البناء على القبور.. الهـدم والوهم
«مِن أعظم مكايد الشيطان التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا إلا من
لم يرد الله فتنته: ما أوحاه قديماً وحديثاً إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور،
حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبِد أربابها من دون الله، وعُبِدت قبورهم، واتخذت
أوثاناً..»[1].
والحديث عن مفاسد اتخاذ
القبور مساجد، وشرور وثنية الأضرحة؛ لا يكاد يحصى[2]، فهو فوق ما يخطر
بالبال، أو يدور بالخيال.
والذي يهمّنا في هذه السطور
أن نذكّر بمشروعية هدم الأبنية على الأضرحة، وإزالة المساجد المبنية على القبور،
كما ثبت في السنة النبوية، وجرى عليه عمل السلف الصالح.
فعن أبي الهيّاج الأسدي
قال: قال لي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم؛ ألا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا
سوّيته»[3]. وقرر الإمام الشافعي
مشروعية هدم البناء على القبور، وأنه رأى الولاء في مكة يهدمون ما بُني في المقابر[4].
وقال ابن القيم: «إن حكم
الإسلام في المساجد المبنية على القبور أن تهدم كلّها، حتى تسوّى بالأرض، وهي أولى
بالهدم من مسجد الضرار، وكذلك القباب التي على القبور، يجب أن تهدم كلها؛ لأنها
أسِّست على معصية الرسول؛ لأنه قد نهى عن البناء على القبور، فبناءٌ أسس على
معصيته ومخالفته بناءٌ غير محترم، وهو أولى بالهدم من بناء الغاصب قطعاً»[5].
وقال ابن حجر الهيتمي:
«وتجب المبادرة لهدم القباب التي هي على القبور، إذ هي أضرّ من مسجد الضرار، وتجب
إزالة كل قنديل أو سراج على قبر»[6].
وقد هدم الحارثُ بن مسكين
(ت 250هـ) مسجداً كان بني بين القبور[7]. وهدم أبو إسحاق
الجبيناني عيناً تسمى «عين العافية» قد فُتِن الناسُ بها، فمن تعذّر عليه نكاح أو
ولد مضى إليها..!
فهدمها وقت السحر، ثم
قال: اللهم إني هدمتها لك، فلا ترفع لها رأساً، فما رُفع لها رأس إلى الآن[8].
ومن جهود المتأخرين أن
الأمير سعود بن عبد العزيز هدم القبة الموضوعة على قبر الحسين في كربلاء سنة
1216هـ، كما هدم القباب التي بنيت على القبور في مكة - حرسها الله[9].
كما هُدِمت القباب في
صنعاء في اليمن سنة 1216هـ، وكذا أزيلت بعض الأبنية على القبور في مدينة بيت
الفقيه باليمن سنة 1348هـ، كما هدمت مشاهد وثنية في محافظة حجّة سنة 1394هـ،
وأزيلت قباب ومشاهد في مدينة عدن سنة 1415هـ[10].
فالقدرة والاستطاعة هي
منوط إزالة هذه الأبنية على القبور، وموجب هدمها، كما حرّره ابن القيم قائلاً: «لا
يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً؛
فإنها شعائر الكفر والشرك، وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة
ألبتة، وهذا حكم المشاهد التي بُنيت على القبور»[11].
ومثال ذلك: أن الشيخ محمد
بن عبد الوهاب - رحمه الله - في أول أمره إذا سمع الناس يستغيثون بالشرك عند قبة
قبر زيد بن الخطاب في الجبيلة بنجد، فإنه يقول لهم: الله خيرٌ من زيد، تمريناً لهم
على نفي الشرك بلين الكلام[12].
فلما صار له قوة ومنعة،
أزال هذه القبة بنفسه ومعه عثمان بن معمر أمير العيينة[13].
وكما ينبغي توخي الحكمة
ومراعاة قواعد المصالح والمفاسد في الاحتساب وإزالة الأوثان وهدم الأبنية على
القبور؛ ينبغي الحذر من تهويل عشاق الأضرحة، والمولعين بالمشاهد، فطالما علا
ضجيجهم بأن هذا الهدم يعدّ إخلالاً بالأمن! وتحريكاً للقلاقل! وإثارة لشغب العوام!
وإيقاعاً للفتن... إلخ، والبلية أن فئاماً من المتسنّنة تغشاهم هذا التهويل،
فصاروا سمّاعين مستجيبين لذلك الإرجاف.
