من أجل بيوت مستقرة

اللغة هي الناقل للحب والمشاعر والعاطفة، وهي المُعبِّر عن البهجة والفرح والشوق والرضا، وكذلك هي المُعبِّر عن الحزن والألم والكراهية والغضب، والكلمات هي الترجمة لمكنونات النفس ومراداتها.

استقرار البيوت الزوجية مقصد شرعي، ومطلب اجتماعي، وحاجة نفسية يتطلع إليها كل إنسان سويّ.

والبيوت الزوجية تُناضل لأجل الحفاظ على استقرارها والتئامها، ويعود ذلك -بالإضافة إلى الاحتياج النفسي- إلى وجود مُهدِّدات وتحديات محيطة بها. وهنا ينبغي التذكير بعددٍ من الأمور التي تُعدّ أسبابًا في الاستقرار الأُسريّ:

الاستقامة الزوجية

أول ما ينبغي الحديث عنه في سبل الوقاية وتمتين العلاقة: الاستقامة الزوجية، وهي سلوك الطريقة التي ارتضاها الله -تعالى- لبناء الحياة الزوجية، وجعل فيها مودة ورحمة، وحلالاً وحرامًا، ومروءات وأخلاقًا.

ومن الاستقامة الزوجية: قيام الرجل بواجب القوامة على أحسن ما يستطيعه، ولا يُكلّف الله نفسًا إلا وسعها، من النفقة الواجبة والسكنى، والسعي في طلب الرزق، وخدمة البيت الخارجية، وصيانة العِرْض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح الأخطاء وتقويم السلوك، وسيادة البيت وحماية أهله والدفاع عنهم. قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].

ومن الاستقامة الزوجية: قيام المرأة بواجبات الزوجة على أحسن ما تستطيعه، ولا يُكلِّف الله نفسًا إلا وسعها؛ من القرار في البيت، وعدم خروجها منه إلا لحاجة، وبإذنه، والتزامها طاعته في غير معصية لله، وخدمتها له في بيتها، وصيانته وتجميله، والاستجابة لزوجها في نفسها، وإعانته في تدبير معيشته، وتربية أولادها على الإسلام والمروءات، وحفظ زوجها في غيبته كحِفْظه في حضرته، وعدم إبداء زينتها إلا لمن يحلّ وبالقَدْر الذي يحلّ؛ قال الله -تعالى-: {فَالصَّالِـحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34]. وقال تعالى في سياق حادثة هجر النبي صلى الله عليه وسلم  نساءه، وما جرى من المغاضبة والتخيير: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْـجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: ٣٣]؛ فهذه التوجيهات الربانية عاصمة من تسلط الشيطان على البيوت، مذهبة لرجزه؛ بإذن الله.

والحاصل أنه إذا دخل التفريط من هذين البابين فإن أصنافًا من الشرور ستلجُ إلى بيت الزوجية، ولا شك، فإذا فرَّط الرجل في واجباته الزوجية أو بعضها كان سببًا في تصدُّع بيته بمقدار تفريطه، وكذلك الزوجة؛ قال تعالى: {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].

وكثير مما يعتري البيوت اليوم من تصدعات ناشئ عن اختلال في سلوك طريق الاستقامة الزوجية؛ إما من تفريط الزوج، أو تفريط الزوجة، ولا أحد منا يبرئ نفسه، لكن حين نرغب في معرفة أمراضنا، فلا بد أن نضع أيدينا على مواضع الألم والجراح.

وإطلاق البصر اليوم من أهم أسباب اختلال الاستقامة الزوجية، سواء كان إطلاقه في الحرام، كنظر الرجل للنساء، ونظر النساء للرجال، فضلاً عن مشاهدة التعري والفسوق، قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ 30 وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 30، 31]. أو كان إطلاقه في فضول المباحات، كمشاهدة يوميات المشاهير والمسرفين والعابثين. وهذا كله يَفتن القلب ويُظلم البصيرة ويطرد السعادة ويُفضي إلى التسخط والضجر، ويجلب الشؤم على أهل البيت؛ قال تعالى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِـــينَ} [الحجر: ٨٨]، وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: ١٣١]؛ قال السعدي: «أي: لا تعجب إعجابًا يحملك على إشغال فكرك بشهوات الدنيا التي تمتع بها المترفون، واغتر بها الجاهلون، واستغنِ بما آتاك الله من المثاني والقرآن العظيم»[1].

