• - الموافق2025/11/22م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
الانتخابات العراقية ومعركة الشرعية القادمة

الانتخابات العراقية الأخيرة ليست مجرد منافسة انتخابية، بل اختبار لقدرة الدولة على استعادة سيادتها وسط صراع نفوذ خارجي وإقليمي ومليشيات مسلحة، حيث يبقى الرهان على تأسيس عقد اجتماعي جديد يضع القرار والسلاح والثروة تحت مظلة الدولة الوطنية المستقلة.


شهدت الساحة العراقية انتخابات تشريعية جديدة يوم 11/11/2025م، وسط مشهد سياسي لا يمكن وصفه إلا بأنه خليط من الإنهاك الشعبي، والتموضع الخارجي، ومحاولات إنعاش شرعية تترنَّح منذ عقدين، ورغم كثافة المرشحين وتعدُّد القوائم، فإن القصة لا تبدأ من الأرقام ولا تنتهي عندها؛ فصناديق الاقتراع في العراق لا تُقْرَأ بما تُفْرِزه، بل بما يَختبئ خلفها.

منذ عام 2003م، لم تكن الانتخابات في العراق حدثًا ديمقراطيًّا محضًا بقدر ما كانت آلية لإعادة إنتاج النفوذ وتدوير مراكز القوة بأدوات مختلفة، فكل دورة انتخابية تأتي تحت شعار «الإصلاح»، لكنّها تنتهي إلى ذات المأزق: بنية دولة ممزقة بين ولاءات ما قبل الوطنية، ونظام سياسي يفتقر إلى القدرة على صناعة القرار المستقل، والمشكلة لا تكمن في شكل الانتخابات بل في جوهر السلطة التي تظل خاضعة لتوازنات لا علاقة لها بالصندوق ولا بإرادة الناخب.

المعضلة المركزية التي تُظلِّل المشهد ليست فيمن يترشَّح أو يفوز، بل فيمن يثق ومن يعزف. فالعراقي الذي أنهكته الوعود يُدرك أن الاقتراع لا يُغيِّر قواعد اللعبة؛ لأن هذه القواعد كُتبت خارج الحدود، ونُفِّذت بأيدي الطبقة نفسها التي راكمت السلطة والثروة منذ الاحتلال الأمريكي. وعليه، فإن انخفاض نسبة المشاركة لن يكون مجرد رقم في سجلات المفوضية، بل استفتاء غير مُعلَن على مشروعية النظام بأكمله.

أما الولايات المتحدة، من جانبها، فهي لا تريد عراقًا مستقلاً بقدر ما تريد عراقًا مستقِرًّا، والفارق كبير بين الاستقلال والاستقرار؛ الأول يعني أن القرار في العراق يُصنع في بغداد، والثاني يعني أن البلد يبقى هادئًا بما يكفي ليمرّ النفط بسلام، ولهذا، تمارس واشنطن نفوذها بوسائل مالية ودبلوماسية دقيقة: «الدولار كسلاح سياسي، والمساعدات الأمنية كأداة ابتزاز ناعمة»، فهي لا تبحث عن نَصْر في العراق، بل عن عدم خسارة جديدة بعد أفغانستان.

وأما إيران، فهي تقف على الضفة الأخرى من المشهد، لكنها تلعب اللعبة بذكاء أكبر. ومعنى ذلك أن طهران لم تَعُد تراهن على ضجيج المليشيات، ولا على الشعارات العقائدية، بل على تثبيت نفوذ مؤسسي هادئ داخل بنية الدولة العراقية نفسها، فهي لا تريد أن تُرى، لتبقى تُمسك بخيوط الطاقة والاقتصاد والبرلمان والميليشيات، ولكن بقبضة مرنة، تُدير التوازن لا الصدام، وتراهن على الزمن أكثر مما تراهن على مَن يتزعَّم مقاليد الحكم في العراق.

وبين هذين القطبين، يطلّ رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في امتحان دقيق؛ فهو يريد أن يُقدِّم نفسه كزعيم إصلاحي قادر على ترميم هيبة الدولة، لكنّه مُكبَّل بتوازنات داخلية وخارجية مُعقَّدة، ويحاول الإمساك بالعصا من الوسط، في مواجهة السلاح المنفلت دون إعلان حرب، وفي مواجهة الهيمنة الإيرانية دون استفزاز طهران. وفي الوقت نفسه يسعى لنيل رضا واشنطن والعواصم العربية التي تمتلك مفاتيح الدعم المالي والاستثماري، وهو يُدرك أن الولاية الثانية تمر عبر الكهرباء والرواتب والخدمات أكثر مما تَمُر عبر الخطابات الرنانة.

