المقال يبين أن صمود غزة وجرائم الاحتلال أحدثا تحولًا عالميًا متصاعدًا في المزاج الشعبي، خاصة بين جيل الشباب في الغرب، ما أدى إلى موجة واسعة من المقاطعة الثقافية والاقتصادية والسياسية لـ"إسرائيل"، وفضح نفوذها على الحكومات الغربية، مما ينذر بتغيّر عميق في ا
يُرجِع عدد من المؤرخين وعلماء الاجتماع المسلمين وعِلم النفس السياسي أحد أسباب
انتشار الإسلام في الفترة المكية -بخلاف شخصية النبي صلى الله عليه وسلم الآسِرَة،
والدعوة بتنوُّعاتها-، إلى تولُّد حالة من الغضب من بعض القرشيين حيال هذا الظلم
الواقع على المسلمين الأوائل، وإلى الإعجاب -في الوقت نفسه- بقدرتهم الأسطورية على
الصمود، والثبات على المبدأ والعقيدة.
ولم يكن السلوك القرشي استثنائيًّا وقتها، فكثير من الشعوب يأسرها هذا الصمود،
ويُعجبها هذا الثبات، وتشفق على المستضعفين الكرماء في شمم ورفعة نفس، وتزيد عن ذلك
بعض المجتمعات التي تنبهر بالقوة وتعشق شخصية الـ«سوبر
مان»،
كالشعب الأمريكي، وبعض الشعوب الأوروبية التي ينحدر منها بعض جماعات الشعب الأمريكي
نفسه، فيصبح انبهارها بشخصية البطل الأسطوري مضاعفة؛ خصوصًا إذا ما تم تصوير هذه
البطولات الجسورة في مقاطع كتلك التي تبثّها المقاومة، وتحظى بانتشار واسع.
هؤلاء الثابتون في شمم واستعلاء هم المدنيون في غزة، الذين وقع عليهم الظلم ألوانًا
وأنواعًا، وهؤلاء القادمون من أزمنة الأساطير، هم رجال المقاومة الأبطال الذين
يُسَطِّرون بدمائهم الزكية ملاحم العزة والكرامة.
تعرّف شباب غربيون كثيرون على القضية من خلال رواية صهيونية، يغرق بها الإعلام الذي
يديروه يهود، العالم كله، فلا يقرأ من سطوره أو من بينها سوى
«طوفان
الأقصى»
كـ«عدوان
شنَّته حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وفصائل مساندة لها على مستوطنين مدنيين
آمنين، كانوا يحتفلون في حفل راقص بكل أمان وطمأنينة!»،
وكانت المليارات المُنفَقة على هذه السردية كفيلة بأن تُغلِق آذان الشباب عما سواها
من سرديات مُنصِفة.
بَيْد أن الزمان لم يتوقف، ولا الإعلام ظل حكرًا على تلك الآلة الإعلامية الغاشمة؛
فبدأت الحقيقة تتكشف يومًا بعد يوم.
في البداية، أخذت الرواية الصهيونية تتراجع تحت طائلة المنطق: مهما بلغت
«جريمة
حماس في 7 أكتوبر»
فلا مبرر للإبادة الجماعية، بما يشمله من قتل وتجويع وحصار وإذلال للمدنيين. ثم
ازداد المؤشر اعتدالًا:
«القصة
لم تبدأ من 7 أكتوبر، لكنّ الطوفان جاء كردّ فِعل، وكفعل تحرُّري مأذون في كل
الشرائع والقوانين».
تزداد
«إسرائيل»
سفاهة، فيزداد العالم فهمًا لكينونتها الإجرامية المتأصلة التي لا تتوقَّى طفلًا
ولا شيخًا ولا امرأةً، قتلًا، وتهجيرًا، وحصارًا، وتعطيشًا، وتجويعًا. هكذا غدَا
المؤشر يتحرّك في الاتجاه الصحيح.
