وإذ ظنُّوا أنَّ إيران ستخوض حربًا حقيقيةً ضد «إسرائيل»، استنادًا إلى ما هدَّدت به الدوائر الإيرانية، وإلى ضربات «إسرائيل» والولايات المتحدة الموجعة، ولفَرْط ما هدَّدت «إسرائيل» من جهتها بتغيير النظام في إيران الذي يستنزف موارد الشعب الإيراني، ويُنفقُها في
«لقد دعم العبيديون (الفاطميون الشيعة)، الصليبيين في أول الأمر، ووجدوا فيهم حلفاء طبيعيين ضدَّ السلاجقة (السُّنَّة) خصومهم. وقد ذكرنا أنهم اتَّفقوا معهم على أن يحكم الصليبيون شمالي بلاد الشام، ويحكم العبيديون جنوبيها، وقد دخلوا بيت المقدس، غير أن الصليبيين عندما أحسُّوا بشيء من النصر تابعوا تقدُّمهم واصطدموا بالعبيديين، وبدأت الخلافات بينهما، فالعبيديون قد قاتلوا الصليبيين دفاعًا عن مناطقهم، وخوفًا على أنفسهم، ولم يقاتلوا دفاعًا عن الإسلام وحمايةً لأبنائه، ولو استمرَّ الصليبيون في اتفاقهم مع العبيديين لكان من الممكن أن يتقاسموا وإياهم ديار الإسلام».[1]
لربما لا تتغيَّر قواعد تفسير الوقائع السياسية على مرِّ العصور، لكنَّ قُدرة الناس على رؤيتها واستيعابها، تتفاوتُ بمقدار وعيها وإدراكها لتأثيرات العقيدة والسُّنن على الأحداث، واستكناه الدوافع والأسباب التي تجعل من البعيد قريبًا واللامنطقي معقولًا.
ولا تنفك الأحداث تبرهن يومًا بعد يوم، أنَّ خيالات الحالمين لا يمكنها أن تُقدِّم تفسيراتٍ دقيقةً لما يحصل من الوقائع؛ وذاك أنَّ العاطفة لا يمكن أن تكون رائدةً لأهلها في فَهْم ما يدور في الأرجاء، خصوصًا إذا كانت المشاهد معقَّدةً وملتبسةً ومتشعِّبةً كمثل حدث بحجم «طوفان الأقصى» الذي مسّت تأثيراته العالم.
بين منظورين
أعين المتعاطفين مع فكرة المقاومة -بكل ما تحويه من فصائل سُنِّيةٍ وأخرى تدَّعي المقاومة من الميليشيات الشيعية- كليلةٌ عن أن ترى أهدافًا إستراتيجية وأخرى تكتيكية تضعها طهران نصب أعينها، تتقدَّم هنا خطوةً وتتراجع أخرى، وتُناور هنا، وتُحاور هناك؛ ما دامت ترى الميدان أمامها شاهدًا على «المقاومة» و«إسنادها»، سواءٌ أكان في غزة أم لبنان أم العراق أم اليمن، أم في أيّ مكان في العالم مُواطئًا لفكرة المقاومة والتصدي للكيان الصهيوني.
وأعين الرافضين لتلوُّث هذا المفهوم (المقاومة) بإرادات باطنية إيرانية، كليلةٌ هي الأخرى عن أن ترى معارك حقيقية بين الكيان وأذرع إيران وأدواتها، ظنًّا منهم أن كل ما يكون بينهما هو من قبيل «التمثيل» والخداع المبرمَج منهما لأهل السنة، وتُحاول أن تلوي عُنُق كلِّ معركةٍ أو صدامٍ لتُصوِّره على أنه محض «مسرحية»!
جدل محتدم
هذه النظرة وتلك قد أفرزت جدلًا شديدًا في العام 2006م، حين انبهر قوم بصواريخ «حزب الله» على مواقع الكيان الصهيوني، حتى علّق بعض البسطاء من أهل السُّنة صُور زعيمه (نصر الله) في بيوتهم، ودقَّ آخرون نواقيس الخطر؛ تحذيرًا من هذا الانبهار المجرَّد أهلُه من الاهتمام بقوة العقيدة وأهميتها؛ سواء في اتخاذ المواقف أو إبداء التعاطف. ومن الفئة الثانية كان البعض يتزوّد إلى جانب العقيدة بوعي سياسي يُدرك أبعاد ما كان يجري، والبعض الآخر اقتصر على رفضه للحزب الإيراني من منطلق عقديٍّ بَحْت، ولم يُرد أن يَشْغل باله طويلًا بالبحث في علم السياسة وتقاطع المصالح بين الدول وتعارضها.