وإهدار الكثير من الأوقات في اللعب واللهو والأسواق والزيارات يسحب من رصيد الاستقامة الزوجية؛ فهذه مَواطن يقل فيها ذِكْر الله -تعالى- أو ينعدم، وتحضرها الشياطين، ولا تبني الإنسان ولا تُكمّل روحه. وتأمل حديث عقبة بن عامر الجهني -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق»[2]؛ فهذا تقويم نبويّ للهو واللعب.

وتعدّي حدود الله -تعالى- في الزواج نقضٌ للاستقامة الزوجية، واعتداءٌ على حق الله -تعالى- في الزواج، فإن الذي شرع لنا الزواج هو الذي حدَّ تلك الحدود، فجعل تعدّيها ظلمًا للنفس وظلمًا للزوج واقترافًا للمآثم التي هي شؤم على بيت الزوجية، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: ١]. وهذا كله فضلاً عن فعل الحرام المناقض للحياة الزوجية، كالتعارف بين الجنسين والاختلاط المحرم.

ومن الاستقامة الزوجية: استشعار عبودية الله -تعالى- في الزواج، فإن الزوجين اتبعا أمر الله في تلبية الاحتياج الفطري الغريزي، ويقوم كل منهما بواجباته؛ لأن الله -تعالى- نظَّم الحياة الزوجية، وهذا النظام لا يمنع البهجة والسرور، بل يمزج بينهما في طريقة مدهشة، فيجعل تلبية هذه الحاجات الغريزية أجرًا وفضلاً، كما أخبر أبو ذر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «أوليس قد جعل الله لكم ما تصدّقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكلِّ تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمرٍ بالمعروف صدقة، ونهيٍ عن منكر صدقة، وفي بُضْعِ أحدكم صدقة». قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: «أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»[3]. وعن المقدام -رضي الله عنه- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم  يقول: «ما أطعمتَ نفسك فهو صدقة، وما أطعمتَ ولدك وزوجتك وخادمك فهو صدقة»[4].

فالمقصود أن الزواج في أصله عبودية لله -تعالى-، والحفاظ على ميثاق الزواج عبودية لله -تعالى-، واجتناب ما يكرهه الله في الزواج عبودية لله -تعالى-، والاستمتاع بروح الزواج عبودية لله -تعالى-.

والاستقامة الزوجية ليست تبتُّلاً ولا انقطاعًا عن الدنيا، وإنما هي السير في الطريق الصحيح الذي يجمع بين مراقبة الله ومراعاة حدوده، وبين تلبية الاحتياج الفطري والنفسي والاجتماعي من الزواج، وهذا هو الوسط الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم  أصحابه، كما جاء عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- في قصة الرهط الثلاثة الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم  يسألون عن عبادته، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم   قال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»[5].

وعن عبد الله بن عمرو قال: أنكحني أبي امرأةً ذات حسب، فكان يتعاهد كنَّته فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل، لم يطأ لنا فراشًا ولم يُفتِّش لنا كنفًا مذ أتيناه. فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: «القني به». فلقيته بعد، فقال: «كيف تصوم؟» قال: كل يوم. قال: «وكيف تختم؟» قال: كل ليلة. قال: «صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر». قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: «صم ثلاثة أيام في الجمعة». قلت: أطيق أكثر من ذلك. قال: «أفطر يومين وصم يومًا». قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: «صم أفضل الصوم صوم داود؛ صيام يوم وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة»[6].

الاستقامة الزوجية اعتدال في النظر، واعتدال في السلوك.