قبل الطوفان، كان الوضع على هذا النحو:
«إسرائيل»
يُسوّق لها على أنها
«واحة
الديمقراطية في الشرق الأوسط، تُحيط بها نُظُم شمولية، وتُواجه تحديات داخلية
متمثلة في إرهاب فلسطيني، أو في أقل تقدير: تعاني من أعمال عنف ذات طابع سياسي،
وتُهدّد الصواريخ التي تُطلقها الفصائل الفلسطينية المدنيين الإسرائيليين»
(هكذا يُزعَم). ويترتب على ذلك أن النظم الديمقراطية في الغرب يمكنها أن تندفع في
تأييد
«إسرائيل»
ذات النفوذ القوي في نُظم الحكم الغربية دون غضاضة شعبية؛ لأنه قد تم تدجين تلك
الشعوب للقبول بتلك الرواية
«الإسرائيلية».
بعد الطوفان، بدأ الوضع يتغيَّر تدريجيًّا، واتخذ مسارًا عكسيًّا من قاعدة الهرم
المجتمعية إلى قمّته؛ فما يُسمَّى بجيل زد (جيل ما بعد الألفية)، قد تمكَّن من
كَسْر الطوق الذي تَفرضه وسائل التواصل الاجتماعي (ولم يزل تأثير طوقها قويًّا حتى
الآن عبر خوارزميات ظالمة وجيوش من الموظفين في المجال الإلكتروني لتقديم روايات
معكوسة عن الوضع في غزة).
نفذ الجيل أو جزء منه بطبيعة الحال، واستطاع بسط قراءته للجرائم الوحشية الصهيونية،
وازداد الشباب إعجابًا بمقاتلي المسافة صفر، وجموع الأطباء والممرضين ورجال الإسعاف
والخدمة المدنية والصحفيين والنشطاء والمتطوعين في غزة، الذين قدَّموا نماذج فدائية
منقطعة النظير في العالم، وتفجَّرت العواطف متضامنة مع صور الأطفال النحيلة أو
الممزقة، والنساء والشيوخ القتلى أو المقهورين.
اصطفت مجموعات شبابية مع تيار اليسار ونشطاء القضية الفلسطينية من الفلسطينيين
والعرب وعموم المسلمين في الغرب، وبدأت كرة الثلج تكبر.
من القاعدة الشعبية إلى
«النخبة»،
وقد كان أول المتأثرين بتلك الموجة الشبابية: الطبقة الملاصقة للشباب المتأثرة
بإقبالهم وإدبارهم. اضطر المغنون والممثلون أن ينحازوا مرة من بعد مرة لجماهيرهم،
وصولًا إلى مرحلة أصبح لزامًا على مشاهير الأغاني والموسيقى الشبابية في العالم أن
ينحازوا إلى المزاج الشعبي لجيل زد، خصوصًا أن أشهر أنواع الموسيقى الشبابية في
الغرب، وثقافة الهيب هوب (Hip
Hop)
والروك (Rock)
تميل إلى اليسار، الذي يُعتَبر أكبر داعم للقضية الفلسطينية في الولايات المتحدة
الآن، وكذلك بدرجة أقل موسيقى البوب (Pop).
وعلى إثر ذلك، تشكَّلت حملات مقاطعة
«إسرائيل»
غنائيًّا في العالم! وامتدت تداعيات المقاطعة إلى مسابقة
«يوروفيجن»
الغنائية المقرَّر عقدها في فيينا عام 2026م، كما ألغت المهرجانات الموسيقية (SXSW
ومهرجانات الموسيقى البريطانية التابعة لـLive
Nation
بما في ذلك
The Great Escape)
شراكاتها المتواطئة مع الكيان، بعد أن قاطع ما يقرب من 300 فرقة المهرجانات
احتجاجًا.
ومن الموسيقى والغناء إلى أكبر مراكز إنتاج الأفلام في العالم، ففي هوليود، تزايد
تأثر الممثلين والممثلات بحملات مناهضة
«إسرائيل»
من متابعيهم، ومَن لم يتعاطف من تلقاء نفسه مع مشاهد التجويع والقتل والإبادة
المتنوّعة، اضطُرَّ إلى التعاطف بغية الإفادة من تلك الموجة، وحدبًا مِن ألَّا
يساهم اصطفافه مع الإجرام الصهيوني في تآكل شعبيته بين أبناء الجيل الجديد.
