موسم الانقلابات العسكرية في أفريقيا

في ظل تلك الحالة من القهر والإذلال واستنزاف موارد الدول الإفريقية، حاول بعض الزعماء الأفارقة الإصلاحين أن يخرجوا من حالة التبعية المطلقة التي فرضتها عليهم فرنسا فأفقرت شعبوهم، وقهرت إرادتهم


في السادس والعشرين من شهر يوليو الماضي قام قائد الحرس الرئاسي بالانقلاب على رئيس النيجر محمد بازوم، في النيجر وإفريقيا عامة فإن خبر انقلاب عسكري خبر عادي، لا يحمل في طياته كثير انزعاج، فدول القارة المستقلة حديثًا اعتادت مثل تلك الأحداث.

الجديد في الانقلاب أنه جاء هذه المرة في ترتيب متسلسل، فسبقه انقلاب أفريقيا الوسطي ومالي، ثم انقلاب بوركينا فاسو، والأعمق أثرا أن جميعها جاءت موجهة لمحتلها القديم والذي ما زال جاثمًا فوق أرضها واقتصادها وثقافتها.

فرنسا والتي ادعت أنها أعطت شعوب إفريقيا حريتها وانسحبت من أراضيها  إلا أنه كان انسحابًا مشروطًا كانت حرية اسمية مقابل اتفاق أمني، اتضح فيما بعد أنه يشمل بنودًا غير مُعلَنة، في مقدمتها وضع نسبة 85% من مدخولات هذه الدول تحت رقابة البنك المركزي الفرنسي، بوصفه نوعًا من المقابل للبنية التحتية التي ادَّعى الاحتلال الفرنسي أن قام  بتشييدها، وقد جلبت فرنسا إلى خزائنها بموجب هذا الاتفاق قرابة 500 مليار دولار عامًا بعد الآخر، لقد  جعل هذا الاستقلال الشكلي المشروط دول إفريقيا الفرانكفونية في أوضاع اقتصادية وسياسية  أسوأ من حالة الاحتلال المباشر التي كانت تعانيه.

لم تكتف فرنسا بالتحكم بمدخولات تلك الدول بل صنعت لها عملة موحدة عرفت بالفرنك الإفريقي (CFA)، وهو عملة موحَّدة لـ14 دولة إفريقية عضوة في منطقة الفرنك الإفريقي -12 دولة منها كانت سابقًا مستعمرات فرنسية بالإضافة إلى غينيا بيساو (مستعمرة برتغالية سابقة) وغينيا الاستوائية (مستعمرة إسبانية سابقة). عملة موحدة تتعامل بها 14 دولة إفريقية تطبع في فرنسا ومرتبطة بالفرنك الفرنسي ولها سعر موحد مقابل باليورو، كبلت به فرنسا تلك الدول اقتصاديًا بحيث فرضت عليها وضع احتياطاتها النقدية في فرنسا، كما يوجد ممثلين عن فرنسا في مجالس إدارات البنوك المركزية لتلك الدول تمنعها من اتخاذ قرارات لمصلحة بلادها.

الهدف الأساس من هذه العملة هو تسهيل حصول فرنسا على المواد الخام في تلك الدول بأسعار زهيدة، قد تكون في بعض الأحيان أقل من كلفة استخراجها، ما يجعل الدول الإفريقية في حالة من الفقر المدقع، تعيش على المعونات الفرنسية.

في ظل تلك الحالة من القهر والإذلال واستنزاف موارد الدول الإفريقية، حاول بعض الزعماء الأفارقة الإصلاحين أن يخرجوا من حالة التبعية المطلقة التي فرضتها عليهم فرنسا فأفقرت شعبوهم، وقهرت إرادتهم. إلا أن فرنسا رائدة التنوير والثقافة مصدرة الديمقراطية، تعاملت مع تلك المحاولات الإصلاحية بما يليق بحقيقة عنصريتها البغيضة فتورَّطت  بشكل مباشر في اغتيال أو الإطاحة بـأكثر من 22 رئيسًا أو رئيس وزراء أفريقي حاولوا الخروج من تحت عبائتها، منهم على سبيل المثال سلفيانوس أولومبيو الذي ترأس جمهورية توجو عام 1960 وحاول أن يخرج من منطقة الفرنك الإفريقي وإصدار عملة وطنية، في تحدٍ واضح للهيمنة الفرنسية، لكن بعد أشهر قليلة دبرت فرنسا اغتياله عبر انقلاب عسكري، ومن بعده توماس سانكارا الذي حكم بوركينا فاسو 1983 وحكم البلاد لمدة أربع سنوات، حاول هو الآخر التمرد على الفرنك الفرنسي وحرض زعماء القارة على التحرر من الاستعمار والتبعية واتفق مع غينيا على  إنشاء عملة وطنية جديدة لكنه لم يستطع تحقيق حلمه فاغتيل مع عدد من وزرائه بانقلاب عسكري1987، ومثلهما لوران كابيلا رئيس الكونغو الديمقراطية الذي أطاح بالرئيس الموالي لفرنسا موبتو سيسي سيكو فاغتيال في العام 2001م هذا غيض من فيض، وإلا فإن جرائم فرنسا في إفريقيا لا يمكن أن تحيط بها كلمات معدودات في مقال.

القديم في تلك المحاولات أن معظمها كانت محاولات فردية من زعماء وطنيين، استطاعت فرنسا عبر عملائها احتوائهم او التخلص منهم باغتيالهم، لكن الجديد هذه المرة أن حالة التحرر صارت جماعية ومتسلسلة، ما يجعل فرنسا أمام حالة جديدة لم تمر عليها قبلا، فهل تنجح فرنسا في احتواء هذه الحالة من التحرر، من المؤكد أن فرنسا لن تستسلم بسهولة، فمن دون الموارد الإفريقية فلن تكون فرنسا.

لقد مرت شعوب المنطقة العربية بحالة ربيع مشابه، لكن لم تستطع أن تغتنم رياحه فتركها وانصرف.  والسؤال الآن هل ستتشابه الأربعة، فيكون الربيع كربيع سابقيه، فتوأدوا ثماره ويشتعل خراجه قبل أن ينضج فيصبح هشيمًا تذروه الرياح، أم ينتج الربيع الجديد حرية كانت تنتظرها الشعوب وتطمح إلها، فتنتزع حريتها من النفوذ الفرنسي هذه المرة، هذا ما ستخبرنا به الأيام؟ لكن المؤكد أن لكل نمرود بعوضته.

 


أعلى