محاضن الحكمة

في التوجيه القرآني عقب حادثة هجْر النبي صلى الله عليه وسلم  نساءه ونزول آيات التخيير، جاء الأمر في قوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْـحِكْمَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 34]؛ فهو أمر بذكر آيات الله وهي القرآن، وذكر الحكمة وهي السنة كما قال قتادة، وقال مقاتل: هي أحكام القرآن ومواعظه[7].

القرآن يحرص أن تبتعد النساء وأهل البيت عن الفراغ، أيًّا كان هذا الفراغ، وينقلهم إلى مربع الاشتغال بالقرآن والسنة، تلاوةً وتعلمًا وتعليمًا واستفادةً واتعاظًا، ليتحول أهل البيت إلى أرواح زكية وأنفس ممتلئة بهجة وطمأنينة بذِكْر الله وتلاوة آياته وتعلُّم أحكامه، ومثل ذلك السُّنة؛ قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

وعن حفص بن عنان الحنفي، أن أبا هريرة -رضي الله عنه- كان يقول: «إن البيت ليتسع على أهله، وتحضره الملائكة وتهجره الشياطين ويكثر خيره: أن يُقرَأ فيه القرآن، وإن البيت ليضيق على أهله، وتهجره الملائكة وتحضره الشياطين ويقل خيره: أن لا يُقرَأ فيه القرآن»[8].

فينبغي أن تُنَزَّه بيوتنا من مجالس اللهو والباطل والغيبة والفراغ، وتُجعل منها محاضن للعلم والتعليم والتلاوة والحفظ وذِكْر الله والكلام النافع والطيب، وعلى هذا كانت بيوت الصالحين، فتكون هذه البيوت جمعت مع الأنس والابتهاج والاستمتاع ما ينمّيها ويُحصّنها ويرفع قَدْرها من ذِكْر الله وتلاوة آياته وتعلُّم شريعته.

ويظهر أثر التأدب بأدب القرآن والسنة على محيَّا الزوجين أولاً؛ لحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: «نضَّر الله امرأً سمع منا حديثًا فحفظه حتى يُبلِّغه»[9]. فهذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم  بنضارة الوجه للذين يتذاكرون حديثه وسُنّته وسيرته صلى الله عليه وسلم . ثم يظهر ثانيًا على سلوكهما وأدبهما وتعاملهما؛ لأن التأدب بأدب القرآن والسُّنة يصبغ الشخصية بالكمال والجمال، فتجدهما على درجة جيدة من الرقي والسمو والسماحة والأدب والإشراق.

والبيوت التلَّاءة لكتاب الله بيوت مطمئنة، يغلب هدوؤُها صخبَها، وتعتلي ابتسامتُها على كدرِها، وتطرد بهجتُها ضجرَها، والشيطان يفرّ من البيت بمجرد قراءة سورة البقرة فيها، وربما بأقل من ذلك، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرَأ فيه سورة البقرة»[10]. ويؤثر عن ابن مسعود -رضي الله عنه- بسند فيه ضعف أنه قال: «من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعد آية الكرسي، وثلاثًا من آخر سورة البقرة، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه»[11].

والبيوت القارئة والذاكرة لأبواب العلم بيوت متعلمة، تزداد علمًا يومًا بعد يوم، وتكتمل أدبًا بمرور الأيام والليالي، وتتحسن لغة التواصل بين أفرادها، وتفيض حكمةً وهدًى.

سحر اللسان

«إن من البيان لسحرًا».

اللغة هي الناقل للحب والمشاعر والعاطفة، وهي المُعبِّر عن البهجة والفرح والشوق والرضا، وكذلك هي المُعبِّر عن الحزن والألم والكراهية والغضب، والكلمات هي الترجمة لمكنونات النفس ومراداتها. وللسان تأثير عجيب في التغير وإحداث الانفعالات وجلب السعادة وإحلال النكد؛ قال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُوًّا مُّبيِنًا} [الإسراء: 53]، وكأن الشيطان قاعد على اللسان يبتغي فرصة الإفساد بالأقوال والكلمات.

