الغذاء والطاقة.. ورقة بوتين الرابحة أمام الغرب

مجدداً يبدو أن الروس كانوا يدركون أن معاقبة الغرب لروسيا من خلال ورقة الطاقة، سيرتد سلباً على الغرب قبل باقي دول العالم التي بدأت تعاني بالفعل من ارتفاع أسعار الوقود؛ خاصةً مع ارتفاع معدلات التضخم في كل البلدان تقريباً.


بينما تستمر الحرب الروسية الإقليمية على أوكرانيا بكل ما تحمله من قتل ودمار ونزوح، ثمَّة حرب مروعة أخرى، لكنها عالمية التأثير، تتزايد نيرانها وتبعاتها الواسعة التي لا تحدُّها الحدود الجغرافية لأوكرانيا، إنها حرب الطاقة والغذاء، وهي معركة لم يرغب أحد فيها، بل انخرط الجميع في رحَاها، فقبل الغزو الروسي لأوكرانيا، كان ما يقرب من 811 مليون شخص حول العالم محرومين من الطعام الكافي، ولا شك أن هذا العدد يزداد بشكل كبير يومياً في حين تستمر أيام الحرب الروسية على أوكرانيا في التزايد، ولا سيَّما أن الحرب تؤثر أيضاً بشدة على أسواق الطاقة. في وضعِ متأزم كهذا يمكن لمن يملك نصيباً كبيراً من الغذاء والطاقة أن يستثمره كورقة ضغط لمواجهة العقوبات والتضييق الذي تمارسه الدول الغربية ضده.

ورقـة الغـذاء:

لقد كان للحرب الروسية على أوكرانيا دور بارز في الضغط على اقتصاديات دول العالم بلا شك، نظراً للدور المحوري لروسيا وأوكرانيا في سوق الغذاء العالمي، فـ 60% من صادرات زيت عباد الشمس تخرج من كلا البلدين، وأكثر من 25% من القمح و 15% من الذرة كذلك، كما يعدَّان كلاهما مع بيلاروسيا من أهم منتجي الأسمدة، وهي كلها سلع أساسية بالنسبة للعديد من دول العالم. مع إطالة أمد الحرب وتزايد العقوبات يستمر الضغط على إنتاج وتصدير تلك السلع، وهو ما يؤدي إلى زيادة حادَّة في أسعارها، لقد أدى الصراع الدائر حالياً إلى توقف معظم صادرات أوكرانيا من الحبوب؛ خاصة بعد حصار روسيا للموانئ الأوكرانية المطلة على البحر الأسود، وهو ما أثَّر بشدة على البلدان التي تعتمد بشكل رئيسي على واردات الحبوب الأوكرانية، ومن المتوقع أن تزداد آثار الحرب على الأمن الغذائي العالمي في المرحلة المقبلة؛ خاصةً أن العالم ما يزال يعاني من تفاقم ظاهرة التغير المناخي واستمرار تداعيات جائحة فيروس كورونا المستجد وما تبعها من أزمة سلاسل التوريد.

مع ارتفاع مستويات الجوع في العالم، سيتعرض عشرات الملايين إلى خطر المجاعة؛ خاصةً بعد وضع قرابة 25 دولة قيوداً على تصدير الغذاء والطاقة والمواد الخام، وقد أثَّرت قيود التصدير بالفعل على 17% من الغذاء العالمي حتى الآن، وَفْقاً للمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية (IFPRI)، وارتفعت أسعار القمح بنسبة 60%، في حين ارتفعت أسعار زيت الطعام بنسبة تقارب الـ 40%، ومن المرتقب أن تزداد هذه النسب مجدداً إذا استمرت مدافع الحرب في إطلاق قذائفها، حيث سيواجه ما لا يقل عن 276 مليون شخص انعداماً حاداً للأمن الغذائي، وارتفاعاً أكثر من 135 مليوناً قبل الجائحة،  والآن تعمل آلة الدعاية الروسية بكامل طاقتها لتوجيه اللوم للعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، باعتبارها هي السبب الرئيسي للجوع الذي سيصيب العالم بشدة مع نهاية هذا العام، حسبما يتوقع الروس.

ورقـة الطـاقـة:

تمثل روسيا وأوكرانيا مصدران رئيسيان للعديد من السلع الأساسية، خاصةً روسيا المنتجة للنفط والغاز، التي تعدُّ أكبر مصدر للغاز الطبيعي وثاني أكبر مورِّد للنفط الخام وثالث أكبر مصدر للفحم على مستوى العالم، أما أوكرانيا فهي دولة عبور هامة للنفط الروسي إلى بلدان أوروبا، وهو ما يجعلها تلعب دوراً محورياً في إمدادات الطاقة العالمية، إذ تعتمد أوروبا بشكل كبير على نفط روسيا وغازها، ولا سيَّما أن نصف الإنتاج الروسي تقريباً ينتهي به المطاف في القارة الأوروبية الشرهة للطاقة بشدة، خاصة في شهور الشتاء القارس، ورغم المحاولات الأوروبية السابقة من أجل لتخلي عن روسيا من حيث هي المورد الرئيسي لطاقتها، إلا أنها كانت تنتهي دائماً بالفشل، لأن البدائل ستكون أكثر كلفة. في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، نشطت مجدداً الدعوات داخل الاتحاد الأوروبي إلى إنهاء الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية، إلا أن الأوروبيين اكتشفوا فجأة أن الإنهاء الفوري لواردات الطاقة الروسية سيحدث أزمة كبرى لديهم، أزمة لم يكن أحد على استعداد لها، فتم وضع الخطط طويلة الأجل التي ستنهي تلك الواردات بحلول عام 2030، وقد حاول بعض المراقبين تجميل الوضع بأنه سيكون فرصة لإنهاء اعتماد القارة العجوز على الوقود الأحفوري، وتسريع إجراءات الاعتماد على الطاقة النظيفة ومصادر الطاقة المتجددة.

