لقد أظهر حزب الخضر في مشاركته في الحكومة الألمانية محافظةً على ثوابته السياسية ومبادئه الفكرية، ففي حادثة تدلّ على صلابة الحزب في الدفاع عن أفكاره؛ فقد تدخَّل بقوة لمنع هدم منزل مهجور يُؤوي الخفافيش ما لم تَرْحَل عنه طواعية!
بالطبع ليس الحديث عن إحدى إناث الخفافيش؛ ففي الأخير هي حيوانات عجماوات، لا يُحْسِنّ التنظيم السياسي، ولا يستطعن اختيار مَن يمثلهن للحديث عن المَظالم اللاتي يعانين منها.
لذلك تَحَمَّل بعض البشر من ذوي القلوب الرحمية والمشاعر المرهفة تلك المهمة، وظهرت في الساحة السياسية الأوروبية ما يُعرَف بأحزاب الخضر، والتي انتشرت في العديد من الدول الغربية.
تعود الأصول الفكرية والسياسية لأحزاب الخضر إلى الدعوة إلى نزع السلاح النووي، ورفض سباق التسلح بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، وكذلك مكافحة التغيُّر المناخي.
أضف إلى ذلك كلّ ما يدعم الحفاظ على البيئة، فالخُضْر يريدون خفض الانبعاثات الغازية، والاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة، والحفاظ على الحيوانات المُهدَّدة بالانقراض، ويدعمون حقوق الحيوان بشكلٍ مطلقٍ.
أما فيما يتعلق بالسياسة الاجتماعية؛ فيُعوِّل حزب الخضر على المساواة بين الجنسين، ومكافحة معاداة الأجانب والعنصرية. كما يريد «الخضر» المساهمة في التقليل من الاستقطاب بين البشر.
بالمجمل تدعو أحزاب الخضر إلى احترام التعددية الثقافية، وحلّ المشكلات بالحوار والابتعاد عن العنف، والديمقراطية التشاركية والعلمانية من أجل احترام جميع المعتقدات والأفكار، وإزالة الفوارق الاجتماعية وتحقيق دولة الرفاه.
في كل دول الغرب تقريبًا يُوجَد موضع قدم وحضور سياسي لحزب الخضر، وأحيانًا يشارك الخضر في الحكومات الائتلافية، إلا حزب الخضر في نسخته الألمانية، فله حضور شعبي واسع، ويُعدّ حاليًّا ثالث أكبر الأحزاب السياسية الألمانية شعبيةً بعد الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم والحزب الاشتراكي الديمقراطي المُعارض. وأظهرت عدة استطلاعات رأي جرت مؤخرًا تساوي كفَّة الخضر والاشتراكي الديمقراطي، وذهبت استطلاعات أخرى إلى تقدُّم الأول على الثاني في الشعبية.
يشارك حزب الخضر الآن في الحكومة الائتلافية الألمانية، وحصل على منصب وزير الخارجية، والتي تُمثّله «أنالينا بيربوك»، وهي بذلك أول امرأة تتولَّى هذا المنصب.
تهجير الخفافيش
لقد أظهر حزب الخضر في مشاركته في الحكومة الألمانية محافظةً على ثوابته السياسية ومبادئه الفكرية، ففي حادثة تدلّ على صلابة الحزب في الدفاع عن أفكاره؛ فقد تدخَّل بقوة لمنع هدم منزل مهجور يُؤوي الخفافيش ما لم تَرْحَل عنه طواعية!
معتبرًا أن طرد الخفافيش من هذا المبنى المهجور منذ سنوات يَرْقَى لعملية تهجير قسري للخفافيش، وهو أمرٌ مرفوضٌ لدى حزب الخضر، الذي يدعو إلى توفير بيئة آمِنَة للحيوانات، ولا يَحِقّ لأحد أن يطردها من بيئتها ومساكنها التي عاشت بها.
بالتأكيد لم يأتِ القتل أو الإبادة على أذهان وعقول حزب الخضر أو غيره؛ فهي أرقى من أن تصل لهذه المرحلة المنحطة أخلاقيًّا!!
في الأخير، نجحت جهود حزب الخضر في إيقاف قرار الهدم، وظل البيت بولاية شمال الراين قائمًا كما هو، تتخذ منه الخفافيش سكنًا، آمِنَةً مطمئنةً. كل ذلك بفضل جهود أعضاء حزب الخضر، وعلى رأسهم وزيرة الخارجية «أنالينك»، وقلوبهم الرحمية التي انفطرت على خفاش صغير قد يفقد عَطْف أُمّه أثناء عملية التهجير، أو ربما يكون المسكن الجديد للخفافيش غير ملائم.
على كل حال، لقد أفادتنا الحضارة الغربية الكثير، وما زلنا نتعلم من مواقفها.
لم تقف جهود «أنالينا بيربوك» عند الخفافيش، فما إن بدأ العدوان على غزة حتى سارعت إلى زيارة دولة الاحتلال الإسرائيلي، وعبَّرت عن تأييدها التامّ للموقف الرسمي الإسرائيلي. وخلال عام على الحرب على غزة، لم تتوقف جهود «أنالينا» عن دعم إسرائيل في قتل الأطفال والإبادة الجماعية، والموافقة على إمدادها بكل ما تحتاجه من أسلحة لتدمير وقتل الشعب الأعزل في غزة.
وبمناسبة مرور عام على أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول؛ ألقت «بيربوك» كلمة في البرلمان قالت فيها: إن «أمن إسرائيل جزء أساسي من وجود ألمانيا الحالية، وحقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها هو مسؤوليتنا أيضًا، والدفاع عن النفس لا يعني مهاجمة الإرهابيين فحسب، بل تدميرهم».
وأضافت: إنه عندما يختبئ مَن وصفتهم بـ«إرهابيي (حركة المقاومة الإسلامية) حماس خلف الناس وخلف المدارس، سنجد أنفسنا في مناطق معقَّدة للغاية، لكن هذا لا يعني أن نتفاداها».
وترى «بيربوك» أن المرافق المدنية الفلسطينية من مدارس ومستشفيات ومنازل ليست بحاجة للحماية، مُبرِّرة ذلك بأن «الإرهابيين ينتهكونها»؛ بحسب قولها.
وفي تعليق من بعض الناشطين عن حديث «بيربوك» عن عدم حاجة مدارس ومستشفيات غزة التي تُؤوي النساء والأطفال للحماية، اقترح أن يرتدي الأطفال في تلك المدارس لباس الخفافيش؛ لعل ذلك يُليِّن، ولو قليلاً، من موقف الوزيرة الألمانية، ويدفعها إلى طلب الحماية لهم، ووقف هدم المدارس والمستشفيات فوق رؤوسهم.
لكن حتى لو افترضنا أن أطفال غزة صاروا خفافيش -وحاشاهم-؛ فإن أقصى ما يمكن أن تُقدّمه وزيرة الخضر لهم، بعد أن يتأثّر قلبها، أن تدعو لإبادتهم بالقتل الرحيم، فليست الخفافيش الغربية كالخفافيش العربية. ساعتها ربما من الجيد -والحال هذه- أن ننحت لهم اسمًا يُخلِّد مواقفهم الحضاري هذا، لا أدري ما هو تحديدًا، فهل «حضارة الخفافيش» سيكون اسمًا مناسبًا؟!