• - الموافق2025/04/02م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
مقاصد العمل التطوُّعي من خلال قصص القرآن الكريم

ومما يدل على حفظ مقصد المال في قصة يوسف -عليه السلام- قوله تعالى: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55]؛ أي مَكِّني من إدارة الأموال؛ لأحفظ الحاصلات والغلات، وأعرف كيف أُديرها وأصرفها في سنوات الجدب القادمة. فطَلَب


من المعلوم بالضرورة أن الدين عند الله الإسلام؛ وهو دين التوحيد، وإن تعدَّدت المسميات والشرائع، ولذا جاءت مقاصد الرسالات السماوية واحدة، لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، فتحقيق قواعد الدين، وحمايتها، لا تختلف عليه الديانات السماوية. وحِفْظ المقاصد الضرورية كالدين والنفس والعقل والمال والنسل، مما اتفقت عليه الديانات السماوية كلها، وشهد بذلك أصحاب العقول السليمة.

وأعمال الخير والنفع المتعدي من أولويات المقاصد عند سائر الأنبياء -عليهم السلام-، وهذا ما يَظهر جليًّا في قصصهم عن الأعمال الخيرية التطوعية التي قاموا بها.

وهذا البحث إنما يروم الكشف عن هذه المقاصد في ثنايا قصص الأنبياء -عليهم السلام- التي تناولت أعمالهم التطوعية.

أولاً: تعريف مصطلحات البحث

المقاصد: تنوعت تعاريف المقاصد، وكلها لا تخرج عن: المعاني والغايات والحِكَم، والأسرار التي وضعها الشارع لتحقيق مصالح العباد[1].

العمل التطوعي: يُقصَد به كلّ جُهْد، مادي أو معنوي، يقوم به المتطوعُ؛ سواء أكان فردًا أو جماعة، بهدف جلب المصالح للآخرين أو درء المفاسد عنهم، ابتغاءَ مرضاة الله تعالى.

قصص القرآن الكريم: القصّ بمعنى تتبُّع الأثر[2]. وقصص القرآن الكريم هي أخباره عن أحوال الأمم الماضية، والنبوّات السابقة، والحوادث الواقعة[3].

أولاً: نماذج من الأعمال التطوعية في قصص القرآن الكريم

القصة القرآنية، بمجملها، جاءت على ثلاث صور؛ إما قَصص الأنبياء السابقين -عليهم السلام-، وما جرى لهم من أحداث ووقائع مع أقوامهم، أو قصص الأمم السابقة، وما ذكرته لنا من أحداث وأقوام، وإما قَصص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .

وسأحاول أن أُركّز في هذا المقال على أهمّ صُور الأعمال التطوعية المستخرَجة من قَصص القرآن الكريم.

أ. الأعمال التطوعية في قصة موسى -عليه السلام-

منع الرجل المؤمن من آل فرعون قتل موسى -عليه السلام-:

قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر: 28]؛ وقد اختلف أهل العلم في هذا الرجل المؤمن، فقال بعضهم: كان مِن قوم فرعون، غير أنه كان قد آمَن بموسى، وكان يُسِرّ إيمانه من فرعون وقومه خوفًا على نفسه[4].

التبرع بسقي الماء، وخدمة الضعفاء وذوي الحاجات:

ومن أمثلة العمل التطوعي الذي قصَّه علينا القرآن الكريم: ما قام به نبي الله موسى -عليه السلام- لمَّا ورد ماء مدين؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 23-24].

ب . الأعمال التطوعية في قصة الخضر -عليه السلام- مع سيدنا موسى -عليه السلام-:

تطوُّع الخضر -عليه السلام- ببناء الجدار من غير مقابل

أشار القرآن الكريم إلى تطوُّع سيدنا الخضر -عليه السلام- ببناء جدار من غير مقابل، بالرغم أن أهل تلك القرية رفضوا ضيافتهما؛ لذلك استنكر موسى -عليه السلام- ذلك، واعتبر أنهم ليسوا أهلًا للخدمة والمساعدة؛ قال تعالى: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ [الكهف: 77].

ورد في قصة موسى مع الخضر التي ساقها الإمام البخاري من حديث ابن عباس أن موسى -عليه السلام- قال للخضر -عليه السلام-: «قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا، {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: ٧٧-78][5]»[6].

ج. الأعمال التطوعية في قصة ذي القرنين.

حماية الضعفاء، ببناء السد بغير أجر:

قال الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا﴾ [الكهف: 93-98].

