• - الموافق2025/01/31م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أجيال الطوفان

، فمن الواضح أن اليهود في مأزق لن يستطيعوا الخروج منه بأنفسهم؛ فهم غير قادرين لا نفسيًّا ولا عقليًّا ولا ماديًّا على التعامل مع حالة ما بعد الطوفان، ولذا قام «ترامب» باستدعاء «نتنياهو» إلى واشنطن؛ حيث سيُسْمِعُه خطابًا إعلاميًّا كله تأييد ودَعْم، ولكن هنا

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بعد أكثر من أربعمئة وسبعين يومًا من الحرب الدامية؛ أُعْلِنَ عن التوصُّل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، وإطلاق سراح الأسرى اليهود والمسجونين الفلسطينيين على مراحل.

وعندما نستعرض بنود الاتفاق، ونربطها بمُلابَسات موافقة نتنياهو؛ يتبين أننا أمام حدث استثنائي؛ فمن حيث المبدأ؛ نُفِّذَت -ظاهرًا- شروط ومطالب حماس لإطلاق الأسرى، والتي أُعلنت في بداية الطوفان. ومن ناحية أخرى يظهر أن حكومة نتنياهو مُجبَرة على تنفيذ الاتفاق، حتى مع تنفيذ «بن غفير» تهديده بالانسحاب مع حزبه من الحكومة.

 وكان دور «ترامب» محوريًّا في تنفيذ الاتفاق الذي كان جاهزًا تقريبًا وموضوعًا على الرفّ لمدة حوالي خمسة شهور، ولذا كان كلام الصحفيين المُحْرج لـ«بايدن» عندما تباهَى بأنه هو الذي قدَّم مسودة الاتفاق بسؤاله مباشرة: «هل نشكرك أم نشكر ترامب على إيقاف الحرب؟»

نعم، لقد حرص «ترامب» على إيقاف الحرب؛ لأن مسارها لا يناسب المصالح الأمريكية، ولذا فالمشروعات المرسومة في فترته الأولى مثل صفقة القرن، وما يتبعها من التطبيع الشامل، وتصفية القضية الفلسطينية، والتعامل معها من منظور اقتصادي بَحْت؛ لا تزال حيّة في ذهنه، ولذا فقد شدَّد على أهمية استكمال عملية التطبيع، ولكنَّه استدرك بأنه لن يضغط في هذا الاتجاه، مما يعني أن مَن يعتقد أن إسرائيل الحاضر والمستقبل نافعة له فلْيُقدِم.

وكذلك عندما تكلم عن غزة تكلم بأسلوب الرأسمالي عديم الضمير والأحاسيس الإنسانية؛ فقال: «إن غزة الجميلة تمتلك ساحلًا ساحرًا، ولكنها في حالة مزرية وغير قابلة للسكن، ولإعادة تأهيلها ينبغي أن يخرج أهلُها للجوار، وأنه تحدَّث مع ملك الأردن وسيتكلم مع الرئيس السيسي في ذلك».

وعندما سُئل: هل الخروج مؤقّت أم دائم؟ أجاب: كذا وكذا.

نعم، لقد وضع عينه على سواحل غزة الجميلة، وتخيَّلها بدون سكان ليُقيم عليها المشروعات الاستثمارية، ولا ننسى حقول النفط الغنية في مياه غزة؛ فأمريكا حريصة على موطئ قدم، بدأ بالرصيف العائم. ولكن من ردّ الأردن ومصر الصريح برفض الاقتراح يبدو أن ترامب لديه من المشاغل والمشروعات الإستراتيجية داخليًّا، وفي مجال أمريكا الحيوي، ما يمنعه من متابعة ملفات المنطقة الحساسة والمعقدة.

