الشعارات الدينيـة بين الكونجرس الأمريكي واللا ديينين..
يعتبرون أمريكا منارة
الحرية الفكرية والانطلاق من كل قيد، ومعياراً للسلوك والخطاب والحوار... يرونها
قِبلَة للممارسات والسلوكيات غير المنتمية المتحررة من كل مرجعية، يسبِّحون بحمد
حياديتها ويمجِّدون انفكاكها وانحلال مجتمعها عن كل ما يزعمونه مرجعية تحرِّك
السلوك البشري الفردي والجماعي.
إنها (أمريكا)! تلكم
الأنشودة التي يتشدق بكلماتها أولئكم الذين ينقمون على المسلمين ردَّ أمرهم كلِّه
لله تعالى، أولئكم الذين خَلَقوا الوهم ثم حاولوا سحبه على بلاد نِعَم ضربها
القصور، إلا أن الإسلام وفطرته ضارب فيها حتى الجذور، صنعوا الوهم إما جهلاً بنقص
الاستقراء والتتبع والاستنتاج، وإما تجاهلاً وعمالةً للآلة الاحتلالية –
الاستعمارية مجازاً أو حسب الاصطلاح المضلِّل القديم - تمهيداً لأن تجلب بخيلها
ورجلها على أراضينا وتتحكم في مقدراتنا لتنعم في بقاعنا بجنة أُكُلها دائم
وظِلُّها.
وحتى لا أنجرَّ إلى ما إن
ألقيت لقلمي العنان بتسطيره لبرز للعيان في صفحات ترهق كاهل الجبال للكشف عن جملة
من الخصال والخصائص التي لا يختلف المجتمع الأمريكي العريض عنَّا في أصلها في شيء؛
إلا أن الجُهلاء والعُملاء يحاولون التضلليل وممارسة الحيل بستر تلكم الخصال عن
أعيينا وتزييف الحقائق، وخَلْق مجتمع أمريكي وهمي مُلْحِد في سلوكه السياسي
والاجتماعي؛ ليربطوا التقدم في مختلف الجوانب الحياتية به، ثم يدعوننا للتنصل من
مصدر عزتنا وقِوام حياتنا الدنيوية والأُخروية الأبدية تحت دعوى التقدم والحضارة
من أجل تحصيل الرقي؛ بل الإلحاق بالركب الحضاري التقدمي.
ففي مقالتي هذه أُلْقي
الضوء على مشهد من تلكم المشاهد الكاشفة عن الخلفية الدينية والمنطلق العقدي الذي
يحرِّك تلكم الآلة الاحتلالية الضخمة في الداخل فضلاً عن الخارج، ولعل هذة المقالة
يتبعها جملة من المقالات التي تكشف عن أثر الخلفية الدينية والتقاليد والهوية
العقدية في سلوك المواطن الغربي فضلاً عن الصفوة والطبقات الحاكمة وسياستها
الداخلية والخارجية بما يسفر عن حقيقة خدعة (حياديةِ الغرب الدينية أو لادينيته).
(In God We Trust) تلك العبارة
الإنجليزية التي تعني (بالله نحن نثق) تلك العبارة التي نراها مكتوبة على الدولار
الذي يُعَد أقوى عملة لأقوى اقتصاد مهيمن - بالطرق المشروعة وغير المشروعة على
السوق العالمية - ومتحكم بمقدرات شعوب ودول كثيرة. إن هذه العبارة لا تمثل شعاراً
لحزب يُصنَّف على أنه حزب ديني أو أنه سبق أن وُسِم بالمحظور كالإخوان المسلمين
بمصر والعالم أو أيٍّ من الأحزاب والجماعات الإسلامية العريقة أو الوليدة ولكنه (national motto)؛ أي: شعار قومي يمثل
الهوية العقدية والثقافية والتقاليدية والمرجعية العليا للشعب والحكومة الأمريكية.
ذلك الشعار الذي ظهر
أثناء الحرب الأهلية الأمريكية على العملات المعدنية أقرَّه الكونجرس عام 1956م
وأعاد التأكيد على التزامه شعاراً قومياً للوطن الأمريكي عام 2002م، وكذلك أكد
اعتماده شعاراً قومياً مجلسُ الشيوخ عام 2006م، وفي 1 نوفمبر 2011م دار حوار في
الكونجرس حول ذلك الشعار ومدى أهميته، وهو ما دفع (ترنت فرانك) عضو الحزب الجمهوري
عن ولاية أريزونا إلى استغلال الجدل للتأكيد على أن الكونجرس يعلن عن إيمانه
بالإله منظم الكون. ولذلك فإن الكونجرس الذي يقر السياسات ويشرع القوانين ويوافق
على الحروب ويعتمد لها الميزانيات يرى أنه لا بديل عن شعار الولايات المتحدة
القومي (في الله نحن نثق)، حتى أن 396 من أعضاء الكونجرس صوَّتوا بالموافقة على
اعتماد الشعار مجدداً وإبرازه على المؤسسات المختلفة كالمدارس والمباني الحكومية.
وهو ما دفع الرئيس
الأمريكي (أوباما) الذي كان بصدد مناقشة قانون الوظائف الأمريكي للتأكيد على أن
هناك قانوناً يؤكد على ذلك الشعار؛ بل إن أوباما رد قائلاً: (أنا أثق في الله،
والله يريد أن يرانا نساعد أنفسنا ونرد الناس إلى أعمالهم)[1].
فهل بعد أن تكشَّفت لنا
الخلفية العقدية والدينية والإيمان المعلن بالله من قِبَل رئيس القوة الكبرى كما
يُروَّج لها، وبعد أن ظلَّ الشعب الأمريكي ممثَّلاً في نوابه تارة بالكونجرس وتارة
بمجلس الشيوخ يؤكد على قيمة الشعار ذي الخلفية الدينية وما يظهره من منطلق لاهوتي
ديني موجِّه للممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للشعب والحكومة
الأمريكية... هل سيظل أبواق التفلت المرجعي ببلاد المسلمين ينادون باتباع خطى
الولايات المتحدة؟ هل ستظل الهيئة العليا لتأسيس الأحزاب وغيرها من المؤسسات التي
تزعم تبنِّيها منهجاً لا دينياً تنادي برفض الشعارات الدينية على أساس أنه منطلَق
التقدم والحضارة؟ هل سيظل شعار (الإسلام هو الحل) و (إن الحكم إلا لله) و (الشعب
يريد تطبيق شرع الله) محط نَبْذٍ وطرحٍ ودفعٍ ومحاربة من قِبَل القوى المناهضة
لمظاهر الإسلام في مختلف مناحي الحياة؛ سواء في ذلك المستوى السياسي والاجتماعي
والاقتصادي؟ هل سيظل الإعلام يستنكر ويشجب مرجعية بعض الأحزاب الدينية الإسلامية
أو مرشحي الرئاسة أو العاملين في الحقول الوطنية المختلفة؟
فإذا كان الكونجرس والشعب
الأمريكي يثق في الله فنحن أَوْلى بذلك، ولا بديل عن تطبيق الشريعة الإسلامية بآلية
مرحلية تدريجية تبني ولا تهدم وتسع كافة الطموحات الشعبية، في ظل سماحة ورحمة
الإسلام وشريعته الغراء التي هي الأجدر بالاعتناق والاعتقاد وهي الأَوْلى أن تكون
المنطلق؛ بل هي المنطلق الوحيد القادر على نشر الخير في ربوع الوطن بل العالم
أجمع.
[1] صحيفة (The Washington Post) كما في العدد الإلكتروني يوم 2 نوفمبر 2011م.