قال المفسرون: ذهب متوجهًا من المشرق، قاصدًا للشمال، فوصل إلى ما بين السدين، وهما سدّان، كانا سلاسل جبال معروفين في ذلك الزمان، سدًّا بين يأجوج ومأجوج وبين الناس؛ حيث وجد من دون السدين قومًا لا يكادون يفقهون قولًا؛ لعجمة ألسنتهم، واستعجام أذهانهم وقلوبهم، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية، ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم، وراجعهم، وراجعوه، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج، وهما أُمّتان عظيمتان من بني آدم؛ فقالوا: {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ}؛ بالقتل وأخذ الأموال، وغير ذلك. {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا}؛ أي جُعْلًا {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا}. ودل ذلك على عدم اقتدارهم بأنفسهم على بنيان السد، وعرفوا اقتدار ذي القرنين عليه، فبذلوا له أجرة، ليفعل ذلك، وذكروا له السبب الداعي، وهو: إفسادهم في الأرض، فلم يكن ذو القرنين ذا طمع، ولا رغبة في الدنيا، ولا تاركًا لإصلاح أحوال الرعية، بل كان قصده الإصلاح، فلذلك أجاب طلبتهم لما فيها من المصلحة، ولم يأخذ منهم أجرة، وشكر ربه على تمكينه واقتداره؛ فقال لهم: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}؛ أي: مما تبذلون لي وتعطوني، وإنما أطلب منكم أن تُعينوني بقوة منكم بأيديكم؛ حتى {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا}؛ أي: مانعًا من عبورهم إليكم. {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}؛ أي: قطع الحديد، فأعطوه ذلك، {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}؛ أي: الجبلين اللذين بني بينهما السدّ؛ {قَالَ انْفُخُوا} النار، أي: أوقدوها إيقادًا عظيمًا، واستعملوا لها المنافيخ لتشتد، فتذيب النحاس، فلما ذاب النحاس، الذي يريد أن يلصقه بين زبر الحديد؛ {قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا}؛ أي: نحاسًا مُذابًا، فأفرَغ عليه القطر، فاستحكم السد استحكامًا هائلًا، وامتنع به مَن وراءه مِن الناس، من ضرر يأجوج ومأجوج. {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}؛ أي: فما لهم استطاعة، ولا قدرة على الصعود عليه لارتفاعه، ولا على نَقْبه لإحكامه وقوته[7].

د. الأعمال التطوعية في قصة مريم -عليها السلام-

كفالة اليتيم والعناية به:

لقد ذكر القرآن الكريم تطوُّع سيدنا زكريا -عليه السلام- لكفالة السيدة مريم بنت عمران -عليها السلام-؛ قال الله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37]. وكفالة اليتيم من أفضل الأعمال التطوعية التي حثَّنا عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ورد في فَضْلها الكثير من الأحاديث؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : «أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا»، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى[8].

هـ. الأعمال التطوعية في قصة يوسف -عليه السلام-

تطوُّع سيدنا يوسف -عليه السلام- لإدارة وزارة المالية

أشار القرآن الكريم إلى نماذج من تطوُّع سيدنا يوسف -عليه السلام-، ومنه تطوُّعه ليكون وزيرًا للمالية، كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 54 - 55].

فتحمُّل سيدنا يوسف -عليه السلام- هذه المسؤولية المالية يدلّ على طموحه وهمّته، إضافةً إلى كونه كان يرى نفسه أهلًا لها، لذلك تحمَّلها من تلقاء نفسه.

الصفح والعفو عن المسيء والمعتدي عند المقدرة:

لقد صَفحَ سيدنا يوسف -عليه السلام- عن إخوته عمَّا قاموا به، ولم يَنتقم منهم، ولم يُعاملهم معاملة سيئة، مع توفر السلطة والمقدرة، وهذه هي أخلاق الأنبياء؛ قال الله -تعالى- على لسان سيدنا يوسف -عليه السلام-: ﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 92].

و.من الأعمال التطوعية في قصة النبي محمد صلى الله عليه وسلم :

تأمين الخائف:

أمَّنَ النبي صلى الله عليه وسلم  أبا بكر الصديق -رضي الله عليه- من خوفه، لمَّا كانا في الغار، وكان فُرْسان قريش يلاحقوهما ليقتلوهما، حتى وصلوا إلى باب الغار؛ ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40].