لا سيما أن إرجاف
القبوريين وأشياعهم لا ينفك عن تقديس وتعظيم للأضرحة، وتخويف من المساس بتلك
الوثنيات، ولذا فهم يبالغون في تزويق القبور، وتشييد القباب، وإرخاء الستور
الغالية، والقناديل الساطعة... لأجل أن تُعمّر قلوب الجهال بالتعظيم والإجلال لتلك
الجيف والأوثان.
ومن ثم، فإن هدمها
وإهانتها مطلوب شرعاً وديناً، «فإن كل ما عُظِّم بالباطل من مكان، أو زمان، أو
حجر، أو شجر، أو بنْية؛ يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة، وإن كانت لولا
عبادتها كسائر الأحجار»[14].
ثم إن العزم على هدمها قد
يواجَه بتخويف وإرجاف من شياطين الإنس والجن، وأن في ذلك انتهاكاً لحرمة الأولياء،
ومجلبة للعقوبات والمثلات..
لكن الاستعانة بالله،
والإقدام على هدمها؛ يُبْطِل هذه الأراجيف والتخذيلات، ويزيل الرواسب العالقة
والأوهام الجاثمة في أذهان العوام، فإن الذين هدموا الأوثان والأبنية على القبور
قد صاروا عقب هدمها في أحسن حال وأطيب بال.
ومثال ذلك: العمود
المخلّق في دمشق، فقد ذكر أبو شامة في كتابه «الحوادث والبدع» أن الكثير من الناس
فُتنوا بهذا العمود، فعظّموه، ونذروا له..[15].
وكان الإمام النووي يدعو
أن يهيّأ الله رجلاً ليكسر هذا العمود الوثني[16].
فعزم ابن تيمية على كسره،
وخرج معه أخوه عبد الله وخلق كثير، فصاح الشيطان بالبلد، وصدح الناس بالأراجيف
وقالوا: ما بقي ابن تيمية يفلح بعد أن تعرّض لهذا! وتخلّى أكثر الناس عن ابن تيمية
وأخيه، فلما وصلا إلى العمود أَمَرا الحجّارين بتكسير العمود، فجبنوا وأحجموا!
فأخذ ابن تيمية وأخوه المعاول وشرعا في تكسيره، ثم تابعهما الناس، وما أصاب الناس
من ذلك إلا الخير[17].
وهدم الشيخ محمد بن عبد
الوهاب قبة زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - بيده، لما تهيّب هدمها الذين معه،
وانتظر الجهال ما يصيب الشيخ بسبب هدمها، فأصبح في أحسن حال[18].
والحاصل أن هناك وهماً جاثماً،
وتعظيماً فاسداً لتلك الوثنيات، لا سبيل إلى إزالته وطمسه إلا بمحو هذه القباب
والأبنية التي على القبور، كما قد شُوهد وجرّب، فهدم الأبنية التي على القبور
يستلزم محوها من القلوب، ومن توخي الحكمة التواصل مع العلماء الربانيين، والتنسيق
مع أهل الرأي والعقلاء لدرء أكبر قدر ممكن من المفاسد، والله المستعان.
:: مجلة البيان العدد 304 ذو الحجة 1433هـ،أكتوبر-نوفمبر 2012م.
[1] إغاثة
اللهفان لابن القيم، 1/486.
[2]
ينظر: كتاب الأم للشافعي، 1/277.
[3]
أخرجه مسلم.
[4]
إغاثة اللهفان لابن القيم، والقبورية لأحمد المعلم، ومعارج الألباب لحسين النعمي
(ت 1187هـ)، كما أن له كتاباً بعنوان: «مدارج العبور على مفاسد القبور».
[5]
إغاثة اللهفان لابن القيم، 1/327.
[6]
الزواجر عن اقتراف الكبائر 1/149، ويجزم محمود الألوسي (ت 1342هـ) بأن كتاب
الزواجر مأخوذ من كتاب الكبائر (المفقود) لابن القيم.
[7]
انظر: ترتيب المدارج لعياض 1/332، والديباج المذهب لابن فرحون 1/339.
[8]
انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة، ص 103 - 104.
[9]
انظر: عنوان المجد لابن بشر، 1/257 - 263.
[10]
انظر: القبورية لأحمد المعلم، ص 634 - 646.
[11]
زاد المعاد، 3/56.
[12]
انظر: مجموعة التوحيد، ص 339.
[13]
انظر: عنوان المجد لابن بشر، 1/39.
[14]
اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية، 1/477.
[15]
ينظر: إغاثة اللهفان، 1/328.
[16]
الجامع لسيرة ابن تيمية، ص 28.
[17]
انظر: الجامع لسيرة ابن تيمية، ص 80 - 81.
[18]
عنوان المجد لابن بشر، 1/39.