ولذا يُتوقع أن تتعامل أمريكا بحذر شديد؛ بحيث تُجمَّد كثيرٌ من الملفات، مثل توسُّع الكيان الصهيوني وقيادته للمنطقة، وكذلك ملف كردستان الكبرى، وتعثُّر مشروع تهجير أهل السُّنة من العراق والشام، المصحوب بانهيار الهلال الشيعي بعد سقوط النظام النصيري، وتمدُّد تركيا جنوبًا، وما صاحَب هذا من تراجع النفوذ الأمريكي في إفريقيا التي تتزايد حدة الصراع الدولي عليها في وقتٍ يبدو أن «أمريكا الترامبية» منشغلة بمشروع حيويّ لم تتضح معالمه كاملة؛ فشعار «لتعود أمريكا عظيمة»، يُمثّل مظلة نجد تحتها ضمّ كندا وقرين لاند، واستعادة قناة بنما من الصين، وفرض الرسوم والضرائب والمقاطعة لترويض الدول وتدمير التجمعات، وتعزيز الجدار العازل على حدود المكسيك المصحوب بإطلاق حملة طرد ملايين ممَّن سمَّاهم بالمجرمين؛ لمجرد دخولهم أمريكا بطريقة غير قانونية، وغالبيتهم من أمريكا الجنوبية. وبطريقة استعراضية اعتقلت الشرطة الأمريكية عدة آلاف، وقامت بترحيل المئات منهم مقيدي الأيدي على طائرات عسكري؛ ممَّا فجَّر أزمة مع كولومبيا التي هاجم رئيسُها «ترامب»، واتَّهمه بالعنصرية.

وبعد سلسلة من الإجراءات العقابية المتبادلة؛ تغلَّب «ترامب» على كولومبيا، ولكنَّه وضَع اللبنة الأولى لتمرُّد أمريكا اللاتينية القابعة خلف جدار الفصل العنصري.

ويُضاف إلى ذلك بوادر صراع داخلي يبدو أنه سيكون شرسًا، وقد يتحوَّل إلى دموي؛ فعمليات فَصْل آلاف الموظفين في الجيش ووزارة العدل والبيت الأبيض؛ ترافقت مع وعد ترامب بنشر وثائق سرية تمسّ قضايا اغتيال كلّ من «كيندي» و«مارتن لوثركنق»، وهو ما يعني دخوله معركة تكسير عظام مع الدولة العميقة قد يفقد فيها حياته، ولذا فلا وقت لديه للمعارك الجانبية؛ فحرب أوكرانيا يصفها «ترامب» بأنها سخيفة، ويجب إنهاؤها، و«بوتين» يصرَّح بأنه يمكن إجراء المفاوضات مع أيّ أحد، عدا «زيلنسكي»؛ لكونه فاقدًا للشرعية؛ ولذا فإنه لا يملك الحق بالتوقيع على أيّ شيء، وإذا كان يريد المشاركة في المفاوضات فسوف أُخصّص أناسًا لإجراء المفاوضات معه؛ مما يعني انتهاء مرحلة «زيلنسكي»؛ فـ«بايدن» وحلفاؤه حلَّ محلهم «ترامب» وأتباعه، وستكون أوروبا على موعد مع تحوُّلات جذرية مرتبطة بالتفاهمات غير المعلنة بين ترامب وبوتين العائد بقوة للساحة الأوروبية.

وأما بالنسبة لمنطقتنا، فمن الواضح أن اليهود في مأزق لن يستطيعوا الخروج منه بأنفسهم؛ فهم غير قادرين لا نفسيًّا ولا عقليًّا ولا ماديًّا على التعامل مع حالة ما بعد الطوفان، ولذا قام «ترامب» باستدعاء «نتنياهو» إلى واشنطن؛ حيث سيُسْمِعُه خطابًا إعلاميًّا كله تأييد ودَعْم، ولكن هناك أوامر صارمة ترسم ملامح صورة «إسرائيل الجديدة» المقبلة على تحديات مصيرية لا تتحمَّل ما تعيشه «إسرائيل» من تخبُّط وصراعات بينية على كلّ المستويات، ولذا ستُجْبَر حكومة نتنياهو على تطبيق وقف إطلاق النار، ولن يُسمَح لها بالعودة للحرب والتوسع؛ حتى تتفرغ أمريكا للمنطقة من جديد.

 وما نتمنَّاه هو أن يطول انشغال أمريكا داخليًّا، وفي مجالها الحيوي، ونرجو من الله أن يَقبل دعوات المظلومين الذين أَجرمت أمريكا في حقهم، وألّا تعود أمريكا إلى الساحة الدولية إلا وهي مُنهَكة، وأن يكون للمسلمين كلمة وفِعْل في رسم ملامح العالم ما بعد الطوفان، والذي بدأت ملامحه تظهر وتتضح.

 وسنبدأ في هذه الكليمات بالتركيز على تأثير الطوفان على محله المباشر، وعندما نتذكر الطوفان الأول أيام نوح -عليه السلام- نجد أننا أمام صورتين متقابلتين؛ صورة مَن حمله الطوفان إلى الأعلى فنجَا، ومن سحَبه الطوفان إلى الأسفل فهلك؛ ليدخل العالم في مرحلة ما بعد الطوفان؛ قال الله -تعالى-: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 40- 44].