المبحث الثاني: المقاصد العامة والخاصة التي عالجتها القصة القرآنية

لا تخلو القصة القرآنية من المقاصد، سواء كانت كلية أم جزئية، إلى جانب ما تُعالجه من الجوانب والأحداث. وفي هذا الصدد سأحاول أن أذكر بعض المقاصد التي تضمّنتها الأعمال الخيرية التطوعية في القصص القرآني، كمشترك إنساني بين الأنبياء -عليهم السلام-، سواء أكانت مقاصد عامة أو خاصة.

إن الدين عند الله هو الإسلام، وقد جاء جميع الأنبياء بحِفْظ مقاصده الكلية؛ يقول الإمام الشاطبي: «فَقَدَ اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ -بَلْ سَائِرُ الْمِلَلِ- عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ وُضِعَتْ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ -وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْمَالُ، وَالْعَقْلُ-، وَعِلْمُهَا عِنْدَ الْأُمَّةِ كَالضَّرُورِيِّ»[9].

فمقصود الشارع من الخَلق خمسة، وهو أن يَحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم. وهذه الأصول حفظها واقع في رتبة الضروريات، فهو أقوى المراتب في المصالح[10].

وَتَحْرِيمُ تَفْوِيتِ هَذِهِ الْأُصُولِ الْخَمْسَةِ وَالزَّجْرِ عَنْهَا يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا تَشْتَمِلَ عَلَيْهِ مِلَّةٌ مِنْ الْمِلَلِ وَشَرِيعَةٌ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي أُرِيد بِهَا إصْلَاحُ الْخَلْقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَخْتَلِفْ الشَّرَائِعُ فِي تَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ[11].

ومن مقاصد العمل التطوعي في ثنايا القصص القرآني، ما يلي:

مقصد حفظ النفس:

يظهر هذا المقصد بشكل واضح في قصة موسى -عليه السلام-، وذلك في المواقف الآتية:

الموقف الأول: يظهر حفظ هذا المقصد في موقف الرجل المؤمن من آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه؛ حيث منعهم من قتل موسى -عليه السلام-؛ قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر: 28].

الموقف الثاني: ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [القصص: 20].

فقد جاء رجل من بني إسرائيل لتحذير موسى -عليه السلام- من خطر فرعون وجنوده، وأنهم يتآمرون عليه ليقتلوه. قَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَ رَجُلٌ} وَصَفَهُ بالرّجُولية لِأَنَّهُ خَالَفَ الطَّرِيقَ، فَسَلَكَ طَرِيقًا أَقْرَبَ مِنْ طَرِيقِ الَّذِينَ بُعثوا وَرَاءَهُ، فَسَبَقَ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ لَهُ: يَا مُوسَى {إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أَيْ: يَتَشَاوَرُونَ فِيكَ {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} أَيْ: مِنَ الْبَلَدِ {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}[12].

وهذا كله حِرْص على مقصد حِفْظ النفس، وهو مقصد كلي من مقاصد الديانات السماوية.

مقصد حفظ المال:

ومما يدل على حفظ مقصد المال في قصة يوسف -عليه السلام- قوله تعالى: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55]؛ أي مَكِّني من إدارة الأموال؛ لأحفظ الحاصلات والغلات، وأعرف كيف أُديرها وأصرفها في سنوات الجدب القادمة. فطَلَبُ يوسف -عليه السلام- تطوُّع من نفسه لإدارة الأموال في أصعب الفترات. 

مقصد حفظ العِرْض:

ويظهر حفظ هذا المقصد في قصة موسى -عليه السلام-، مع ابنتي شعيب -عليه السلام-، لما سافر إلى مدين، فأبصر فتاتين مع أغنامهما، تحبسانهما عن زحام الرجال، فسقى لهما موسى -عليه السلام- تطوُّعًا من نفسه؛ قال الله تعالى: ﴿فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]، ولم يطلب منهما مقابل، أو ثمنًا لجهده، ولم يسألهما، ولم يتواصل معهما، بل تولَّى عنهما إلى ظل شجرة، وجلس يدعو الله تعالى مفتقرًا إليه سبحانه.

وفي القصة إشارة لطيفة إلى حِفْظ عِرْض الفتاتين من مزاحمة الرجال، والغَيْرة عليهما، وهذه أخلاق الأنبياء -عليهم السلام جميعًا-، وهي مقاصد أصيلة لا يُخْتَلف حولها.

مقصد إعانة الضعفاء والمحتاجين:

يظهر هذا المقصد جليًّا في قصة موسى، -عليه السلام- مع الفتاتين، فهو لم يقف وقفة المتفرج لما شاهده من موقف الفتاتين، وهما يذودان أغنامهما؛ قال ابن كثير: «معنى تذودان أي: تكفكفان غنمهما أن تَرِد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذيا»[13].