وفي شهر سبتمبر 2025م، صدر تعهُّد وقَّعه أكثر من 4000 ممثل ومخرج ومُنتِج من جميع
أنحاء العالم، بينهم حائزون على جوائز أوسكار، بمقاطعة المؤسسات
«الإسرائيلية»،
بما في ذلك المهرجانات ودور السينما والمحطات الإذاعية وشركات الإنتاج. (هآرتس 13
سبتمبر 2025م).
مراسل الشؤون الثقافية في القناة الـ12 آفي سيدرين كان قد أشار إلى أن هذه العريضة
أثارت ضجة واسعة في الولايات المتحدة وخارجها، كونها تضم أسماء بارزة في هوليود،
وتدعو بشكل صريح إلى الامتناع عن أيّ تعاون ثقافي مع
«إسرائيل»
في المرحلة الراهنة.
أما الرياضة، فقد أسهمت حملات دعم غزة بين روابط مشجعي الفرق الشهيرة في أوروبا إلى
دفع مشاهير الرياضة إلى إظهار دعم للقضية العادلة في غزة، وقد تزايدت الدعوات في
كثير من ملاعب كرة القدم (اللعبة الأكثر شعبية في العالم) إلى طرد
«إسرائيل»
من المنظمة الدولية الرياضية ((FIFA.
بالتوازي، كان الصعيد الثقافي يتصاعد في حصاره للكيان الصهيوني، وفي إدانة جرائمه،
فبحسب حملة
BDS
(حرية عدالة مساواة) أو (الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية
لإسرائيل:
PACBI)؛
فإن 7000 من الكُتّاب وشخصيات صناعة الكتب، قد تعهَّدوا بـ«عدم
العمل مع أيّ ناشر أو مهرجان أو مطبوعات متواطئة في انتهاك الحقوق الفلسطينية».
آلاف الأكاديميين انضموا إلى الحملة، ومن قبل كان طلبة في جامعة كولومبيا قد نصبوا
خيامًا، في أبريل 2024م، داخل الحرم الجامعي تضامنًا مع أهل غزة الذين يتعرَّضون
لإبادة جماعية. كانت مطالبهم من إدارة الجامعة بسيطة: أن تُفصحَ الجامعة عن
استثماراتها، وأن تسحبَ الاستثمارات من الشركات المتواطئة في قمع الفلسطينيين. وقد
قُوبِلَت المظاهرات بقمعٍ شديدٍ، قبل أن تمتدّ إلى جامعات أمريكا وأوروبا.
ورغم أن المظاهرات قد انقمعت، واتُّخِذَتْ إجراءات قاسية بحقّ الطلبة، وبخاصة
المبتعثين للولايات المتحدة، إلا أن الحالة الرافضة لم تفتُر أبدًا، وقد تجلَّت في
مظاهرات لم تنتهِ أو يَخْفُت أُوارها حتى كتابة هذه السطور. ومن قلب جامعة هارفارد،
أشهر جامعة في العالم، انبعثت معارضة قوية لـ«إسرائيل»،
لكنَّها اتخذت أشكالًا أخرى خلاف التظاهرات، وقِسْ على ذلك كلّ مظاهر مناهضة
«إسرائيل»
التي يُبْدِع النشطاء والشباب في ابتكارها.
خلاصة القول: إن المعارضة بدأت من جيل الشباب، وتحديدًا جيل زد الذي تنظر غالبيته
للكيان، ككيان مارق، وتوسعت عبر وسائل التواصل (يُسمَّى هذا الجيل، جيل زد أو ما
بعد الألفية أو الجيل الإلكتروني).