لكن مجدداً يبدو أن الروس كانوا يدركون أن معاقبة الغرب لروسيا من خلال ورقة الطاقة، سيرتد سلباً على الغرب قبل باقي دول العالم التي بدأت تعاني بالفعل من ارتفاع أسعار الوقود؛ خاصةً مع ارتفاع معدلات التضخم في كل البلدان تقريباً. اشترط بوتين على أوروبا أن تسدد ثمن الغاز بالروبل الروسي، خضعت الشركات الأوروبية لمطلبه في النهاية، وهو اعتراف ضمني بأن سوق الطاقة يتعرض لأزمة نقص كبيرة في الإمدادات، يستغل الروس العقوبات إلى حدٍّ كبير من ناحية أنها ستضر بمصالح الأوروبيين الوطنية، واقتصاداتهم ورفاهية مواطنيهم، لكن عليهم أن يدركوا أيضاً أن هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد، سيبحث الأوروبيون عن مورِّدين جدد ومصادر أخرى لطاقتهم لا تجعلهم تحت رحمة الروس مع اقتراب الشتاء ببرودته القارسة.

ضغط وابتزاز ومساومة:

اشترط الروس أن يساهموا في تفادي أزمة غذاء عالمية تلوح في الأفق، مقابل أن يرفع الغرب عقوباته المفروضة ضدهم، لا يساوم الروس هنا بمستقبل غزوهم العسكري على أوكرانيا، بل يساومون بمستقبل غذاء وطاقة العالم، يرى الروس أن من حقهم أن يدافعوا عن أنفسهم اقتصاديّاً وعسكريّاً بعد اقتراب الناتو من عمقهم الإستراتيجي، فلجؤوا إلى كل الأسلحة المتاحة أمامهم لاستخدامها، سواء كانت عسكرية أم اقتصادية، ففي الحروب لا توجد مبادئ، ويمكن للنفط والغاز والفحم أن يصبحوا أسلحةً فتاكة لا تقلُّ ضراوة عن المدافع والقنابل، ويمكنها تغيير مسار الحرب ومآلاتها... يعرف الغرب جيداً أن  سلاح الغذاء والطاقة سيكون  مقابل رفع العقوبات، لا يخاف الأمريكيون والأوروبيون من شبح الجوع، فهذا بعيد نسبياً عنهم. صدمات الحروب غير عادلة أحياناً؛ إذ يمكن للبُلدان الأكثر ثراءً استيعاب الزيادات الحادة في الأسعار، وفي الوقت نفسه سيجد الناس في البلدان الفقيرة أن تناول كسرة الخبز قد بات أغلى بكثير، وسيتفاقم الوضع مع ارتفاع تكلفة وصعوبة إنتاج الغذاء في الأشهر والسنوات المقبلة، من المؤسف أن معظم الدول الفقيرة، لم تنعم يوماً بوفرة الغذاء حتى قبل أن يفكر أول جندي روسي في إطلاق الرصاصة الأولى خلال حرب بلاده على أوكرانيا.

من الملاحظ أن العقوبات الغربية - وإن كانت محسوبة بدقة ومخففة في بعض الجوانب - أنتجت تأثيرات سلبية وعكسية تفوق تأثيرات الحرب ذاتها، لا يريد الغرب سقوطاً سريعاً لروسيا، فهي دولة عسكرية واقتصادية عظمى، سقوطها سيحدث زلزالاً مدمراً سيكتوي به الجميع، الحل الأمثل هو إضعافها تدريجياً عبر تجميد الأصول والتحفظ على الممتلكات الروسية، بل إن بعض المسؤولين في الغرب دعوا صراحةً إلى مصادرة الأصول الروسية واستغلالها في تمويل أوكرانيا للدفاع عن نفسها وإعادة إعمارها بعد انتهاء الحرب. وتستهدف العقوبات إفراغ جيوب موسكو لجعل أمر تمويل غزوها لأوكرانيا صعباً للغاية، هنا يلجأ الروس إلى الابتزاز بورقتي الطاقة والغذاء، إذ ليس بإمكان روسيا مجاراة الدول الغربية في فرض عقوبات مؤلمة مماثلـة من الناحية الاقتصادية. سيعاني الشعب الروسي من جراء أحلام بوتين التوسعية، ويمكن إخفاء ذلك لبعض الوقت، لكن إذا كانت الدول غير المنخرطة في الحرب قد بدأت تتأثر بشدة بتبعاتها؛ فكيف الحال بالمواطن الروسي!

لم تعد حروب اليوم كما كانت عليه في الماضي، إذ كانت لا تعدو جغرافية المتحاربين، يمكن لحرب دائرة في شمال شرق أوروبا أن تحرم مواطناً في أقصى جنوب أمريكا الجنوبية من الغذاء، لقد تهاوت معادلات الإنتاج المحلي وبات الجميع يعتمد على الجميع، ويمكن لحرب واحدة أن تغيِّر مسالك التجارة وتعيد ترتيب الأوراق بين الدول والأقطاب، وقد نحتاج إلى زمن طويل كي نتخلص مما ستفرزه حرب واحدة. إن الكارثة الإنسانية التي نتجت عن الغزو الروسي غير المبرر منطقياً لأوكرانيا ستتزايد، والخسائر البشرية ستظل آخذةً في التصاعد، ولا نهاية واضحة لأزمات الغذاء والطاقة التي بدأت بالفعل، وعلى العالم أن يستعد لما هو أسوأ إذا لم تتوقف المدافع وتُرفَع العقوبات.

 


أعلى