نعم، كانت النهاية {بُعْدًا للقوم الظالمين}؛ بقدرة الله وتدبيره بعد ألف سنة إلا خمسين عامًا من الدعوة والصبر والمصابرة وتحمُّل الأذى والاستهزاء، ونحن نعيش حاليًّا ما أُطلق عليه تيمنًا «طوفان الأقصى»، وما يهمنا في هذا المقام هو أن نتفكّر في الأمر، ونحاول قَدْر جُهدنا فَهْم حقيقة التغيُّرات العميقة بعيدة الأثر؛ فقد تُشكل ما يمكن أن نسمّيه أجيال الطوفان التي تأثرت بالطوفان، وتشكّلت فكرًا وسلوكًا وقناعات، وهي أجيال كثيرة مبثوثة في أصقاع الأرض، وسنذكر جيلين، وعلى القارئ الكريم إطلاق العنان لنفسه لتتبُّع الأجيال الأخرى التي تغيرت ووُلدت من جديد.

نعم، نحن هنا سنُركّز على جيلين هم الأكثر تأثرًا بهذا الطوفان، وهما الشعب الفلسطيني العظيم، ومقابله شعب الشتات المزروع في هذه الأرض المباركة؛ فقد شهدنا حربًا مسَّت الجميع، وكما دُمّرت معظم غزة وتعرّض أهلها لضغطٍ هائلٍ لدفعهم لمغادرة الأرض، ولكنهم قاوموا وتحمّلوا القتل والتجويع والتخذيل، نعم تعرَّضوا لحربٍ شاملة؛ لدفعهم للتخلي عن حقهم في الحياة على أرضهم، ولكنّ مشهد العودة الجماعية على الأقدام، من الخيام في جنوب غزة، إلى موطنهم المُدمَّر -الذي حوَّله اليهود إلى مكان غير قابل للحياة بزعمهم-؛ مشهدٌ له دلالات عميقة؛ فالعائدون هم جيلٌ حمَلهم الطوفان، وجاء بهم، وسيستقرون ويُعمّرون المكان بروح اليقين بنصر الله وحفظه ورعايته.

فمَن تابَع حشود العائدين الذين تعالوا على الجراح وألم فقد الأحبة وخسارة الممتلكات؛ يجد أنه يَجمعهم حَمْد الله وشُكره، وثقتهم بأن مستقبلهم أفضل؛ فأحدهم كان حاملًا ابنته الصغيرة وابنه الرضيع، ويقول: «رحنا معنا واحد، ورجعنا معنا اثنين».

وفي المقابل، نجد أن مَن هُجِّر من شمال فلسطين وجنوبها من المستوطنين لم يعودوا؛ فهم يعيشون صدمة انكشاف الفشل العسكري والأمني، وانكشاف الوهم الذي كانوا يعيشونه حول تدميرهم للخصم وقضائهم عليه.

ومن هنا نفهم الصدمة التي يعيشها العدو، فحتى الأسرى نُلاحظ أنهم خرجوا وقد اكتشفوا عظمة الشعب الفلسطيني، وكم كانوا هم أدوات إجرام بحقّ أناس لطفاء ومؤدبين وشجعان. نعم لقد انكشف كيف أن الأسير الفلسطيني يُستقبَل استقبال الأبطال رغم حَنق اليهود ومنعهم لمظاهر الفرح، وأما أسير اليهود فيستقبله الأمن في تحقيق طويل لا فائدة منه ولا طائل؛ فالأسير دائمًا كان يشكر آسِرِيه؛ لأنهم حموه من جيشه، وسيعود لمجتمعٍ متخبّط بين يائس من المستقبل وبين صاحِب نزعة إجرامية سيكون أمامه الكثير ليفعله، وأمامه الكثير ليدفعه؛ فبُعْدًا للقوم الظالمين.

ومَن قارَن بين العودة لمكان مُدمَّر والخائف من العودة لمستعمرته؛ يعرف الفرق بين النائحة والثكلى؛ فشتان بين شعب حمله الطوفان ونجَّاه من الذل والمهانة، وبين جيل سيُغرقه الطوفان، فلم يَعُد لهم مستقبل في هذه الأرض، وإن غدًا لناظره قريب.

 

أعلى