لكن اللغة ليست دائمًا شفَّافة، فقد تخطئ التعبير، وقد تقصر عن البيان، وفقًا للقدرات والانطباعات، وعليه فقد لا نحسن التعبير عن حبّنا، عن غضبنا، عن رضانا، عن عتابنا... ولأجل عيش هانئ رَضِي يتطلب من الزوجين الاعتناء بهذا الأمر عنايةً خاصةً، فإن الله قد أمر بانتقاء أحسن العبارات «التي هي أحسن»؛ دفعًا لما يمكن أن يتوهمه الإنسان من باطل أو شرّ يوحيه الشيطان إليه.

بل أرشدنا إلى أرقى الأذواق في الحديث عامة، فعن عائشة -رضي الله عنها-، عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال: «لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لَقِسَتْ نفسي»[12].

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم  عن القول المشين، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء»[13]. فليس كون الرجل في موقع القوة يُسوِّغ له السبّ والشتم والتقذيع في الألفاظ والإهانة. ولما خاض المنافقون في عرض أُمّنا عائشة -رضي الله عنها- وهي لا تعلم؛ ما وجدت تغيرًا في فِعْل النبي صلى الله عليه وسلم  وقوله إلا ما لا يذكر لحسن خلقه وأدبه صلى الله عليه وسلم ، قالت -رضي الله عنها-: «ويريبني في وجعي أني لا أرى من النبي صلى الله عليه وسلم  اللطف الذي كنت أرى منه حين أمرض، إنما يدخل فيسلِّم، ثم يقول: «كيف تيكم؟» لا أشعر بشيء من ذلك»[14]. فإذا كانت هذه ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم  وأفعاله في هذا الموقف العصيب، فكيف بعذوبة لسانه ومنطقه في سائر أحواله؟!

وكانت النساء في الصدر الأول من هذه الأمة على خير ما تكون عليه النساء من القول الحسن، ولهن من العبارات الموصِّلة لرسائل المودة والإعجاب بأزواجهن ما رُوِيَ الكثير منه، ككلام خديجة حين رأت خوف النبي صلى الله عليه وسلم  عقب ابتداء الوحي: «لا يخزيك الله أبدًا...»، وغاية ما يكون عليه لسان إحداهن التعريض بما يدل على ما في نفسها، كما كانت تقول عائشة إذا غضبت: ورب إبراهيم بدلاً عن قولها في المعتاد: ورب محمد، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يفهم ما وراء ذلك؛ لحسن عشرته، فقال لها يومًا: «إني لأعلم إذا كنتِ عني راضية وإذا كنت عليَّ غضبى». قالت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: «أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم». قالت: أجل والله، يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك[15].

إنك لا تكاد تجد حوارًا بين زوجين بمثل هذا السمو والرقي! كلمات قصيرة اشتملت على معاني الحب والتودد والاهتمام وعذوبة المنطق وذكاء الأجوبة، كلمات يكاد يصلك دفئها وروحها. وهذا ما ينبغي الاقتداء به في التواصل بين الزوجين.

والرجل يرى في لسان زوجته العذب وتزيُّنها له واهتمامها ببيته رسالة فحواها: الحب والاحترام والقبول، والمرأة ترى في أسئلة زوجها وحديثه معها وقُربه منها وهديته لها الحب والاهتمام والرحمة. فإذا اعتادا ذلك كان سببًا -بإذن الله- في تماسك البيت الزوجي واستقراره.

الواقعية لا الرومانسية

مما ينبغي التنبه له أن الناس أنماط مختلفة، ليسوا على طباع موحدة، ولا أمزجة متناغمة على الدوام، وهذا التجانف بين الطباع قد يُولِّد الاختلاف، وأحيانًا التنافر؛ فكذلك الزوجان، ولذلك ينبغي تفهُّم ذلك والتماس الأعذار وإحسان الظنون، وتغليب العفو على الغضب، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر»[16].

والعقل والمروءة داعيان إلى إصلاح المشكلات قبل تفاقمها، وإطفاء لهيبها قبل أن يتطاير شررها، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الزوجان.