وإذا كان هذا الجدل قد اشتد أواره في أثناء وأعقاب حرب 2006م بلبنان، فإنه الآن أشدّ، كيف لا، ونحن نلحظ أن حرب لبنان قبل نحو عشرين عامًا، بكل تفاصيلها وعنفوانها لم تعُد تُشبه سوى هامشٍ مرَّ كشهابٍ في جوار ملحمة غزة، ثم ما لبث أن اختفى هو وشياطينه، وبقيت غزة وأبطالها يناضلون، تمامًا مثلما مرت حرب الشهرين في لبنان أمام طوفان الأقصى الهادر.
ولئن كاد هذا «الشهاب» أن يختفي مع اتفاق مُذِل لـ«حزب الله» مع «إسرائيل»؛ فإنَّ الحالة التي صنعتها الحرب المحدودة على جانبي الحدود الفلسطينية/ اللبنانية لم تزل آثارها حاضرة، ليس على الأصعدة الإنسانية والاقتصادية والسياسية وحدها، وإنما الأخطر من ذلك هو ما ترك ندباته في صعيد الأفكار والعقائد. وذاك أن الذين يبنون تصوُّراتهم وأفكارهم على قَدْر أعداد الصواريخ والقتلى، أو مَن يُؤسِّسون رؤاهم على تصوُّرٍ جامدٍ في مقابل ذلك، لا يرى الأحداث إلا من منظور معولب مسبقًا، هم -بكلّ أسف وأسًى- كثرةٌ في المحيط الإسلامي، ولقد تركت تلك الأحداث هؤلاء وأولئك حيارى غير مرة.
فالواقع أننا إزاء فريقين من الناس؛ فريق يتغافل عن العقيدة والسُّنن والتاريخ حدّ الجهالة، والتفريط حتى فيما لا ينبغي التمسك به من ثوابت وقِيَم. وفريق يغيب عن الواقع ونواظمه، والسياسة وقواعدها، فيما يُدمن على ترديد مقولته السهلة فيما يراه من علاقة إيران وأذرعتها بـ«إسرائيل»: «إنها مسرحية»!
وهؤلاء وأولئك أُصيبوا بصدماتٍ متلاحقةٍ لم يجدوا معها في قراءتهم التقليدية تفسيرًا مقنعًا؛ فأخذوا يلوون أعناق الأحداث لتوافق هواهم؛ فاستصغروا الكبير، وكبّروا الصغير، ليواطئوا رؤيتهم المسبقة!
صدمة جبهة الإسناد والمقاومة:
اصطدم هؤلاء الذين أرخوا لخيالهم العنان في الإيمان بفكرة «جبهة الإسناد للمقاومة»، والتي تضم الحوثيين و«حزب الله»، وما يُسمَّى بالمقاومة العراقية، وإيران ذاتها، التي تقود وتُموّل كل هذا وترعاه.
جاءتهم الصدمة تلو الأخرى، مع اتفاق مُذِل بين «حزب الله» و«إسرائيل». دَعْكم من أنه كاد أن يخلو من أيّ مزية لـ«حزب الله» سوى وقف تدمير الضاحية حتى النهاية، والامتناع عن قتل وجرح المزيد من عناصر الحزب، لكنّ الأهم أنه لم يأتِ على ذِكْر «غزة» -ولو عرضًا!- في الاتفاق الذي جاء منفردًا تمامًا[2]، ولم يربط «الساحات» بعضها ببعض، خصوصًا أن اشتراك «حزب الله» في مناوشة «إسرائيل» بالأساس كان بدعوى الانتصار لغزة، وتخفيف الضغط عنها!
