الاعتراف الأوروبي بفلسطين..  قراءة في أسبابه وتداعياته

مجلة بولتيكو النرويجية تقول: إنه بدون دولة فلسطينية لن يرى الشرق الأوسط السلام. وتضيف: إنه ومنذ توقيع اتفاق أوسلو جرى الاعتماد على المفاوضات لاحتواء الصراع وتطبيع العلاقات بين الطرفين، لكن ما يمكن ملاحظته فقط هو ظهور «العناصر المتشددة بين الطرفين»،


عبَّرت كلٌّ من إيرلندا وإسبانيا والنرويج عن حالة تمرُّد على غالبية الأعضاء في الكتلة الأوروبية؛ من خلال الاعتراف رسميًّا بفلسطين كدولة مستقلة، وتأتي هذه الخطوة عقب خطوة مشابهة قامت بها توباغو وجامايكا وبرادوس وجزر البهاما وترينيداد، ليصل عدد أعضاء الأمم المتحدة الذين يعترفون بدولة فلسطين إلى 143 من أصل 193.

تُعبِّر هذه الخطوة عن عدم وجود قدرة على اتخاذ قرارات توافقية على مستوى الاتحاد الأوروبي بشأن الملف الفلسطيني، وهذا الأمر ظهر في مواقف متضاربة بين مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الذي تبنَّى مواقف داعمة لوقف الحرب ومعاقبة الدولة العبرية، بينما كانت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، متطرفة في مواقفها الداعمة للجرائم الصهيونية في الأراضي الفلسطينية.

الإجماع الوحيد الذي أقره الموقف الأوروبي كان في أبريل الماضي، حينما وافقت بروكسل لأول مرة على الدعوة لوقف إطلاق النار في غزة، وفرض عقوبات على أربعة مستوطنين صهاينة متَّهمين بالتسبُّب في أعمال عنف بالضفة الغربية المحتلة. 

لكنَّ هذا الإجماع انتهى حينما طالبت إسبانيا وإيرلندا من المفوضية الأوروبية مراجعة اتفاقيات الشراكة مع الدولة العبرية التي تُسهِّل التبادل التجاري بين الطرفين. ويحمل هذا الاتفاق أهميةً كبيرة للدولة العبرية التي ترسل حوالي 30% من صادراتها للاتحاد الأوروبي، وقد تم اعتراض هذه الخطوة من ست دول أعضاء في الاتحاد، من بينها ألمانيا وإيطاليا. هذه الخطوة حفَّزت عدة أطراف أوروبية على اتخاذ مواقف أكثر استقلالية بعيدًا عن بروكسل، وهذه الخطوة تأتي قبيل انتخابات البرلمان الأوروبي التي ستبدأ في السادس من يونيو الجاري.

وقد بدأ هذه الزخم في أبريل الماضي على يد الرئيس الإسباني بيدرو سانشيز الذي قام بجولة أوروبية لتنسيق اعتراف إسبانيا بفلسطين مع دول أخرى مثل النرويج وإيرلندا وسلوفينيا.

ورغم عدم اعترافها بفلسطين في الوقت الحالي؛ إلا أن سلوفينيا رحَّبت بهذه الخطوة، ولم تستبعد القيام بهذه الخطوة قريبًا. أما الموقف البلجيكي فهو الأكثر غموضًا ويُبرّره رئاسة الحكومة البلجيكية للدورة الحالية للاتحاد الأوروبي، وربما تحاول بروكسل القيام بدور الوساطة بهذا الشأن. بالإضافة إلى وجود انتخابات برلمانية حاليًّا بالتوازي مع وجود انتخابات البرلمان الأوروبي. وكانت الحكومة البلجيكية الحالية من أوائل الأطراف التي دعت لوقف إطلاق النار في غزة. وكذلك يُعتَقد بأن مالطا ولوكسمبورغ يمكن أن يعترفا بفلسطين في الوقت الراهن.

لقد ارتبط الفكر السياسي الأوروبي في التعامل مع الملف الفلسطيني في سياق المصالح الأوروبية والغربية بصورة عامة، لذلك فإن جميع الدول الأوروبية التي اعترفت بفلسطين سابقًا كانت جزءًا من أوروبا الشرقية، وقد اتخذت هذه الخطوة عام 1988م حينما كانت تنتمي إلى الكتلة السوفييتية مثل المجر والتشيك، وهما الآن من أكبر المؤيدين للدولة العبرية في الاتحاد الأوروبي.

