المقال يوضح أنّ الصمود الفلسطيني ليس مجرد فعل عسكري، بل إستراتيجية وطنية متجذرة في الهوية الدينية، والمرونة الاجتماعية، والتكافل المجتمعي. هذا الصمود جعل المقاومة الفلسطينية نموذجًا متكاملًا يجمع بين الدين والسياسة والثقافة دفاعًا عن الأرض والكرامة والهوي
في مواجهة آلة الحرب الصهيونية التي لم تتوقف عن القصف والتدمير على مدى سنوات؛ برز
الشعب الفلسطيني بوصفه نموذجًا فريدًا للصمود والمقاومة؛ حيث لم تكن المقاومة مجرد
فِعْل عسكري، بل إستراتيجية وطنية مستندة إلى بنية اجتماعية وثقافية عميقة. فالصمود
الذي ترسَّخ منذ عقود، هو تعبير عن مقاومة متجدّدة وشاملة تقوم على تمسُّك عميق
بهويتها الإسلامية، وبِنْيتها الاجتماعية، والقدرة العالية على التكيُّف مع
التحديات، مما جعل المجتمع الفلسطيني الحاضنة الأساسية للمقاومة المسلحة، وعلى
رأسها حركات مثل حماس والجهاد الإسلامي.
وبرهن
«طوفان
الأقصى»
على تجليات هذا الصمود، رغم الدمار الهائل والخسائر البشرية التي تجاوزت آلاف
الشهداء والجرحى، إلى جانب تدمير البنية التحتية الحيوية، في ظل حصار وتجويع ممنهج
يُمارَس منذ عام 2006م على سكان القطاع.
وقد نضج مفهوم
«الصمود»
عبر عقودٍ من المعاناة والتحدي، وتُرجِمَ بصفته بوصلة للمقاومة الفلسطينية في عام
1978م؛ حيث تبنَّت منظمة التحرير الفلسطينية
«الصمود»
رسميًّا كإستراتيجية وطنية؛ بهدف واضح هو منع اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه،
والحفاظ على هويته، واستعادة كرامته في مسيرة النضال من أجل الحرية. لكنّ مسيرة
المقاومة الفلسطينية أثبتت أن هذا المفهوم هو اختصار لهوية متنوّعة من أدوات
المقاومة التي مارَسها الشعب الفلسطيني على مدار عقود من احتلاله.
الهوية الدينية ركيزة الصمود
الهوية الدينية الإسلامية، تُشكّل أحد أهم أعمدة الصمود الفلسطيني. فالقدوة التي
يُقدّمها النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وسيرته العطرة التي يتابعها الفلسطينيون
عن قرب، تزرع في نفوسهم قِيَم الصبر والثبات في وجه المِحَن، وتجعلهم يتعاملون مع
المِحَن بوصفها ابتلاءات تحمل معنًى وجوديًّا ومكافأة إلهية، لا مجرد معاناة عبثية
أو عقابًا.
كما أن مفهوم الابتلاء في الهوية الفلسطينية الاجتماعية والدينية من أهم أشكال
الصمود العامة التي يعاني منها كامل المجتمع، ما يُعزّز قدرة الفلسطيني على تفسير
الألم كاختبار للإيمان والوفاء بالعهد، مما يرفع معنوياته ويزيد ارتباطه بمشروع
المقاومة.
أحد ركائز التمسك بالمشروعية الدينية للمقاومة، ومن أهم معزّزات الصمود؛ هو ارتباط
الدفاع عن الأرض الفلسطينية بقُدْسيتها الدينية ومكانتها البارزة بوصفها أوقافًا
إسلامية وميراثًا للأنبياء، وهذه القُدسية تخلق لدى الفلسطينيين التزامًا لا يتزعزع
بالثبات على الأرض والدفاع عنها، ليس فقط باعتبارها قضية وطنية، بل لأن ذلك واجب
ديني وعبادة مستمرة.
المرونة الثقافية والاجتماعية
المرونة، أو القدرة على التكيُّف مع الظروف الصعبة، هي شرط أساسي للصمود. وقد أكَّد
الباحثون أن المرونة ليست مجرد خاصية فردية، بل هي متجذرة ثقافيًّا واجتماعيًّا في
المجتمع الفلسطيني. فعلى سبيل المثال، يُظهر المجتمع الفلسطيني بكافة مكوناته مرونة
متميزة تنبع من دعم الأسرة، والمجتمع المحلي، والتعليم، والمنظمات الدينية
والاجتماعية مثل المساجد ونوادي الشباب، والتي تلعب دورًا محوريًّا في إعادة بناء
القوة النفسية والمعنوية بعد كل صدمة، وهذا الأمر ينعكس على روح التضامن التي
تُظهرها الأسرة الفلسطينية في المنزل بصفته بيئة داعمة نفسيًّا في مجتمع خالٍ من
مسؤوليات السلطة والدولة، ما يعكس تكيفًا ثقافيًّا مع الظروف الصعبة.
ويبرز هنا نموذج
«التمرين
النفسي»
الذي قدَّمه أبو زيد البلخي في القرن العاشر كأحد أقدم المفاهيم المرتبطة بالمرونة؛
حيث يُشدّد على معرفة الفرد لذاته، واستخدام الموارد الداخلية والخارجية لمواجهة
الضغوط والتكيُّف معها، وهو ما يجده الفلسطينيون في إيمانهم، وتماسكهم الأُسَري،
ومشاركتهم الاجتماعية والسياسية.
