطنين، فهذه كلها نتائج مباشرة لهذا التداخل بين العدو الخارجي والخصومة الداخلية؛ الأمر الذي يشبه إلى حدّ بعيد التجارب المأساوية في الجزائر في أثناء الاستعمار الفرنسي؛ حيث اعتمد الاحتلال على «الحركيين» لضرب الثورة من الداخل.

من جهتهم؛ تباينت ردود فعل الفلسطينيين في غزة تجاه شخصية «ياسر أبو شباب»، الذي تصدّر المشهد مؤخرًا في ظل تصاعد الفوضى الأمنية. فبينما اعتبره كثيرون مجرد «أداة بيد الاحتلال»، مشبِّهين إيَّاه بجماعة «جيش لحد» التي تعاونت مع إسرائيل في جنوب لبنان خلال الثمانينيات والتسعينيات؛ رأى آخرون فيه نموذجًا لرجل العصابات استغل الانهيار المؤسساتي لتعزيز نفوذه ونهب المساعدات المخصصة للنازحين.

في المقابل، قدَّم «أبو شباب» نفسه بصورة مختلفة، وحرص على تسويق دوره كمُنسِّق أمني «يوفر الحماية للقوافل الإنسانية» و«يضمن الأمن للمدنيين»، واصفًا نفسه بأنه «روبن هود غزة»، إلا أنّ هذه الرواية سرعان ما تبدَّدت بعدما كشفت المقاومة الفلسطينية وثائق تشير إلى تورُّطه في التعاون مع وحدات «المستعربين» التابعة للجيش «الإسرائيلي».

المآلات المحتملة

إن ظاهرة عصابة «أبو شباب» ليست حدثًا عابرًا، بل تكثيف لصراع أعمق بين المقاومة والاحتلال، وبين الشرعية والخيانة، قد ينجح الاحتلال مؤقتًا في صناعة بدائل محلية، لكنَّه يفشل دائمًا في زرعها داخل وجدان الناس.

وكما سقطت «روابط القرى» و«جيش لحد» و«الحركيون»؛ ستسقط عصابة «أبو شباب»؛ وهناك ثلاثة سيناريوهات لسقوطها:

-الانهيار السريع إذا تمت تصفية العصابة في حال توقفت الحرب أو عُقِدَت هدنة بين الاحتلال والمقاومة.

-أو تتحول إلى إدارة شكلية؛ إذا أصرت «إسرائيل» على إبقائها، في حال استمر احتلال قطاع غزة إلى وقت أطول.

-أو الاختفاء التدريجي مع تغيُّر موازين القوى ووجود سلطة جديدة في غزة موالية للاحتلال.

 لكنَّ معظم المؤشرات ترجّح أن الظاهرة لن تصمد طويلًا؛ لأنها افتقدت منذ البداية القبول الشعبي والدعم العشائري والقَبَلي، لكن يبقى السؤال الكبير: كم من الجراح ستترك هذه الظاهرة في جسد غزة قبل أن تُطْوَى؟

 

أعلى