• - الموافق2025/09/24م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
البجعة السوداء  وسقوط السردية «الإسرائيلية»

المقال يطرح أنّ حرب الإبادة على غزة مثّلت "بجعة سوداء" قلبت السردية الإسرائيلية التاريخية، وأسقطت دعائمها الأخلاقية والإعلامية. كما أبرزت الرواية الفلسطينية عالميًا كحقيقة عارية أعادت تشكيل الوعي الجمعي وأضعفت شرعية الكيان في المخيال العالمي.


أحيانًا، يشهد التاريخ لحظات مفصلية لا تأتي في حسابات السرديات الكبرى، لحظات تُربِك العقل الجمعي وتقلب الموازين التي بدت راسخة. قدَّمت الفلسفة الحديثة، مفهوم «البجعة السوداء»؛ لتصف تلك الأحداث غير المتوقَّعة أو النادرة التي تُغيِّر مسارات التاريخ، كاشفة عن هشاشة التصورات التي بُنيت عليها الرواية والسردية الراسخة في العقل الجمعي.

في سياق الصراع الفلسطيني-«الإسرائيلي»، يمكن القول: إنّ حرب الإبادة المُستمرة لعامها الثاني على قطاع غزة، مثّلت بجعة سوداء بالمعنى السردي والفلسفي؛ حيث تهاوت أمامها البنية الرمزية للرواية التي استثمرت فيها «إسرائيل» لعقود طويلة على الوعي الغربي والعالمي بِكُلِّ مؤسساته ودوائر صُنع القرار، سردية مُحصنة مُرتكزة على ثلاث دعائم: استثنائية الضحية التي وُلِدَت من رحم المحرقة، ادعاء التفوق الأخلاقي باعتبارها «الديمقراطية الوحيدة» في محيط مُضطرب، وحشي غير مُتحضّر، احتكار تعريف العنف مع ربط أيّ هجوم عليها بمفاهيم الإرهاب ومعاداة السامية.

غير أنّ البجعة السوداء، التي ولّدتها المحرقة للعام الثاني، لم تُسْقِط هذه الركائز واحدةً تلو الأخرى فحسب، بل أعادت إنتاج صورة جديدة للإنسان الفلسطيني على أنقاض هذه السردية.

أقول: صورة جديدة لأجساد مطحونة ومُفتَّتة تحت الركام وفي الشوارع وفي المستشفيات، صورة جديدة للإنسان الفلسطيني وسط شلال من الدماء.

فالصورة الجديدة لم تَعُد مجرد مشاهد لأجساد مُتفحّمة، بل باتت خطابًا فلسفيًّا عن معنى الكينونة في مواجهة الموت. فالطفل الذي يُنْتَشَل من بين الأنقاض بنصفِ جسد، والأمّ التي تسأل عن ابنها يوسف «الحلو يلّي شعره كيرلي»، والصحفي الشهيد الذي يُصِرُّ على استمرار التغطية وسط «محرقة الصحافيين»، وهو يروي مأساة المجاعة بدموعه، والطبيب المُعتقل الآخر في المُستشفى الوحيد في المنطقة المُدمَّرة. جميعهم أصبحوا أيقونات رمزية أعادت تعريف معنى الضحية والعدالة في الوعي الجمعي العالمي.

إنّ ما حدث في فضاء الإعلام لم يكن تفصيلًا ثانويًّا، بل جوهر البجعة السوداء نفسها. فالرواية الفلسطينية التي ظلَّت لعقود مُحاصَرة ومُشوَّهة، استطاعت لأول مرة أن تُصدِّر نفسها مباشرةً إلى الوعي الجمعي العالمي بفضل الصور الميدانية والبثّ الحي، وبفضل الكاميرا المُثبَّتة على رأس المُقاوم الفلسطيني. هذه الكاميرا لم تَكْتَفِ بتوثيق اللحظة، بل تحوَّلت إلى «سلاح ردع معنوي» عرَّى حقيقة الجيش الذي طالما رُوِّج له كـ«الجيش الذي لا يُهزَم»، فأظهرت جنوده مذعورين وآلياته مُحطَّمة، ورسّخت في المخيال العربي صورة جيش هشّ يعتمد على النيران العمياء لا على الإرادة القتالية.

الأهم أن المقاوم عبر هذه الصور اخترق العقل الجمعي العربي، وحرَّره من سرديات الهزيمة والاستسلام؛ إذ بات العربي يرى المعركة بعيون المقاتل لا بعدسات الإعلام الغربي المنحاز. لقد أزاح الحجاب عن «الحقيقة المصنوعة» التي صاغتها الدعاية «الإسرائيلية»، وصدَّر بدلًا منها «الحقيقة الميدانية» التي تخاطب الوجدان والعقل معًا. وهكذا، لم يَعُد الفلسطيني مجرد ضحية، بل ظهر كفاعل قادر على قلب المعادلة وكسر جبروت القوة العسكرية الأضخم في المنطقة.

بهذا، تحولت الصورة إلى فعل تعبوي يختزل إرادة المقاومة، ويُعيد تشكيل الوعي العربي والعالمي معًا، مسقطًا أسطورة «التفوق المطلق»، وراسمًا أفقًا جديدًا لفهم المعركة: أن القوة ليست في التكنولوجيا وحدها، بل في إعداد الإنسان المقاتل الذي يُصِرّ على مواجهة المحتل حتى الرمق الأخير. مشاهد انفلتت من قبضة المؤسسات الإعلامية التقليدية التي طالما خضعت لهيمنة «الهسبرة الإسرائيلية»، لتكتب رواية مغايرة لم يستطع العدو السيطرة عليها.

