الغاز والمصالح الغربية في بلدان الساحل

تُعتبر النيجر في قلب استراتيجيات القوى الدولية؛ فقد ضاعفت واشنطن وجودها هناك ثلاث مرات خلال العقد الماضي؛ من خلال تدشين قاعدة للطائرات بدون طيار بالقرب من أغاديس بقيمة 110 ملايين دولار.

 

تسقط الأنظمة الحاكمة الموالية للكتلة الغربية في بلدان الساحل كقطع الدومينو، ليس بسبب الانتكاسات السياسية أو الأزمات الداخلية أو الثورات الاجتماعية، ولكن كل ذلك يتم داخل حلبة تصارع واحدة عنوانها الصراع على النفوذ بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية على ثروات إفريقيا.

أطلقت الصحافة الغربية على ما يجري في منطقة الساحل الإفريقي مصطلح «ثورة الانقلابات»، وحذَّرت من استمراريتها في إطار ما يُسمَّى تعزيز روسيا لنفوذها في تلك المنطقة على حساب نفوذ المستعمر الفرنسي.

وبغضّ النظر عن محاولة الصحافة الغربية الترويج دائمًا لرواية واحدة مرتبطة باستبدال أنظمة ديمقراطية بأنظمة قمعية على الأغلب ستكون مُعادية للوجود الغربي؛ إلا أن الانقلاب الذي قاده الجنرال عبد الرحمن تياني في 29 يوليو الماضي في النيجر -أحد بلدان الغرب الإفريقي-؛ يشير في تفاصيله إلى الكثير من التعقيدات التي تتكون منها التركيبة السياسية في تلك المنطقة، وتقلل أيضًا من احتمالية وجود أيّ تأثير مباشر للرُّوس على الأحداث.

فقد أقدم الجيش في نيامي على حلّ جميع المؤسسات الحكومية التي يقودها الرئيس المخلوع محمد بازوم، وشكَّل عقب هذه الخطوة مجلسًا عسكريًّا أطلق عليه «المجلس الوطني لحماية الوطن»، كان الهدف من إنشائه صناعة القرار السياسي، وحماية الانقلاب في بلدٍ تمتلك حدودًا مع سبع دول، وتنتمي إلى مجموعة «إيكواس» الاقتصادية، ويمثل الجيش عمودها الفقري والحامي الرئيس للأنظمة السياسية، فمنذ عام 1960م شهدت النيجر العديد من محاولات الانقلاب، وكان من بين رؤسائها العشرة: ستة من عناصر الجيش.

لذلك حاول بازوم مثل سلفه محمد يوسفو بناء علاقات مستقرة مع الجيش، وإشراكه في ممارسات السلطة، لكنَّه في الأشهر الأخيرة حاول إجراء تغييرات على قيادة الجيش، والحدّ من صلاحياته؛ الأمر الذي أثار استياء كبار الضباط، بمن فيهم عبد الرحمن تياني والجنرال ساليفو مودي اللذان تولّيا قيادة المجلس العسكري الجديد، وكانت آخر خطوة اتخذها في مارس 2023م إصدار مرسوم أطاح بستة جنرالات للتقاعد بمن فيهم شخصيات تمتلك نفوذًا كبيرًا داخل المؤسسة العسكرية.

خلف هذه الخطوات المتسارعة كان يدور صراع بين الرئيس المخلوع وقيادة الجيش بشأن ملف العلاقات مع الغرب، والسماح بوجود قواعد عسكرية للأمريكيين والفرنسيين والإيطاليين والألمان في النيجر بذريعة محاربة الحركات الجهادية، لا سيما عقب إعلان فرنسا انتهاء عملية «برخان»، وسَحْب قواتها من مالي، ونقلها إلى قواعدها في النيجر.

من وجهة نظر الجنرال سالفيو مودي الذي عيَّنه الرئيس الأسبق محمد يوسفو رئيسًا للأركان في يناير 2020م؛ كان الغرب يستغل الهجمات الجهادية لتبرير توسيع انتشاره في النيجر. تقول مجموعة الأزمات الدولية: «إن السلطات الفرنسية اشتكت للرئيس بازوم أكثر من مرة من رئيس أركان الجيش، واتَّهمته برفض التعاون معها». 

النيجر هي آخر ثلاث دول وسط الساحل الإفريقي خضعت لانقلاب عسكري بعد مالي وبوركينا فاسو، وبينما حاولت الرواية الغربية التركيز على دور روسيّ؛ إلا أن المُعطيات الداخلية تشير إلى أن الأزمة بين الجيش والرئيس بازوم كانت تتصاعد؛ فقد كان اللواء عبد الرحمن تباني على وشك فقدان منصبه كرئيس للحرس الجمهوري، وقد يبرّر ذلك أيضًا انضمام الكثير من فروع الجيش إلى المجلس العسكري، فما جرى ليس مجرد عملية انقلاب يُنفِّذها مجموعة من الضباط بقَدْر ما هو صدام متصاعد منذ عدة سنوات بين الجيش والنظام السياسي الحاكم.

إحدى الخطوات التي تؤيد ما سبق، وتشير إلى المزيد من التفاصيل بشأن مُسبِّبات الانقلاب: الخطوة السريعة التي اتخذتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا «إيكواس» التي فرضت عقوبات اقتصادية على النيجر، وهدَّدت بضربة عسكرية لإعادة السلطة لمحمد بازوم.