وقد أخفقت الآلة الإعلامية العتيقة لليهود في الكبح الكامل لانتشار قناعات جديدة
بإجرام الكيان الغاصب. ثم بدأت تلك المعارضة الشبابية، تضغط على قادة الرأي
والمشاهير في المجتمع، فتبنَّى كثير منهم هذه القضية العادلة رغبًا وتعاطفًا، أو
رهبًا من تراجع الشعبية، ثم بدأت حركة الضغوط والمقاطعة تضغط اقتصاديًّا بشدة، وقد
تناول تقرير مشترك نُشر في صحيفتي هآرتس و«ذا
ماركر»
الاقتصادية المتخصصة (30 يوليو 2025م) اتساع نطاق المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية
والفنية لـ«إسرائيل»
على مستوى العالم، ووصفتها بأنها باتت بمنزلة
«تسونامي
سياسي»
يُهدِّد قطاعات التصدير، مع تزايد المؤشرات على رفض متصاعد للمنتجات
«الإسرائيلية»،
وأغلقت متاجر عديدة تدعم
«إسرائيل»،
كما أن شركات كثيرة باتت تخجل من التعامل مع
«إسرائيل»؛
بسبب الضغوط الشعبية عليها، ولم يَنْجُ تقريبًا سوى قطاع الأمن السيبراني والتجسس
الذي لا تُفرِّط أوروبا في نيل أكثر برامجه وأدواتها
«الإسرائيلية»
تطورًا.
وينقل التقرير عن كثير من المزارعين
«الإسرائيليين»
داخل فلسطين المحتلة، قولهم: إنّ شبكات المتاجر الكبرى تتجنَّب شراء المنتجات
الزراعية القادمة من
«إسرائيل»؛
خشية ردود فِعْل المستهلكين. موضحًا أن الحقول باتت مليئة بالثمار التي لم تجد
طريقها إلى الأسواق العالمية.
ويقول التقرير: إن الأزمة لم تقتصر على القطاع الخاص؛ ففي مايو الماضي، أعلن صندوق
الثروة السيادية النرويجي، وهو الأكبر في العالم، بيع استثماراته في شركة
«باز»
الإسرائيلية؛ بسبب تورطها في تزويد
«مستوطنات»
الضفة الغربية بالوقود. وبعده، أعلن صندوق التقاعد الكندي وقف استثماراته الجديدة
في
«إسرائيل»،
التزامًا بما وصفه بـ«معايير
أخلاقية عالية»،
وتوالت الخطوات الغربية. وتوالت مظاهر الاحتجاجات ضد الكيان وتنوعت، وتوسعت مؤخرًا
المظاهرات في عواصم ومدن كثيرة حول العالم.
انتقل هذا الزخم إلى أورقة الساسة الغربيين، الذين يسعون جهدهم للمواءمة ما بين
الضغط المتصاعد الرافض للكيان الصهيوني، وحسابات السياسة الخاضعة لنفوذ اليهود
وشركاتهم الكبرى وكبار رجال أعمالهم. وصار الصراع محتدمًا، تخسر فيه
«إسرائيل»
كلّ يوم معركة، وتتزايد الإجراءات القانونية الدولية والدبلوماسية إلى حدٍّ أصبح
يُهدِّد حركة ساستها كثيرًا، فقد رفضت أكثر من دولة زيارة أكثر وزراء
«إسرائيل»
إجرامًا، وزير الأمن الداخلي بن غفير، ووزير المالية سموتريتش. وقد اتخذت الجهود
الشعبية ألوانًا كثيرة جدًّا بما لا يمكن حصره هنا، ولم تزل تتجدد ويبدع الشباب في
ابتكاراتهم، وقد تجلت إحدى مظاهرها في أسطول الصمود العالمي الفريد من نوعه بهذا
الحجم.
أسباب التضامن العالمي المتصاعد
أسهمت عدة عوامل في تصاعد مستوى التضامن الشعبي في العالم، لا سيما في الغرب، تقدمت
الإشارة إلى بعضها آنفًا، ويزيد عنها ما يلي:
- الثورة الإعلامية في وسائل التواصل التي جعلت من المستحيل إخفاء الجرائم
الصهيونية أو تبريرها، وعدالة القضية ووضوحها إلا عند الموتورين والمتعصبين من
كارهي المسلمين والعرب.