يمكن القول: إن هذا التحوّل السردي شكَّلَ انقلابًا في مفهوم «الحقيقة العارية»؛ حيثُ لم يَعُد احتكار الرواية «الإسرائيلية» في الإعلام الغربي والعالمي مُمكنًا؛ حيثُ شكَّلت مواقع التواصل الاجتماعي نافذةً لِنقل صور غزة ومجازرها إلى العالم بلا وساطة، بلا تحرير وإعادة صياغة، مكشوفة أمام الجمهور العالمي كفِعْل سياسي وأخلاقي لا يمكن إنكاره. فالجرائم المُوثَّقة بالصوت والصورة في حرب الإبادة، وتآكل قدرة الخطاب الغربي على تبريرها، جعلت من إسرائيل، في المخيال العالمي، لا الضحية الأبدية بل الجلاد الجديد. وكما يشير إيلان بابيه، «النكبة الفلسطينية لم تَعُد غائبة عن الوعي الغربي، بل صارت تسكنه على نحوٍ يُهدِّد الرواية الصهيونية من الداخل».

بلغة الرصد والأرقام -والأرقام هنا ليست أرقامًا جامدة-، بل لغة جديدة لِصَحْوة الضمير العالمي. ففي الولايات المتحدة الأمريكية نشهد تحوُّلًا وانقلابًا في دعم إسرائيل نحو التعاطف مع الفلسطينيين، والتحوّل هنا لم يكن عبثيًّا أو ظرفيًّا، بل تدافع في صراع الوعي. في مارس 2025م كشف استطلاع «غالوب» أن تعاطف الحزب الديمقراطي مع الفلسطينيين وصل إلى 49% مقابل 38% لإسرائيل، لأول مرة في التاريخ المُعاصر؛ حيث وصلت نسبة تأييد إسرائيل إلى 32٪ فقط، وفقًا لاستطلاعات غالوب، فيما قال 45٪ من الأمريكيين: إن ما يحدث في غزة هو «إبادة جماعية».

وعلى الصعيد العالمي، كشف مركز بيو للأبحاث أن أكثر من نصف سكان 20 دولة من أصل 24 باتوا ينظرون إلى إسرائيل بعين الريبة والرفض، مع نِسَب سلبية تجاوزت 70٪ في دول كبرى مثل اليابان وأستراليا وإسبانيا. هذا التحول لم يَبْقَ نظريًّا؛ بل انعكس في المقاطعة الاجتماعية والثقافية، وفي تصريحات مشاهير وقادة سياسيين اضطروا للتراجع عن دعمهم المطلق للكيان، أما داخل الكيان «الإسرائيلي» فتعزَّز الشعور بالعزلة؛ إذ أظهر استطلاع لـيديعوت أحرونوت أن أكثر من 62% من «الإسرائيليين» باتوا يعتقدون أنهم غير مُرحَّب بهم في أيّ مكان في العالم.

تاريخيًّا، لم يكن الرأي العام الغربي عاملًا مقرِّرًا في مسار الصراع الفلسطيني-«الإسرائيلي»؛ فقد كانت السردية «الإسرائيلية»، بكل ما تحمله من رمزية «الضحية الأبدية» و«الديمقراطية الوحيدة»، قادرة على فرض هيمنتها على العقول والمؤسسات معًا. غير أنّ «البجعة السوداء» التي فجَّرتها حرب الإبادة المُستمرة على غزة لم تَكْتفِ بفَضْح هشاشة هذه السردية أخلاقيًّا، بل أعادت تشكيل الوعي الجمعي العالمي، وأنتجت أرقامًا واستطلاعات رأي تتحوَّل بدَوْرها إلى منطق سياسي جديد يُربك الحكومات ويُعيد رسم معادلة الشرعية.

بيت القصيد

البجعة السوداء لم تكن صدمة رمزية فحسب، بل ولادة معادلة جديدة: أنّ الحقيقة، حين تُعرَض عارية أمام العالم، تفرض منطقها السياسي كما تفرض حضورها الأخلاقي. بمعنى: فلسطين لم تَعُد «قضية بعيدة» تُختَزل في نشرات الأخبار، بل مرآة كونية تكشف هشاشة ادعاءات العدالة الغربية والعالمية.

وهكذا، يكتب التاريخ فصلًا جديدًا: السردية «الإسرائيلية» التي استثمرت «إسرائيل» شرعية ولادتها غير الطبيعية في قلب المنطقة العربية... انكسرت. وخسارتها اليوم تعني اهتزاز شرعية الكيان المُلفَّق وقدرته على تبرير وجوده أمام العالم.

والرواية الفلسطينية تصعد، لا بالموت أو السلاح فقط، بل بصوت الحياة وأحلام وطموحات أهلها الصابرين التي تصرُّ على البقاء. إنها لحظة تُذكِّرنا أنه مهما طال عمى السرديات، لا بد أن يستيقظ العالم يومًا على الحقيقة العارية لينقلب المشهد من دولة مُحاصِرة تُحكم قبضتها على غزة، إلى دولة مُحاصَرة ومنبوذة أخلاقيًّا في الضمير الإنساني.

 

 

أعلى