*    *    *

عبر عقود من الزمان، تم ضخّ الكثير من الأفلام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية والإذاعية، والكثير من المجلات والصحف والكتب، والكثير من الصفحات والتدوينات الإلكترونية المكتوبة والمرئية... الكثير منها تُصوِّر الحياة الزوجية بصورة حالمة غير واقعية، وتجعل تلك الصورة هي الأصل في الحياة الزوجية، بينما الواقع أن أكثر الناس ليسوا أثرياء ولا يمتلكون منازل، فضلاً عن البذخ الكاذب، كما أن شريحة من الناس لديهم إخفاق في التواصل الجيد أو عجز في القيام بكامل الواجبات التي عليهم للآخر لأسباب متنوعة ومختلفة، لذلك يُوصَى الزوجين بالصبر.

والمرأة في الإعلام لا تظهر -في كثير من الأحيان- إلا بعد إجراء مقاييس متشدّدة في الجمال، ويقوم عدد من المختصين بتهيئتها للظهور أمام الكاميرات، وربما احتاجت إلى عدد من عمليات التجميل، مما يُورث المُشاهِدَة سخطًا على حالها وشكلها، ويُورِث المُشاهِد رغبة في زوجة تكون بتلك الصفات الكمالية! وقد أشار عالم الاجتماع الفرنسي «إدغار موران» إلى: «وجود شبكة تصنيعية حقيقية تصطاد الفتيات الجميلات عن طريق كشف المواهب، وهي شبكة تعمل على عقلنة المرشحات، وإمدادهن بمقاييس نموذجية للجمال، وتغيير أشكالهن وتكييفهن وتجميلهن وصقلهن، وجعلهن نجومًا بكل ما للكلمة من معنى، والمنتوج المصنَّع ما إن يتلقى آخر تجاربه حتى يُطلَق، فإن نجحت في السوق تبقَ موضع رقابة المُصنِّعين، فحتى الحياة الخاصة للنجمة تُصنَع سلفًا، وتُنظَّم بشكل عقلاني»[17]. والرجل كذلك؛ يُعدّ إعدادًا ليكون نجمًا لا إنسانًا، لكن بدرجة أقل من المرأة[18].

هذا فيما يتعلق بالسينما والمسرح والأفلام والمسلسلات وبرامج القنوات الفضائية، أما ما يتعلق بالمشاهير والمشهورات فهي أبعد شيء عن الواقعية، رغم زعم أهلها الواقعية والعفوية، ومحاولتهم خداع المشاهدين والمتابعين. وكثيرون صرَّحوا بأنهم يمثلون العفوية والتلقائية، وأنهم خلاف ذلك، وأن يومياتهم تمثيلٌ يومي لأجل كسب المال والمزيد من الشهرة.

والمقصود أن يعلم الزوجان أن حقيقة الأمر فيما يرونه هو في واقعهم وليس في شاشاتهم.. ذلك لأجل الرضا النفسي والقناعة والتحرُّر من الطموح المزيف.

وأمر آخر: إن حقيقة الحياة الدنيا مفطورة على «الكَبَد» والمكابدة، وقد أقسم الله -تعالى- على ذلك فقال: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ 1وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ 2 وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ 3 لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: ١ - ٤]؛ فلا بد من المُنغِّصات في هذه الحياة، بل لا يوجد بها نعيم مقيم ولا رفاه دائم، والله -تعالى- أرانا ذلك في أصغر الأمور، كاقتران العسل بإبرة النحل، والوردة بالشوك، وطلب الولد بالحمل، والرزق بالسعي، ونحو ذلك من الأمثلة.