- طول مدة الصمود الناجمة عن طول مدة العدوان لنحو سنتين كاملتين، وتكرر الجرائم
وتنوعها، وكذلك، بروز قصص فريدة في البطولة والشجاعة والثبات من كافة أبناء شعب
غزة؛ مجاهديه وأطقمه الطبية والإغاثية وأفراد المجتمع الغزاوي بكلّ نسيجه.
- جهد النشطاء وقادة الحملات والصحفيين الأبطال من الفلسطينيين أولًا في الداخل
والخارج، ثم من بقية الشعوب المسلمة، والمتعاطفين من اليسار وغيره في العالم.
- التحالف القوي بين بعض النشطاء والقوى المسلمة في الغرب، واليسار الرافض للإبادة
«الإسرائيلية»،
وكلاهما شدَّ من عَضُد الآخر؛ رغم التباين الواسع بينهما في الأفكار خارج هذه
القضية العادلة.
- القمع الغربي غير المبرَّر، سواء في المظاهرات أو في الجامعات أو في الأعمال،
والذي كشف عن فجوة واسعة بين الشباب والحكام في الغرب، وأوضح بجلاء تحكُّم اليهود و«إسرائيل»
في كثير من النظم الغربية، التي بلغ انكشافها أمام قوى شعبية في بلادها حدّ الفضيحة
الكبرى.
- العربدة
«الإسرائيلية»
وعدوانها على عدد من البلاد العربية وغير العربية، والذي لم يحصر عدوانها في حدود
يمكن تفسيرها أو تبريرها للبسطاء، وبات من الصعب إظهار
«إسرائيل»
على غير ما ظهرت به كـ«دولة»
مارقة.
- المنظومة الغربية الاجتماعية والسياسية، التي تسمح بحرية التعبير المُقنَّن،
وتجبر الساسة على عدم مصادمة الرأي العام، واضطرارها إلى الالتفاف عليه بحِيَل
متنوّعة، وهو ما يُشجّع الشباب على مزيد من تحقيق
«انتصارات»
في جولاتهم تلك.
نتائج التضامن العالمي مع غزة:
ربما لا يرى كثيرون من فَرْط يأسهم وإحباطهم أنّ كل هذا التضامن لا يُغيِّر من
المشهد شيئًا، وأنه يظل عاجزًا عن وقف الإبادة الجماعية، وربما التهجير الكلي،
وربما كل ما يعانيه الأهل في غزة. وربما لا يشعرون بأن مواقف دول العالم قادرة على
الضغط على
«إسرائيل»
التي زادت عتوًّا وتجبرًا وعربدة... كل هذا صحيح. لكن ما لا يدركه كثيرون أن جرائم
الإبادة في غزة، وصمود أهلها قد أحدثا طفرة هائلة في المزاج الشعبي العالمي، وغيَّر
خرائط الأفكار والانتماءات، وصنع ما لم تصنعه حتى الانتصارات الظرفية والمحلية.
- يغيب عن أذهان معظم اليائسين أن الكيان الصهيوني قد قام على قواعد وأُسُس، أنشأته
ثم رعته، ثم ضمنت بقاءَه متفوقًا قويًّا على محيطه الإقليمي. ومِن أبرز هذه
الأُسُس: ما سبق النشأة، والبيئة التي نجحت في الترويج لـ«دولة
إسرائيل»
قبل وعد بلفور بعقود، بل بقرون! من تمهيد الكاهن البروتستانتي مارتن لوثر في القرن
السادس عشر الميلادي، حتى مؤتمر هرتزل 1897م، كان اليهود يطيرون بدعوة لوثر، صاحب
كتاب
«المسيح
كان يهوديًّا»،
من أجل وضع خصوصية مميزة لهم؛ فمن احتقار نصارى أوروبا لليهود كمُرَابين، وأرباب
موبقات، إلى شيطنة
«معاداة
السامية»؛
تأسست
«إسرائيل»
على أساس أفضلية اليهود، وتأنيب الضمير الأوروبي من اضطهادهم الطويل في أوروبا،
وضرورة زرع دولة بين جناحي مصر والشام (تجربة نور الدين زنكي) أو مصر وتركيا (محمد
علي والدولة العثمانية).