ومِن قبل، صَدَمتْهم هشاشةُ المساندة منذ البداية، خصوصًا مِن قِبَل «حزب الله» الذي يصفُه الغرب و«إسرائيل» بأنه أقوى ميليشيا اليوم في العالم، حتى هزأ المناوئون له بما سُمِّي بـ«معركة ذات العواميد»؛ تهكُّمًا على القصف الذي امتدّ لنحو عشرة شهور ولم يَطل إلا أهدافًا هامشية تمامًا كمثل أبراج الاتصالات وعواميدها.
ومن بعد، صدَمهم حرص إيران على الاتفاق مع الولايات المتحدة الأمريكية على طبيعة الأهداف التي ستستهدفها طهران في ضربتها على «إسرائيل»؛ ردًّا على اغتيال ضيفها «إسماعيل هنية»، واغتيال كبار قادة «حزب الله»؛ حسن نصر الله، وهاشم صفي الدين، وفؤاد شكر، وغيرهم. وحرصها كذلك على إخلاء كثير من صواريخها من الرؤوس التفجيرية. وحتى حرص طهران في الاتفاق اللبناني الأخير على أن تكون حاضرة ضمن المفاوضات ولو من خلف الستار؛ إذ ينقل الكاتب ديفيد إغناشيوس[3] عن مسؤولٍ خليجيٍّ بارزٍ قولَه: «إنَّ الولايات المتحدة وإيران تتبادلان رسائل منتظمة، وإن إيران لو كانت عازمة على معارضة هذا (الاتفاق) لما حدث»[4].
وإذ ظنُّوا أنَّ إيران ستخوض حربًا حقيقيةً ضد «إسرائيل»، استنادًا إلى ما هدَّدت به الدوائر الإيرانية، وإلى ضربات «إسرائيل» والولايات المتحدة الموجعة، ولفَرْط ما هدَّدت «إسرائيل» من جهتها بتغيير النظام في إيران الذي يستنزف موارد الشعب الإيراني، ويُنفقُها في حروبه الطائشة، على حدِّ قول نتنياهو في خطابه الذي دغدغ به مشاعر الإيرانيين، وما خلصوا إليه من أن «إسرائيل» ستُوجِّه ضربةً حقيقية لإيران تُزلزل عرش الملالي؛ فإنَّهم انصدموا بتنسيقٍ عالٍ تمَّ عبر واشنطن لاختيار أهداف في إيران لا هي نووية ولا هي نفطية لقصفها!
وبالتالي لم تحصل هذه الحرب التي توقعوها بناءً على تخيلاتهم بأن إيران وأذرعتها تساند المقاومة حقًّا، وأنها ستمضي في «عدائها» مع «إسرائيل» حتى نهاية المضمار!
وفي المقابل..
فإنَّ الذين أداموا ترديد مقولتهم: إن ما يدور بين إيران و«إسرائيل» (ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية)، لا يعدو أن يكون مجرَّد هزلٍ وتمثيلٍ يَضحَكون به على السُّذَّج، هالهم اغتيال أبرز قائد شيعي عربي يؤمن بولاية الفقيه (الإيراني)، وأشهرهم كاريزما ودهاء؛ حسن نصر الله، وبرفقته أو بعده، هاشم صفي الدين، خليفته في زعامة الحزب، وكذا الكثير من قادة «حزب الله» وكوادره المميزة، وتعرُّض قوته النخبوية (فرقة الرضوان التي أسَّسها عماد مغنية في الثمانينيات، وتعتبر أخطر قوةٍ لدى الحزب) لضرباتٍ عنيفةٍ كسرت عنقها أو كادت. ومن قبل، شلّ كوادر الحزب البارزين بعملية البيجر الخطيرة التي أوقعت أكثر من ثلاثة آلاف كادرٍ جرحى، وبثَّت الرُّعب في قلوب سائر عناصر الحزب. وكذلك ضربة «إسرائيل» العنيفة على ميناء الحديدة وبعض المواقع الإستراتيجية للحوثيين، والتي قللت نسبيًّا من ضربات الحوثيين الصاخبة، وألزمتهم حدًّا لا يفاقم الغضب «الإسرائيلي» أكثر مما هو عليه في الوقت الحالي.