غير أن الخطر الأكبر في الانتخابات المقبلة لا يأتي من الخارج وحده، بل من الداخل؛ من المليشيات التي تقف على مفترق طريق بين الاندماج في الدولة أو تفكُّكها، وهذه الكيانات التي وُلِدَتْ من رحم الفوضى، تراكمت قوتها بالسلاح والاقتصاد والولاء العابر للحدود، فإن هي اندمجت في الدولة، استقرت الدولة، وإن تمردت، تهاوت أركانها، لذلك، فإن معركة الشرعية الحقيقية ليست بين القوائم الانتخابية، بل بين الدولة الحكيمة والدولة العميقة.

وفي مقابل هذه التعقيدات، يطلّ الفاعل الإقليمي العربي والتركي بدور أكثر براغماتية؛ فأنقرة تتعامل مع بغداد من بوابة الأمن والاقتصاد والمياه، وتسعى إلى شريك يضمن حدودًا آمنة وممرات تجارية نحو المتوسط. بينما تنتهج العواصم الخليجية «سياسة الاقتصاد الناعم»، عبر الاستثمار والطاقة والربط الكهربائي، ومحاولة استعادة العراق إلى فضائه العربي دون صدام مباشر مع طهران، وهذه مقاربة هادئة تُعوِّل على المصالح لا على الشعارات.

ويبقى المشهد برُمّته أقرب إلى رقعة شطرنج معقدة؛ فيها اللاعب الأمريكي الذي يريد الاستقرار، والإيراني الذي يريد النفوذ، والعربي الذي يبحث عن التوازن، والعراقي الذي يبحث عن دولة، أما الصندوق الانتخابي فليس إلا ساحة اختبار لهذا الصراع المُركَّب، الذي يُدار بعقول خارجية وأيادٍ محلية.

ومن هنا تكون السيناريوهات المحتملة بعد الانتخابات ثلاثة:

الأول: إعادة إنتاج الوضع القائم بشكل مُحسَّن؛ أي: حكومة توافقية جديدة تُعيد توزيع المقاعد بلا تغيير جوهري في قواعد اللعبة.

الثاني: توازن جديد قد يُفرز قوى إصلاحية أو مستقلة تفرض حوكمة أكثر صرامة على المال والسلاح، وهذا احتمال ضعيف، لكنّه ليس مستحيلاً.

الثالث: اهتزاز سياسي وأمني ناتج عن مشاركة هزيلة وصراع على رئاسة البرلمان والحكومة، ما يَفتح الباب أمام تدخلات إقليمية ودولية لضبط الإيقاع ومنع الانفجار.

ومهما كان السيناريو، فإن الحقيقة الجوهرية تبقى واحدة: لا يمكن بناء دولة بعقلية المكونات، ولا بسياسة الترضيات؛ فالعراق، بحضارته العميقة وذاكرته التاريخية، لا يمكن أن يُدار كإقطاعية مصالح، بل يحتاج إلى عقد اجتماعي جديد يُعيد تعريف العلاقة بين السلطة والمجتمع، ويضع السلاح والثروة والسيادة تحت مظلة واحدة؛ هي الدولة الوطنية المستقلة العادلة.

وإن هذه الانتخابات ربما تكون وسيلة لاختبار قدرة العراقيين على استعادة زمام المبادرة من قبضة الخارج، فإن نجحوا في فرض معادلة «سلاح واحد، قرار وطني، وانفتاح متوازن على الجوار»، فربما تبدأ رحلة الخروج من التيه، أما إذا بقيت الصناديق بلا مضمون، والنتائج بلا أثر، فإن العراق سيظل ساحة بين القوى، لا دولة بين الأمم.

فالرهان الحقيقي على مَن يُعيد للعراقي ثقته بنفسه، وإيمانه بقدرته على بناء وطن يُدار بالعقل لا بالولاء، وبالمصلحة العامة لا بالمحاصصة، عندها فقط، تتحوَّل الانتخابات من مشهد شكلي إلى مفتاحٍ لنهضة مُؤجَّلة، وتصبح الانتخابات العراقية أداة وَعْي وليس طقسًا موسميًّا.

 

أعلى