- لحسن القدَر، هذا الاحتقار للصهيونية عاد اليوم آخِذًا في التصاعد بقوة في الغرب
لدرجة دفعت بعض السياح واللاعبين والتجار
«الإسرائيليين»
في بعض الأحيان إلى التستُّر خلف هويات أوروبية، والامتناع كثيرًا عن التحدُّث
باللغة العبرية؛ مخافةَ التعرُّض لمضايقات. هذا ما أصبح مُزعِجًا جدًّا للمفكرين
«الإسرائيليين»،
فالسُّمعة التي بُنِيَت في قرون، ماضية إلى التزعزع والتلوث، وهذا يُعرِّي الكيان،
ويدعه بلا سند أيديولوجي وتعبوي، ويترك الباب مشرعًا لعودة الكراهية لأفعال وشخوص
أبناء هذه الدولة اللقيطة، ومِن ثَم تزعزع أركانها متى لاحت في الأفق فرصة لكسر هذه
الدولة وإزالتها، لا سيما أن هذا الوجود لم يتحقّق إلا {بِحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}،
فإذا ما زال الحبل عادت إليهم {الذِّلَة}.
- أحد أسباب الترويج لقيام
«إسرائيل»
كان التخلُّص من فقراء اليهود (الأرثوذكس) في شرق أوروبا، الذين لا ترغب أوروبا
الغربية بهم، ولا يهود الأشكناز الأغنياء في الغرب، فكانت
«إسرائيل»
حلًّا. وهذا الحل عزَّزته فكرة تجريم
«معاداة
السامية»
التي غدت اليوم مُهدَّدة بسبب الجرائم التي لم يَعُد كثير من العقلاء يقبلون
بمبرراتها الهشَّة.
- مع طغيان المادية على المدنية الأمريكية والأوروبية كذلك، تكشفت للجماهير فداحة
الأثمان التي يدفعها دافعو الضرائب من أجل تمويل جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية،
وحملات إبادة جماعية للأطفال والنساء والشيوخ، فلقد سقطت كل مبررات إنفاق الولايات
المتحدة الأمريكية نحو 345 مليار دولار على الكيان الصهيوني في صور مساعدات عسكرية
وتقنية منذ إعلانه كـ«دولة».
من منظور مادي بحت، تخسر
«إسرائيل»
معركة أمام جماهير يتزايد زهدها في دعم
«إسرائيل»
بل تعارضه بدرجات متفاوتة حتى في داخل اليمين الغربي نفسه، الذي يُعتَبر بيئة حاضنة
للكيان الصهيوني. والمواطن الغربي أصبح يعارض توظيف الضرائب التي يدفعها، -ويَكِدّ
في دفعها مع ازدياد التضخم في العالم-، في قتل الأطفال جوعًا وحرقًا وتمزيقًا، حتى
من دون طائل يعود عليه.
- ثمة عملية إحلال وتبديل قائمة في الغرب الآن؛ حيث يُستنتج من خلال المعطيات
الإحصائية أن الجيل القديم الذي يؤيد
«إسرائيل»
تقليديًّا يغادر المشهد حضورًا وتأثيرًا، وحلَّ جيل يكفر معظمه بزيف
«عدالة
الدولة اليهودية»،
وقد أظهر استطلاع حديث أجرته جامعة
«هارفارد»
بالتعاون مع مؤسسة
«هاريس»
أن 60% من الشباب الأمريكيين يُفضِّلون حركة
«حماس»
على دولة الاحتلال
«الإسرائيلي»،
في ظل الحرب المستمرة على قطاع غزة. وتعكس نتائج الاستطلاع تحوُّلًا لافتًا في
مواقف الأجيال الجديدة داخل الولايات المتحدة تجاه العدوان
«الإسرائيلي»؛
إذ بيّنت أن جزءًا كبيرًا من الشباب بات أكثر تعاطفًا مع القضية الفلسطينية.