هذا عدا عن الضربات والاغتيالات المُوجِعة للحرس الثوري، وخصوصًا «فيلق القدس»، في سوريا تحديدًا، وفي إيران تاليًا، والتي تركت أثرًا واضحًا على قُدرة ميليشيات إيران في سوريا على الصمود أمام فصائل «الثورة السورية»، على النحو الذي بان بَعْده عوارُها في معارك تحرير سوريا التي أدَّت إلى إسقاط نظام بشار الأسد وطرد ميليشيات إيران من الأراضي السورية.
وكذلك؛ فإنَّ معتنقي فكرة «المسرحية» لم يجدوا تفسيرًا حقيقيًّا لعمليات المسيَّرات والصواريخ التي أطلقها «حزب الله» والحوثيون، على تل أبيب، وكبريات مدن فلسطين المحتلة (1948م)، والتي بثَّت الرُّعب بشكلٍ لا يمكن إنكاره بين الصهاينة، ودفعت كثيرًا منهم إلى الهجرة من فلسطين؛ تأثرًا بها، إلى جانب تأثرهم المعتاد من صمود غزة وقدرتها على المقاومة لمدة تبلغ نحو سنة وربع.
مبعث الالتباس
مبعث الالتباس والحيرة عائد إلى أمور أشكلت على الناس في فهم علاقة طهران بتل أبيب، وكذلك واشنطن، أبرزها ما يلي:
- إن العلاقات بين الدول لا تشبه العلاقات بين الأشخاص (وبالتالي فإنهم حين يكونون حلفاء؛ فلا مجال لتضارب المصالح واختلاف الرؤى والمسارات في ملفاتٍ دون أخرى، وإذا كانوا أعداءً فلا نقاط مشتركةً يمكن أن تجمعهم)؛ وهذا ابتداءً غير صحيح في عالم السياسة. وأصحاب هذا التصور الشخصي للدول يُفاجئهم مثلًا وجود أنبوبٍ نفطيٍّ يمرُّ عبر دولٍ بينها حربٌ قائمة، وجميعها لا يتعرّض له ولا يمسّه بسوء؛ رغم الحرب الدائرة بينهم!
- إن أهداف الحروب ليست جميعُها تُختزل في إفناء الطرف الآخر وإلغائه من الوجود كلية، فليست كل الحروب صفريةً، ولا هذا من بين أبرز أهدافها؛ فالقوة لا تُستخدم لهذا الغرض على الدوام؛ يقول عالم الاجتماع «تالكوت بارسونز» مدللًا على أنَّ الاستخدام الصفري لمفهوم القوة (وبالتالي الحروب) ليس هو السائد: «أثبتت التجارب العديدة أنَّ كافة استخدامات القوة كانت لخدمة مصالح مشتركة»[5]، وبالفعل؛ فالتجارب تُثبت أن استخدام القوة في الحروب لا يُقصَد منه بالضرورة إنهاءَ وجود الآخر، والتاريخ يشهد مثلًا على حِرص الدول الأوروبية على بقاء الدولة العثمانية لعشرات السنين خشية أن يرثها الروس. والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، فالإخلال بموازين القوى يضرّ في أحيان كثيرة بالمنتصرين.
- إنَّ مدَّ جسور الدُّولِ الكبرى للأقليات في أيّ منطقةٍ لا يعني بالضرورة رضاها عنها، وإنما يكون ذلك غالبًا؛ لعلمها أنَّ الأقليات ضعيفةٌ وسط محيطٍ كبيرٍ، والسيطرةُ عليها والتحكُّم في قرارها وقوَّتها في نهاية المطاف أيسر كثيرًا من الأكثرية. وبالتالي؛ فتلك الدول تقبلُ من الأقليات توسُّعًا وانتفاشًا لأكبرَ من حجمها الحقيقي، لإضعافٍ وإنهاك المحيط الأوسع، ولا يكون ذلك ترخيصًا (على بياض) ومنفلتًا من أيّ تقنين أو حدود، ولا اتفاقًا بغير شروط.