حاضنة المقاومة
المقاومة المسلحة في فلسطين ليست مجرد فعل عسكري قائم بذاته، بل هي نتاج بنية
مجتمعية متماسكة تحمي وتدعم المقاومين. كما أوضح الضابط السابق والباحث الإسرائيلي
الدكتور
«مايكل
ميلشتاين»؛
فإن حركة حماس ليست مجرد جناح عسكري أو حزب سياسي، بل هي كيان اجتماعي متكامل،
متجذّر في المجتمع الفلسطيني من خلال التعليم، والأعمال الخيرية، والمساجد
والجمعيات الخيرية والكتل الطلابية التي تؤدي دورًا تكامليًّا من خلال الوجود في
المسجد وفي الحي وفي المؤسسات التعليمية وفي النقابات العمالية.
هذا التأسيس المجتمعي المكثَّف، من شأنه أن يُحافظ على تكرار الاستعداد للمقاومة،
رغم الخسائر الفادحة التي تتكبَّدها المقاومة المسلحة في صفوفها. ويشرح
«ميلشتاين»
أن المرونة التنظيمية المتجذرة في هذه الحركة سمحت لها بالبقاء قوة فاعلة رغم فقدان
آلاف العناصر؛ إذ تحولت إلى وحدات صغيرة متنقلة تشنّ حرب عصابات داخل المدن
الفلسطينية المحتلة، تعتمد على الاستنزاف والصمود بدلًا من المعارك التقليدية.
هذا النهج العسكري الجديد هو انعكاس مباشر للمرونة الاجتماعية، التي منحت الحركة
قدرةً على الاستمرار في المقاومة رغم المِحَن المستمرة. فالصمود هنا ليس هدفًا
عسكريًّا محضًا، بل سياسة شاملة لإرهاب الاحتلال سياسيًّا وعسكريًّا ونفسيًّا.
التكافل الاجتماعي
الحفاظ على الهوية الوطنية والدينية يُعدّ ركيزة من ركائز إستراتيجية الصمود؛
فالشعب الفلسطيني -ورغم العديد من محاولات التفكيك الاجتماعي والسياسي والانفصال،
بدءًا من مشروع الجدار العازل، وليس انتهاءً بعزل الضفة عن غزة-؛ يُظْهِر تمسُّكًا
جماعيًّا قويًّا بهويته. فالمرونة المجتمعية والفردية لا تعني الانفصال عن الواقع
بل التكيُّف معه بحيث تستمر الحياة في أشكالها المختلفة: التعليم، العمل، الزواج،
الثقافة، والنشاط المدني.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التعبير عن الهوية الجماعية في السردية الفلسطينية لا
يُختَزل في
«أنا»،
بل في
«نحن»؛
حيث يُنظَر إلى الفرد كجزء لا يتجزأ من المجتمع، والعائلة هي أول شبكة دعم نفسي
ومعنوي للفرد، وخاصةً للفتيات، مما يُرسّخ أواصر التكافل الاجتماعي الضروري في ظلّ
الاحتلال.
كما أن المساجد والمؤسسات الخيرية والاجتماعية تلعب دورًا مركزيًّا في توفير الدعم
المادي والمعنوي بوصفها حاضنة أساسية لضحايا الحرب من الأسرى وذوي الشهداء، وبفعل
دورها صنعت شبكات تضامن تساعد على مواجهة الضغوط النفسية، وتخدم كمنصات لنشر الوعي
السياسي والمقاومة، مما يُعزّز من صمود المجتمع ويُغذّيه بالمعنى والدافع.
الصمود بين الدين والسياسة
يتحوَّل الصمود في فلسطين من مجرد مقاومة عسكرية إلى نموذج متكامل يدمج الدين،
والسياسة، والثقافة في منظومة واحدة. فالاحتفاظ بالقدسية الدينية، والارتباط القوي
بالأرض، والمرونة الاجتماعية، والوعي السياسي؛ كلها عوامل تتداخل ويدعم بعضها
البعض. وهذا ما يجعل من المقاومة الفلسطينية ظاهرة اجتماعية وثقافية فريدة، أكثر
تعقيدًا وأصالة من مجرد صراع عسكري، بل كفاح من أجل الوجود والهوية والكرامة في آنٍ
واحد (الفقي، 2024م).
ويرى إحسان عطايا، -رئيس دائرة العلاقات العربية والدولية في حركة الجهاد
الإسلامي-، أن الالتزام الأيديولوجي والبنية التنظيمية المحكمة يُمثّلان عنصرين
أساسيين في قوة المقاومة، مؤكدًا أن تنظيمهم يصمد رغم ظروف الحصار والحرب الشاملة.
ويمكن القول بأن الصمود ليس مجرد بقاء جسدي على الأرض، بل إستراتيجية وطنية شاملة
تجمع الدين والسياسة والثقافة في بوتقة واحدة؛ حيث تصبح المقاومة مقاومة وجود
وكرامة. وهذا النموذج الفلسطيني يُقدّم درسًا فريدًا للعالم حول كيف يمكن للأُمَّة
أن تصمد في وجه أقسى الظروف، وتقاوم الاحتلال، مع الحفاظ على هويتها وتماسكها
الاجتماعي من أجل الحفاظ على وجودها وكرامتها.