والشاهد أنهما كانتا ضعيفتين، وفي حاجة إلى مَن يتكفل بأمرهما ويسقي لهما؛ فكان النبي موسى -عليه السلام- الذي أُوتِيَ بسطةً في الجسم هو صاحب النجدة والخُلُق العظيم، فسقى لهما، وفي هذا بَذْلٌ لجهدٍ، وإغاثةٌ لملهوفين، ونصرةٌ لمستضعفين، دون طلب مقابل على جهده؛ قال السعدي: {فَسَقَى لَهُمَا} غير طالِب منها الأجرة، ولا له قصد غير وجه الله تعالى[14].

مقصد تأمين الخائف والحزين وبثّ السكينة في نفوسهم

في قصة النبي صلى الله عليه وسلم ، لما طمأن صاحبه أبا بكر الصديق -رضي الله عليه عنه-، وهما في الغار؛ إذ قال له لا تحزن إن الله معنا؛ ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾؛ فكان هذا الكلام بلسمًا على قلب أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، فأنزل الله السكينة عليهما؛ قال الله تعالى: ﴿فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40].

مقصد كفالة اليتيم والقيام على شؤونه:

تضافرت النصوص القرآنية والحديثية على أهمية كفالة اليتيم والقيام على شؤونه، فهو مقصد عظيم حثّ الشرع عليه، وندب إليه؛ لما ينطوي عليه من آثار إيجابية. ومما يدل على حفظ هذا المقصد قصة مريم -عليها السلام-، فقد تسابق الكهنة إلى كفالتها؛ قال الله -تعالى- مبينًا صورة تسابقهم إلى كفالتها: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران: 44]

فكفلها زكريا، -عليه السلام-، قال الله تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37].

مقصد إعمار الأرض ونشر العدل بين الناس:

إعمار الأرض مقصد عظيم، دعت إليه كل الشرائع، ومما يدل على هذا المقصد الإلهي: ما ذكره الله -سبحانه وتعالى- في قصة ذي القرنين، فقد بنى سدًّا منيعًا، لمَّا رأى إفساد يأجوج ومأجوج في الأرض، وانتشار جَوْرهم، فلم يأخذ منهم أجرة، فقال لهم: {مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}؛ أي: مما تبذلون لي وتعطوني، وهذا هو نهج الأنبياء والصالحين جميعًا، هدفهم الإصلاح في الأرض لا الإفساد.

فذو القرنين أزال ضرر يأجوج ومأجوج، فجعل بينهم وبين الناس سدًّا منيعًا؛ {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا}؛ ليمنعهم عن الناس، ويحجبهم عنهم؛ لأنهم أهل فساد في الأرض.

خاتمة

نخلص في نهاية هذا المقال للقول: إن حفظ المقاصد الشرعية أمر ثابت في كل الشرائع والأديان، لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، وآيات القصص القرآني التي تناولت العمل التطوعي فيها دلالات واضحة على حِفْظ مقصد النفس والمال والعرض والدين، ومقاصد أخرى.

 


 


[1] مقاصد الشريعة الإسلامية، الطاهر بن عاشور، تحقيق: محمد الحبيب ابن الخوجة، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، عام النشر: 1425هـ - 2004م، ج2، ص21. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، علال الفاسي، دار الغرب الإسلامي، ط5، 1993م، ص7.

[2] يُنظَر: مقاييس اللغة، ابن فارس، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1979م، ج5، ص11.

[3] مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، ط3، 1421هــ ــ 2000م، ص316.

[4] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر، محمد بن جرير الطبري، دار التربية والتراث، مكة المكرمة، بدون تاريخ نشر، ج21، ص 375.

[5] صحيح البخاري، كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى -عليه السلام-، رقم الحديث (3401).

[6] تفسير القرآن العظيم، أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2، 1420هـ-1999م، ص176.

[7] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط1، 1420هـ -2000م، ص186.

[8] صحيح البخاري، كتاب: الآداب، باب: فضل مَن يَعُول يتيمًا، رقم الحديث (6005).

[9] الموافقات، أبو إسحاق الشاطبي، تحقيق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان، الطبعة، 1، 1997م، ج1، ص 31.

[10] المستصفى، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، تحقيق: محمد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلمية، ط 1، 1993م، ص 174.

[11] المستصفى، للغزالي، ص174.

[12] تفسير ابن كثير، ج6، ص226.

[13] تفسير ابن كثير، ج/20، ص 1734.

[14] تفسير السعدي، ص 614.


أعلى