خصوصية إضافية
إلى جانب ما تقدم، ثمة خصوصيةٌ في العلاقة الملتبسة بين طهران وتل أبيب وحلفائها، متمثلة في كون هذا «الكيان اليهودي» وتلك الدول «المسيحية» المتحالفة معها، تُدرك جيدًا المقتَ والحنق الذي يُكنُّه نظام الملالي وأتباعُه لأهل السنة/ السواد الأعظم من المسلمين، ولقد استخدمت هذه الحقيقة التي يُدركُها الغربُ كثيرًا في العالم الإسلامي، لا سيَّما الحيِّز العربي منه؛ فسُلِّمت العراقُ ولبنانُ وسوريا واليمن إلى إيران، أو سَمح الغرب بمدِّ طهران نفوذها إلى تلك الدول. استنادًا إلى مقوّمات العلاقة التحالفية الجزئية مع إيران، والتي أثبتت نجاعتها في المنطقة منذ قيام نظام الملالي 1979م، واعتمادًا أيضًا على إرث تاريخٍ تدركه «إسرائيل» والغرب جيدًا، من تحالف الصفويين مع البرتغاليين، ومن تحالف العُبيديين، والفِرق الباطنية في الشام مع الحملات الصليبية... إلخ.
لكن في الحقيقة، ما لا ندركه نحن، أنَّ لدى الدول -مهما تحالفت مع بعضها- مصالحَ متعارضة مع حُلفائها، ولذا يصعب تجيير كل حادثةٍ باتجاه تفسير أُحاديٍّ للأحداث لا يَرى في أيّ عملٍ سوى أنَّه نتاجُ اتفاقٍ سرّيٍّ بين الطرفين. ولدينا في التاريخ شواهدُ متعددةٌ لنزاعاتٍ نشبت بين الدولة العبيدية والنصارى، أو بين الحشاشين والصليبيين، حتى إن من هدم قلعة ألموت معقل حسن الصباح، (في عهد خليفته ركن الدين خورشاه) كان المغول (بقيادة هولاكو)، ولم يكن للمسلمين دور في ذلك رغم اكتوائهم بنار الباطنيين! هذا موجود، وذاك أيضًا؛ وذاك لأنَّ لكل دولةٍ مشاريعَها الخاصة، ولديها سياساتها التي يُمكنها أن تُبدِّل فيها تحالفاتها مثلما يبدِّل أحدُهم ملابسه. وإذا كان للمشروع الصهيوني تكتيكاتُه في مرحلةٍ ما؛ فليس بالضرورة أن تتجمَّد عليها لسنواتٍ وسنواتٍ، وإذا كانت «إسرائيل» يومًا تقبل بعلاقةٍ وثيقةٍ بين إيران وأذرعتها في المنطقة، فليست بالضرورة مضطرةً للقبول بذلك بشكل دائم، ولا أن تُسلّم لها بهذه «الغنيمة» أو تلك.
خلاصة ونتائج
من المهم الخلوص إلى عددٍ من الاستنتاجات التي تقودنا إليها الأحداث الأخيرة، من أهمها:
أولًا: إن «إسرائيل» (ومن خلفِها الحُلفاء) لا تتحرَّك بدوافع انتقاميةٍ فحسب، سواء أكان في غزة أم لبنان أم اليمن أم إيران، وإنما هي تحاول صُنْع سيطرة جديدة وعنوان أبرز في قلب العالم الإسلامي، يُجاوز ما كانت عليه على مدى عقودٍ ماضية. وقد لا تكون فيه معنيةً بتوسُّعٍ كبيرٍ على الأرض، وإنما لفرضِ إرادةٍ وتحكمٍ وسيطرةٍ في المنطقة، وقيادة عصرٍ جديدٍ تقود فيه دولًا عربية خلفها. وهي وجدت فراغًا هائلًا في المنطقة، ارتأت أن عليها أن تملأهُ وحدها دون شراكةٍ اضطراريةٍ لحلفاء طامحين.
ثانيًا: إنَّ إيران على ما يبدو لم تفهم دَوْرَها جيدًا، وأرادت أن تشُبَّ عن الطوق قليلًا، وشعرت «إسرائيل» (وحلفاؤها) أن مَخالب الإيرانيين قد طالت، وأنه قد آن أوان تقليمها، وأنه لربما تعيَّن عليها أن تُغيِّر من هيكلية القيادة وشكلها في كلٍّ من إيران ولبنان (وسوريا أيضًا التي يبقى المؤكد حاليًّا أن تل أبيب وواشنطن لم تقف حائلًا دون سقوط نظام بشار)؛ فقُتِلَ رئيس إيران الشرس إبراهيم رئيسي في ظروف غامضة، وحلّ محله «الوديع» مسعود بزشكيان المشغول بتحديات «ثورة الجياع» التي يتحدَّث عنها البرلمان الإيراني، وتلوكها صحافة إيران[6]، وغاب الوجه الثوري لـ «حزب الله»، بغياب نصر الله، الحاضر لعقود، في لبنان ومحيطه العربي، الكادر المميز لدى إيران، صاحب الكاريزما التي عملت إيران طويلًا على صُنعها، وحل محله قيادي عليل، وهددت «إسرائيل»، وزمجرت في وجه بشار قبل هروبه، وما زالت تُهدّد الحوثي.