 

لكنَّ الاعتراف السويدي بفلسطين عام 2014م أظهر حالة نفور أوروبي من استدامة أمَد الصراع، كما أن بروكسل أحد أعضاء اللجنة الرباعية، وكذلك تُعدّ جزءًا من الداعمين لمشروع السلطة الفلسطينية الذي من المفترض أن يكون ضمن خارطة طريق غربية لاحتواء الصراع الفلسطيني الصهيوني.

في عام 2014م، وإثر الحرب الصهيونية على غزة، أعلنت السويد اعترافها بفلسطين، وتأكيدها على حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وأصبح الاعتراف بفلسطين يأخذ طابعًا رمزيًّا يُعبّر عن حالة الإحباط الأوروبية من السياسات الصهيونية والأمريكية في المنطقة ضمن المساحة المحدودة التي يُسمَح لتلك الدول بالتحرُّك فيها، فاعتراف النرويج بفلسطين لا يُعطيها القدرة على وقف استثمارات صندوق الثروة السيادي النرويجي في الدولة الصهيونية، أو اتخاذ إجراءات جذرية بهذا الخصوص.

مجلة بولتيكو النرويجية تقول: إنه بدون دولة فلسطينية لن يرى الشرق الأوسط السلام. وتضيف: إنه ومنذ توقيع اتفاق أوسلو جرى الاعتماد على المفاوضات لاحتواء الصراع وتطبيع العلاقات بين الطرفين، لكن ما يمكن ملاحظته فقط هو ظهور «العناصر المتشددة بين الطرفين»، والتي ترى ضرورة حسم هذا الصراع عسكريًّا، مثل حركة حماس، بينما يقابلها جماعات استيطانية تُؤسِّس مليشيات مسلحة في الضفة الغربية للسيطرة على الأراضي الفلسطينية، في مسعًى لمنع وجود دولة فلسطينية.

وتضيف المجلة: إن العديد من البلدان ترى أهمية تعزيز الصوت السياسي الدولي للشعب الفلسطيني؛ من خلال دعم الاعتراف بدولة فلسطينية في الأمم المتحدة، ودعم خطة السلام العربية التي يعمل عليها لاعبون كبار في المنطقة؛ فهي ليست فقط طريقًا لحل الصراع بصورة سلمية، بل أيضًا تُعدّ مسارًا مُهمًّا لتطبيع العلاقات مع الدولة العبرية، ومنحها فرصة كبيرة للاندماج في المنطقة.

إن الرؤية الأوروبية لطبيعة الصراع يمكن قراءتها في سياق التعاطي مع المصالح الغربية في المنطقة؛ فالهجرة اليهودية التي بدأت من أوروبا إلى فلسطين منذ بداية القرن الماضي كانت في سياق حلّ أزمة مستعصية من أزمات الكتلة الغربية برُمّتها، تتجسَّد في التخلص من عبء وجود اليهود هناك، ومن أهم مسبّبات الحرب العالمية الثانية، لذلك فإنَّ تصاعد فرص الفلسطينيين في تحقيق مكتسبات عسكرية ميدانية، وتزايد إيمان الشعب الفلسطيني بهذا المسار؛ أصبح لا يُخيف فقط النخب السياسية اليسارية الصهيونية، بل أيضًا يُربك حسابات الكتلة الراعية للدولة العبرية التي اندفعت في الفترة الأخيرة لمحاولات دمج الدولة العبرية في المنطقة؛ للتخلص من هذا العبء نهائيًّا، بالتزامن مع تزايد الصراع مع روسيا والصين، وتأثير الصراع على المصالح الغربية الاقتصادية بأكملها، لا سيما مع تزايد هيمنة اليمين الصهيوني وقياداته على صناعة القرار في الدولة العبرية، وتوجُّهه نحو حالة انتحار سياسي وعسكري في محيطه، ووجود صوت أوروبي متمرّد بدأ يتعاطى مع حقوق الشعب الفلسطيني مثَّله صوتُ الشباب في التظاهرات التي خرجت في الجامعات الأوروبية للتضامن مع غزة.

لذلك تأتي خطوة الاعتراف برمزيتها في سياق إنقاذ الدولة الصهيونية من اتجاهها بقيادتها الحالية نحو انتحار عسكري وسياسي يزيد السخط عليها في محيطها، ويُقلِّص فُرَص قدرتها على التعايش مع المنطقة، ويُحَجِّم إمكانية تطبيع العلاقات مع محيطها، ويضع حدودًا أمام المقاومة الفلسطينية لرفع مستوى طموحاتها المستقبلية أمام الجيش الصهيوني الذي أكَّدت الحرب الأخيرة في غزة على فشله الإستراتيجي.

  

أعلى