والمقصود أن الحياة الزوجية لا تخلو من المُنغِّصات، وأن ابتهاجها ممزوج بكدر، وأن سرورها مخلوط بحزن، ولو لم تكن كذلك لما كان الفرق بين الدنيا والجنة، ولكانت المنغِّصات في منأى عن بيت النبي صلى الله عليه وسلم . فلماذا نريدها نحن البشر في الحياة الدنيا خاليةً من المنغصات والمشكلات؟

وحين نذكر أعلى الصفات للزوجين وأحسن الأمثلة وأحب المعاملات؛ فإننا نذكر المثل العليا والنموذج الأفضل والأكمل، ولكننا لا نريد تعجيز الناس وبثّ اليأس في نفوسهم، أو توليد الحسرة في قلوبهم، وإنما نبيِّن أن الاتجاه في تكميل حياتنا وشخصياتنا ينبغي أن يكون في هذا الاتجاه، وأن تلك المثل هي المعيار الصحيح، وقد جاءت بها النصوص الشريفة، فمن رام تكميل حياته الزوجية فعليه بهذا الطريق، ومستقل ومستكثر، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وإلا فإن الكثيرين من الرجال لن يكونوا محمدًا صلى الله عليه وسلم  في أخلاقه المكمّلة، وإن الكثيرات من النساء لن يكنَّ خديجة وعائشة!

والزوجان إذا صحَّت نظرتهم للدنيا والآخرة، وعَلِمَا أن ما يصيب المؤمن من همّ أو غمّ أو حزن هو تكفير عن سيئاته ورفعة في درجاته؛ لم يُفاجَآ بالمنغِّصات، وعوضًا عن شعور الصدمة والخيبة ينهضان للبحث عن حلّ وإصلاح.

والمرأة اليوم توحي إليها شياطين الإنس والجن بأنها سيدة البيت وندُّ الزوج، وأن طاعتها لزوجها وحُسْن تبعُّلها عبودية للرجل وخضوع غير مُبرَّر وسقوط في أَسْر التخلف. وهذا باطل بالفطرة، فإن المرأة خُلِقَت -ولا تزال- تحب أن تكون في ظل رجل، فإذا عادت إلى فطرتها السوية فإنها لن تجد أدنى غضاضة في كونها الزوجة المطيعة العؤود الودود، ولما عادت بلقيس إلى رشدها، وقد كانت سيدة سبأ، لم تشأ أن تُسلم وتعلن التوحيد وتنبذ الشرك إلا في ظل رجل، قال الله -تعالى- حكايةً عنها: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُـجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: ٤٤]؛ عادت إلى الصفة الطبيعية التي تتمناها المرأة العاقلة.

ومن التصورات المهمة التي تكاد تغيب في هذا العصر: أن السعادة ليست في كثرة المال والأثاث والقدرة على السفر والسياحة والتفرج في البلدان المختلفة، وإنما هي في صحة السير إلى الله ومخافته والتزام أمره.

ولستُ أرى السعادة جمع مال

ولكن التقي هو السعيد

وأحسن منه قول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِـحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]؛ فهذه هي الطريق إلى الحياة الطيبة.

فاللهم إنّا نسألك الحياة الطيبة في الدنيا والأجر الكثير في الآخرة.


 

 


[1]  تيسير الكريم الرحمن: 2/870.

 [2]  أخرجه الترمذي ح1637، وابن ماجه ح2811.

 [3] أخرجه مسلم ح1006.

 [4] الأدب المفرد ح195.

[5] أخرجه البخاري ح5053، ومسلم ح1401.

 [6] أخرجه البخاري ح5042.

 [7] معالم التنزيل 6/351.

[8] أخرجه الدارمي رقم3412.

[9] أخرجه أحمد ح4157، وأبو داود ح3660، بألفاظ متقاربة.

[10] أخرجه مسلم ح780.

[11] أخرجه الدارمي رقم 3586.

[12]  أخرجه البخاري ح6184، ومسلم ح2250.

[13]  أخرجه أحمد ح3839، والترمذي ح1977.

[14]  أخرجه البخاري ح510، ومسلم ح2770.

[15]  أخرجه البخاري ح5219، ومسلم ح2439.

[16]  أخرجه مسلم ح1469.

[17]  نجوم السينما، إدغار موران ص119.

[18]  نجوم السينما، إدغار موران ص111.

 

 

أعلى