ثالثًا: إن للتطبيع القادم متطلباته، وخطاباته، وهو لا يقبل بـ«حنجورية» الماضويين من الملالي وأذرعتهم. وإنَّ من المطلوب فِعْله أن تقود «تل أبيب» المنطقة منفردةً، ولو حافظت على قدرٍ من دور إيران الوظيفي التقليدي في المنطقة. ومقتضيات المرحلة تقضي بأن يكون لدى العرب مبرِّراتُهم في التحالف مع «إسرائيل» ضد المشروع الإيراني الهشّ، وأنهم لم يفعلوا سوى الرِّهان على الفَرَس الرابح في محيطهم.
رابعًا: إن «إسرائيل» (وحلفاءها) لم يُغيِّروا كثيرًا من دور إيران الوظيفي في محيطها، ولكنهم أرادوا لها أن تُعيدَ تموضعها بما يليق بمقتضيات المرحلة، وعليه؛ فلينسحب «حزب الله»، ويتقلص دورُه في لبنان لحساب «الدولة»، من دون أن يُفْضِي ذلك إلى تغييرٍ كبيرٍ في تسلُّط الحزب على أهل السنة في لبنان دون «مسيحييها». فعلى الجميع في العالم العربي أن يُدرك أنَّ لحماسٍ الفناء، ولـ«حزب الله» البقاء.. ولكنْ مستأنَسًا؛ فدَوْره لم ينته بعدُ. ولا بأس من انتهاء دور بشار الأسد، وانسحاب ميليشيات إيران من سوريا، وربما تدوير عمل الحشد الشيعي في العراق، وربما الحوثي.. مجرد إعادة تموضعات، وارتداء أثواب جديدة ضمن الدور نفسه الذي يريده المخرج.
خلاصة القول: هو عين ما سبق وقاله المؤرخ الكبير محمود شاكر، آنفًا؛ فالطرفان حليفان فيما يخص الحوض السُّنيّ؛ ما لم تتعارض مصالحُهُما، وأحدهما -بحلفائه- أقوى كثيرًا من الآخَر، ولقد ارتأى الأول أنْ يُقلِّم أظفار الأخير، ثم يدعه يُكمل بعضَ مهامه الأولى المتبقية له رغم قلّتها!
[1] محمود شاكر، تاريخ الإسلام، جـ 6 ص 252 وما بعدها.
[2] قبل عقود، وَصَمَتْ أبواق نظام سوريا البائد (المقاومة!) الرئيس المصري السادات بالخيانة؛ لأنه تفاوض مع «إسرائيل» منفردًا بعيدًا عن جبهة اللاءات، متَّهمين إياه بالتخلي عن فلسطين، وهاهم اليوم يفعلون الأمر عينه، بلا خجل!
[3] كاتب عمود بصحيفة واشنطن بوست، ومحاضر بكلية كينيدي بجامعة هارفارد.
[4] ديفيد إغناشيوس، «في موسم الحرب الدائرة في الشرق الأوسط، الدبلوماسية تنتصر أخيرًا»، مقال رأي بصحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية 26/11/2024م.
[5] فهمي الفهداوي، السياسة العامة منظور كلي في البنية والتحليل، ص33.
[6] تحدثت صحيفة «جمهوري إسلامي» في افتتاحيتها 25 نوفمبر عن «ثورة جياع»، وصحيفة «اعتماد» عن «حافة الهاوية» الاقتصادية، ووكالة «إيلنا» عن أن «قنبلة تحرير الأسعار انفجرت بشكل أقوى وأكثر صخبًا من أي وقت مضى». وكلها شواهد على تحديات اقتصادية هائلة.