ليس هذا فحسب، فناهيك عن أن الاستطلاع صادر عن أهم جامعة أمريكية تُصدِّر الساسة
إلى الكونجرس ومراكز صنع القرار الأمريكي مستقبلًا، فالاستطلاع يبين الاهتمام
المتزايد بالقضية نفسها بغض النظر عن جهة التأييد، بمعنى أنه بسبب غزة أصبح للشباب
-خصوصًا اليساري منه- قضية عادلة يدافع عنها، ويهتم بمتابعة أخبارها.
ولنوضّح أكثر: إن الزخم الذي تلقاه مأساة غزة لا ترقى إليه اليوم أيّ قضية سياسية
أو اجتماعية داخلية أو خارجية في الغرب. واستمرار المظاهرات المُؤيِّدة لأهل غزة
وحقوقهم المشروعة لشهور تلو شهور، وبكثافة وحضور لا يَفْتر، يعني أننا إزاء تحوُّل
هائل في المزاج العام لقطاع من الشباب لا يمكن الاستهانة بأعدادهم ولا تأثيرهم في
محيطهم، الذي ألِف مظاهرات غزة مثلما يألف طلوع الشمس وغروبها في السماء!
- وإذا كان الجيل لم يغادر المشهد -بالتأكيد-؛ لكونه هو الحاكم والمهيمن على
القرارات الغربية؛ فإن فجوةً وتصدُّعًا بائنًا بين الجيلين مؤذن بصراع أجيال على
أرضية سياسة وعقدية -ربما- بخلاف الصراع التقليدي بين الأجيال القائم في معظمه على
مسائل اجتماعية. وفي فبراير 2024م، وجد استطلاع للرأي أجراه مركز بيو البحثي أن 33%
من الأمريكيين في سن 18 إلى 29 سنة من مختلف الأطياف السياسية يتعاطفون أكثر مع
الفلسطينيين، في حين تعاطف 14% منهم فقط مع
«الإسرائيليين».
وتتباين هذه النِّسَب تباينًا حادًّا مع نسبة 47% من المشاركين فوق سن 65 عامًا ممن
تعاطفوا أكثر مع
«الإسرائيليين».
- تتسع الهوة بسرعة بين اليمين المحافظ واليسار، على نحوٍ لم يتكرَّر منذ الأيام
الأولى للحرب الباردة بين الولايات المتحدة ومعسكرها الغربي والاتحاد السوفييتي
ومعسكره الشرقي. ولقد كان لافتًا أن أصابع الاتهام لأول مرة في العقود الأخيرة لم
تتجه مباشرة -دون دليل- إلى ما يُسمَّى بـ«الإرهاب
الإسلامي»،
وإنما
«اليسار
الراديكالي»،
على حدّ وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في أول تعليق له على اغتيال اليميني
المحافظ تشارلي كيرك في الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر 2025م.
وللعلم؛ فإن وصف فئة من اليسار بالراديكالية هو مجرد تخفيف أو توطئة متوقعة لوصفه
لاحقًا بالإرهاب، ما يُنذر بحصول تشقق تدريجي في المجتمع الغربي، ولقد أسهمت غزة
بكل تأكيد في اتساع هذه الفجوة بين اليمين واليسار؛ إذ تتهم رموز الأول، الجماعات
اليسارية ببناء تحالف قوي مع الجماعات الإسلامية والنشطاء الفلسطينيين، يُنظَر إليه
عند اليمين على أنه تحالف مصلحي، يوفّر كلّ منهما رافعة للآخر. وهذا ملمح لا يمكن
تغافله عند النظر للمستقبل السياسي في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، كما أنه
يُثير شكًّا في احتمال دخول الصين وروسيا لاحقًا في دعم التمرد اليساري الصاعد.
وفي الداخل الأمريكي، يتمثل اليمين في الحزب الجمهوري، واليسار في الحزب
الديمقراطي، وقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة غالوب هذا التأثير الغزاوي على المزاج
العام بين جمهوري الحزبين الكبيرين، وأوضح أن 59% من الديمقراطيين يتعاطفون أكثر مع
الفلسطينيين، بينما أعرب 21% فقط عن تعاطفهم مع
«الإسرائيليين».