ومن أبرز اللاعبين في هذا المسار: الرئيس النيجيري بولا تينوبو؛ الذي طلب من مجلس الشيوخ في بلاده المصادقة على منح الجيش صلاحية التدخل في النيجر، كما أقدمت أبوجا على قطع الكهرباء عن 26 مليون نيجري.

قد لا تُقْدِم نيجيريا على خطوة من هذا القبيل لعدة عوامل؛ أولها أن الغزو سوف يُهدِّد وجود القوات الفرنسية والأمريكية في النيجر، ويؤثر على العمليات العسكرية التي تَستهدف جماعات العنف هناك، بالإضافة إلى اختبار القوة العسكرية الحقيقية لنيجيريا في مواجهة تحالف يضم بوركينا فاسو ومالي، اللتين تعهّدتا بالدفاع عن النيجر؛ لذلك يُعدّ الانقلاب الأخير اختبارًا حقيقيًّا لقوة وتماسك «إيكواس»، وفاعلية تحالفه مع الكتلة الغربية في غرب إفريقيا، لذلك ورغم التأييد الفرنسي والأمريكي والبريطاني للخطوة النيجيرية؛ إلا أن أبوجا اليوم تُواجه أطرافًا أخرى، أهمها الجزائر التي وضعت «فيتو» أمام أيّ تدخُّل عسكري في النيجر، ودعت إلى حلّ دبلوماسيّ.

أحد أهم أسباب التدخل الجزائري: الحدود الطويلة بين البلدين، والتي تصل إلى قرابة 1000 كم2، بالإضافة إلى اتفاقية الغاز التي من المفترض أن تربط نيجيريا عبر صحراء النيجر بالجزائر، وتنقل من خلالها 30 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى أوروبا.

لذلك تُعتبر النيجر في قلب استراتيجيات القوى الدولية؛ فقد ضاعفت واشنطن وجودها هناك ثلاث مرات خلال العقد الماضي؛ من خلال تدشين قاعدة للطائرات بدون طيار بالقرب من أغاديس بقيمة 110 ملايين دولار.

ويعد «الإرهاب» والحركات المسلحة أهم مُبرِّرات هذا الحضور الغربي؛ ففي تصريح للأدميرال هايدي بيرج مدير استخبارات قوة «أفريكوم» الأمريكية: «هناك ارتفاع في نشاط الإرهاب في المنطقة»، لذلك تنشر واشنطن أكثر من 7000 جندي في عموم إفريقيا، بينما تنشر في النيجر 1100 جندي ينتشرون في قاعدتين عسكريتين.

في عام 2022م وقَّعت المغرب مع نيجيريا اتفاقًا بشأن توريد الغاز عبر النيجر باتجاه أوروبا، وهو اتفاق آخر بخلاف الاتفاق التي وقَّعته نيامي مع الجزائر، بالنسبة لأوروبا ليس هناك مصلحة أن تبقى الجزائر مُحتكِرَة لإمدادات الغاز؛ باعتبارها أكبر مُزوِّد للغاز في إفريقيا، لذلك هي تدعم أن تلعب المغرب مسارًا آخر في هذا الملف، وهذا الأمر يسبّب عقبةً كبيرةً أمام المشروع الذي بدأته عام 2009م، وتبلغ تكلفته 19 مليار دولار، ومن المفترض أن يكون طوله أكثر من 4 آلاف كيلو متر مربع.

في المقابل يُتيح الموقع الاستراتيجي للمغرب في حال تم إنشاء خط أنابيب الغاز الذي يمتد إلى 5660 كليو مترًا، الحصول على مكانة إقليمية كبيرة وسط اللاعبين الدوليين الذين يتحدثون بلُغَة الطاقة، بالإضافة إلى توفير عائدات اقتصادية عالية تساهم في التخفيف من أزماتها الداخلية؛ لذلك يُعدّ هذا المشروع أحد أهم المؤثرات في الصراع الحالي في النيجر.

وبقَدْر تركُّز القوى الغربية على مسار مكافحة الإرهاب، وتتبُّع ومُلاحقة الحركات المسلحة، وتضخيم حجم الوجود الروسي في الغرب الإفريقي؛ إلا أن الصراع الحقيقي الذي يدور في النيجر مرتبط بصورة كلية بملفين؛ أولهما رَفْض الجيش في نيامي وجود قواعد عسكرية غربية أخذت في التزايد من حيث التأثير والانتشار في البلاد. والأمر الآخر يتعلق بملف الغاز الذي يُعدّ محورًا مهمًّا بالنسبة للصراع الروسي مع الكتلة الغربية، لا سيما بعد خطوتين اتخذتهما الجزائر؛ الأولى حينما قرَّرت وَقْف العمل باتفاق ضَخّ الغاز إلى إسبانيا عبر الأراضي المغربية، وهو اتفاق مدته 25 عامًا. وتمثلت الخطوة الأخرى في رفضها الاستجابة لضغوط أوروبية بشأن تسقيف أسعار الغاز، لذلك يبقى الصراع في الغرب الإفريقي -مهما تعمّقت تفاصيله الداخلية- مرتبطًا ارتباطًا كليًّا بالحضور الغربي، ومحاولاته المستميتة في المحافظة على مصالحه الاقتصادية على حساب أمن ورفاهية شعوب المنطقة.

أعلى