• - الموافق2024/12/02م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
صناعة الأمل

ولكن ينبغي أن تَعِي الأُمَّة أن النصر مع الصبر وبذل الجهد والتسلُّح بالأمل


قديمًا قال الشاعر: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!

ولا ينبت الأملُ إلا في قلوب المؤمنين، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون والضالّون، فالقلب كلما امتلأ إيمانًا ازداد رجاءً في خالقه الذي بيده مقادير السماوات والأرض؛ فسبحانه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له «كن» فيكون، فما يُرسله الله للناس من رحمة وفضل فلا مُمْسِك له، وما يُمْسِك فلا مُرسِل له.

فرُكْن الأمل الأعظم هو الإيمان. فلا يَملك الخلائق كلهم -ولو اجتمعوا-، والدول كلها -ولو اتَّحدَتْ-، والأدوات كلها -وإن تآزرتْ- أن يضرُّوا أُمَّة أو ينفعوها إلا بشيءٍ كتبه الله -عز وجل- لها؛ فقد رُفِعَت الأقلام وجفَّت الصحف.

كانت غزوة الأحزاب من أشدّ المعارك على المسلمين؛ جاعوا حتى ربط المؤمنون الحَجَر على بطونهم، خافوا حتى لا يأمن الرجل أن يذهب لقضاء حاجته، اجتمعت عليهم العرب، والخوف والجوع والبرد، أضف إلى ذلك شدة التعب من حَفْر الخندق وكسر الحجارة وحمل التراب. ولذا كانت غزوةً كاشفةً ظهر بها صدق الصادقين وإرجاف المنافقين.

لكن لم يَغِب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أن يُشْعِل في قلوبه أصحابه نوافذ الأمل، فعندما عَرَضت كدية شديدة للمؤمنين لا تُصيبها مَعاولهم، فاشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخَذ المِعْوَل، وقال: بسمِ اللهِ، فضرَبها ضربةً كسر ثُلُثَها، وقال: «اللهُ أكبرُ! أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ»، ثم ضرب الثانية فقطع الثلُثَ الآخَر؛ فقال: «اللهُ أكبرُ! أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارس، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائن أبيض»، ثم ضرب الثالثة، وقال: بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّة الحَجَر فقال: «اللهُ أكبرُ! أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَن، واللهِ إنّي لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ»[1].

كان رصيد الإيمان لدى الصحابة -رضوان الله عليهم- يكفي للتيقُّن أن خبر الصادق المصدوق واقعٌ لا محالة، طال الزمان أم قصر.

وهذه الأمة موعودة بالنصر في كتاب الله -عز وجل-، وفي خبر الرسول صلى الله عليه وسلم : «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ»[2].

ولكن ينبغي أن تَعِي الأُمَّة أن النصر مع الصبر وبذل الجهد والتسلُّح بالأمل. وممَّا يُذْكَر في أهمية التسلح بالصبر والأمل وبذل الجهد لتحقيق النجاة أنه في خمسينيات القرن الماضي أجرى عالِم اسمه «كيروت ريتشر» تجربةً فريدةً على مجموعةٍ من الفئران، وضَع كلّ واحد منها في إناء زجاجي أملس ممتلئ إلى نصفه بالماء؛ بحيث لا يستطيع الفأر أن يقفز أو يخرج منه.

كان هدف ذلك الأستاذ الأكاديمي أن يحسب الوقت الذي يمكن أن يستغرقه الفأر في المقاومة قبل أن يستسلم. بالطبع اختلفت درجة صبر ومقاومة كل فأر عن الآخر، لكن 15 دقيقة هي متوسط قدرة الفئران على المقاومة قبل الاستسلام للغرق.

أعاد العالم التجربة بعد أن أضاف إليها رصيدًا من خبرة النجاة؛ بحيث يخرج الفأر قبل أن يستسلم ويُجفّفه ويُريحه، ثم يُعيده للإناء مرة أخرى، ليرى كم ستكون مدة مقاومته بعد نجاته في المرة الأولى؛ كانت المفاجأة أن الفئران ظلت تحاول وتقاوم لأكثر من 60 ساعة، أي 3600 دقيقة، بالمقارنة مع 15 دقيقة في المرة الأولى، بل إن أحد الفئران ظل يحاول لأكثر من 81 ساعة كاملة، ولم ييأس. لقد كان الفرق هائلاً!

لقد صنع الأمل في نفوس الحيوانات العجماوات أثرًا شديدًا، وملأها قوةً وصبرًا ومقاومةً، وهي لم تنعم بنبيٍّ ولم تَسْعد بوحيٍ، وليس لديها رصيدٌ من أمجاد زاخرة يشهد بعظمتها تاريخ الكون كله.

كانت الفئران في المرة الثانية تعي أن يدًا ما ربما تمتدّ لتنتشلها، كانت مُوقنةً بذلك؛ لأنه مرَّ بها قريبًا.

فما بالنا ونحن لدينا عِلْم اليقين بوعد الله -تعالى-، ووعد رسوله -صلى الله عليه وسلم- بظهور هذا الدين والنصر على الأعداء، ولدينا عين اليقين بانتصارات حقَّقتها الأُمَّة عبر تاريخها، ولم تكن لها من كثرة ولا قوة فوق أعدائها إلا قوة الحق الذي يحملونه؛ بدءًا من غزوة بدر وإلى موقعة حطين، ومن ملاذ كرد إلى عين جالوت.

تلك أيام الله نذكرها اليوم، ولربما يذكر أجيالٌ بعدنا طوفان الأقصى كبارقة أمل أشرقت في النفوس، وأحيت بها ذكرى الانتصارات.

والحقيقة أن الأُمَّة ملأها الإيمان، ولم تُفلح كل محاولات الطمس إلا في إحداث غلالة رقيقة من خيوط عنكبوت من وهنٍ وضعفٍ، سرعان ما تتلاشى. كما تلاشت قوة اليهود في بضع ساعات، وتضاعفت مِحْنتهم رغم مرور أكثر من عام، ولم يستطيعوا أن يكسروا للمقاومة شوكة.

إن الشرارة التي أحدثتها معركة طوفان الأقصى تتسرب في العروق رويدًا رويدًا، تُنضج الأمل الذي يُوشك أن يَقتلع كل جحافل الباطل من أمامه.

ألا ترى أن الهلع الذي أصاب أعداء الأمة فتكالبوا عليها، وتآزروا على وَأْدها؛ لم يَنْبُع إلا مِن إدراكهم أن الثقب الذي حدث في جدار باطلهم سرعان ما سيتحول إلى طوفان أقصى جديد، ولكنَّه ربما يكون بعيدًا عن الأقصى؛ إن هم تهادنوا معه أو تركوه!


 


[1] أخرجه الإمام أحمد في مسنده (18716)، والنسائي في السنن الكبرى (8858) وابن أبي شيبة في مصنفه (36820)، وأبو يعلى في مسنده (1685).

[2] أخرجه الإمام أحمد في المسند (16998)، والطبراني (1280)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/14): رجال أحمد رجال الصحيح. والحاكم في المستدرك (8326)، وقال: صحيح على شرط الشيخين.

 

  

أعلى