ولا ينطبق الأمر نفسه على الجمهوريين؛ إذ لا يزال تعاطفهم يميل بقوة إلى صالح
«إسرائيل»؛
حيث يُفضِّل 75% منهم
«الإسرائيليين»،
مقابل 10% فقط يدعمون الفلسطينيين. ومع ذلك هناك تحوُّل في اليمين نفسه مع ارتفاع
موجة الغضب الشبابية حيال الإبادة الجماعية في غزة.
- لم تفلح أدوات القمع المختلفة، من قانونية، وأمنية، وأكاديمية، ونحوها، والتي
تُمارَس في الغرب ضد النشطاء والمتظاهرين المؤيدين لحق أهل غزة في الحياة، في تحويل
دفة التأييد باتجاه
«إسرائيل»،
بل جُوبِهَت في كثير من الأحيان بحالة من الإصرار، وربما العناد أيضًا من مجموعات
شبابية، بل ظهر أن قدرة الساسة في الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية على التصدي
للمظاهرات والأنشطة المعارضة تتراجع، فمثلًا صدر في العام 2024م قانون للحدّ من
الرفض الشعبي لسياسات الحكومات الغربية المتواطئ مع
«إسرائيل»،
لكن في العام التالي عندما تبنَّى النائبان غوتهايمر والجمهوري مايك لولر من
نيويورك مشروع قانون، يهدف إلى توسيع العقوبات المدنية وفَرْض غرامات جنائية تصل
إلى مليون دولار والسجن لمدة تصل إلى 20 عامًا، لمن يدعم دعوات مقاطعة
«إسرائيل»؛
فشل المشروع وتراجع مُقدِّموه.
وفي الساحل الآخر من المحيط الأطلسي، اضطرت حكومات أوروبية عُرفت تاريخيًّا
بتأييدها المطلق لـ«إسرائيل»،
بل مساهمتها في قيامها؛ إلى اتخاذ إجراءات ضد الكيان الغاصب، ونعني بريطانيا
وفرنسان وحتى إيطاليا التي يحكمها اليمين، هذا علاوة على رأسي الحربة ضد
«إسرائيل»
في أوروبا، إسبانيا وإيرلندا، مرورًا بدول كالنروج وهولندا.
* * *
ما يُستَشَفّ من هذا التضامن العالمي مع غزة هو أن تأثيره كبير، لكنّه ليس على
إستراتيجية
«إسرائيل»
حيال غزة، التي تتمنى إنجاز خطتها التهجيرية فيها قبل أن تفقد رصيدها بالكامل في
العالم برُمّته. فتل أبيب تأخذ بالاعتبار هذا الانهيار الشديد لسُمعتها الدولية على
حدّ ما اعترف به ترامب وعدد من ساسة وجنرالات الكيان أنفسهم، لكنّها مع ذلك تسبح ضد
تيار جارف لعلها تنال بغيتها، ثم تغسل سُمعتها فيما بعد!
غير أن ذلك من الصعب أن يحصل؛ فالتضامن -كما أشرت- لن يؤثر ظرفيًّا على وقف الإبادة
بشكل مباشر، لكنّه قد أصبح يُغيِّر وجه العالم كله، ويُبَشِّر بغدٍ مختلفٍ، حتى على
صعيد انتشار الإسلام والتعرُّف عليه من قبل الغربيين، هو أيضًا تحوُّل محسوس ولو لم
تُعزّزه بيانات واضحة؛ فجملة من المعاني والثوابت قد تزعزعت لدى رجل الشارع في
الغرب، وهو يسأل الآن: لماذا نستقطع من إرث أولادنا لنقتل أولادَ آخرين لا نعرفهم؟
لماذا تعاندنا حكوماتنا لهذه الدرجة؟ أنحن نُحكَم بالديمقراطية أم بإرادة صهيونية؟
هل غدونا بحاجة للتضحية من أجل نيل حرية التعبير من جديد في قلاع الحرية
والديمقراطية؟ أسئلة تتناسل في عقول حائرة.