إذا كانت روسيا تنظر لتهديدات تنال من الأمن العالمي من جراء حصار الناتو لها جغرافياً، وليس غزو أراضيها، فهذا مرجعه إلى أن روسيا تنظر لنفسها على أنها قوة عالمية تتطلع على الأقل إلى المساواة مع القوى الكبرى الأخرى في نظام دولي متعدد الأقطاب، بديلاً عن الهيمن
يتبارى السياسيون الروس في تصريحات متوالية لوصف حرب أوكرانيا بأن هدفها
الإستراتيجي هو تغييرُ النظام الدولي ليصبح متعدد الأقطاب، وعدمُ استمرار نظام
القطب الواحد.
فأثناء زيارة للصين بعد اندلاع حرب أوكرانيا بشهر واحد صرَّح وزير الخارجية الروسي
سيرجي لافروف، بأن روسيا والصين وشركاءهما سيتحركون معاً نحو نظام عالمي متعدد
الأقطاب وعادل، بناء على نتائج المرحلة الخطيرة التي يمر بها تاريخ العلاقات
الدولية.
وكرر لافروف هذا التصريح خلال لقائه مع الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي حسين
إبراهيم طه بالرياض أواخر مايو الماضي حين قال: يجري الآن تشكيل عالم متعدد
الأقطاب، في حين يحاول زملاؤنا الغربيون منع هذه العملية.
ولكن بدأ الروس في الآونة الأخيرة يطرحون هدفاً جديداً وهو هندسة الأمن العالمي؛
ربما إذا لم يستطيعوا الانتقال إلى نظام متعدد الأقطاب.
ففي لقاء خاص مع الجزيرة هذا الشهر قال نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري
ميدفيديف الذي يوصَف بأنه خليفة بوتين، إن العملية العسكرية الروسية يجب أن تقود في
النهاية إلى ظهور ما سمَّاه
«هندسة
جديدة للأمن العالمي»،
وأضاف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي أن العالم تغير فعلياً، بعد بدء روسيا
عمليتها الخاصة في أوكرانيا.
ويبدو أن الروس ليسوا وحدهم الذين يتحدثون عن النظام الأمني، فالرئيس التركي رجب
طيب أردوغان على خلفية رفضه لانضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، يرى أيضاً أن
النظام الأمني الذي أنشأه الغرب لضمان أمنه ورفاهيته في أوروبا ينهار، فهناك حالة
من الذعر في أوروبا على حدِّ قوله.
فما هي طبيعة هذا النظام الذي يتحدث عنه الروس؟
وهل سينجحون في تحقيقه وفرضه؟
وهل هو نظام عالمي أم نظام أمني؟
دفعت الحرب الأوكرانية والتجاذبات حولها بالتنافس الدولي المحموم، وجعلته يطفو على
السطح، وهذا التنافس أصبح معروفاً هدفه، إذ لا يسعى فقط إلى تغيير بنية النظام
العالمي، بل أيضاً يرمي إلى إيجاد ترتيبات جديد للأمن العالمي أو بالألفاظ نفسها
التي استخدمها نائب بوتين: إعادة هندسة للأمن العالمي؛ فماذا يعني هذا المفهوم؟
الأمن العالمي:
وأحياناً يطلَق عليه الأمن الدولي، وأيضاً الأمن الجماعي.
وتعرِّف مؤسسة راند الأمن العالمي بأنه:
«التدابير
العسكرية والدبلوماسية التي تتخذها الدول والمنظمات الدولية لضمان السلامة والأمن
المتبادل في جميع أنحاء العالم».
ولكن التعريف الذي استخدمته الموسوعة السياسية يبدو أكثر وضوحاً، فهو يعتمد في
النهاية على القوة الرادعة للجماعة الدولية على فرضية أن الهجوم ضد أي أحد هو هجوم
على الجميع.
فالأمن الدولي يرتبط بالأمن الجماعي لدول العالم مجتمعة، ومن أجله وللسعي للحصول
عليه وتحقيقه في الواقع جرى إنشاء مجلس الأمن الدولي، ليكون أحد أهم وأخطر مؤسسات
الأمم المتحدة، وهو التنظيم الدولي الذي نشأ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
وحين نقول أخطر فلأنه أعطى القوى الخمس الكبرى التي قادت الانتصار في الحرب
العالمية، الحق في العضوية الدائمة، وهي أيضاً التي لها حق الفيتو أي اعتراض وتعطيل
أي قرار لمجلس الأمن لا يناسب مصالحها.
والأمن الدولي يختلف بطبيعة الحال عن الأمن القومي أو الوطني، وهو الذي تختص به كل
دولة على حدة وبه تحدد تأثيره على مصالحها.
ارتبط دائماً مفهوم الأمن الدولي بالجوانب العسكرية والاستخبارية، ولكن مع انتهاء
الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي والصعود الأمريكي ومنذ مطلع تسعينيات القرن
الماضي، توسع مفهوم الأمن الدولي ليشمل أبعاداً جديدة؛ فالتهديدات والمخاطر التي
تواجه المجتمعات والدول لم تعد بالضرورة ذات طابع عسكري مع تضاؤل الحديث عن مخاطر
الحروب النووية، بل اتسع نطاقها وتنوعت في مجالاتها لتشمل تهديدات ذات طبيعة
اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية وثقافية، لا تقلُّ أهمية عن التهديد العسكري.
كذلك برز عنصر جديد أيضاً للأمن العالمي بعد الحرب الباردة، وهو ما يتعلق
بالتهديدات التي تقابل الأفراد وليس الدول؛ فمع تراجع عدد الحروب بين الدول ازدادت
وتيرة الحروب الأهلية التي يمكن أن تصل إلى مرحلة الإبادة الجماعية كما حدث في
رواندا، كذلك ازدياد وتيرة الأوبئة ومخاطر العولمة والنقص في موارد أو إمدادات
الطاقة والتكنولوجيا والغذاء، وغيرها من التحديات التي باتت تهدد حياة الناس أكثر
من حروب زمن الحرب الباردة التقليدية.
لذلك برزت الحاجة لصياغة جديدة لمفهوم الأمن الدولي أو العالمي، لتصبح الحاجة
لتوفير الأمن للشعوب والأفراد أكثر من الحاجة لتوفيره للدول والحكومات.
ولكن مع وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، أي بعد انقضاء ما يقرب من عقد
من انتهاء الحرب الباردة، تبيَّن أن الحديث عن الأمن الدولي والعالمي والنقاشات
التي أجريت حوله لم تكن إلا حوارات فلسفية وتهويمات حالمة لا تمتُّ للواقع بِصِلة؛
إذ تحول الحديث من الأمن الإنساني إزاء حروب الإبادة الجماعية والأوبئة والمجاعات
واللاجئين والجريمة الدولية... إلى التركيز على التهديدات الإرهابية، وبات مصطلح
الإرهاب هو الشغل الشاغل لخبراء الأمن الدولي، والذي يقصد في معظم استخداماته
مقاومة المسلمين لعقود الذل والهوان من الشرق والغرب.
الخلاصة مما سبق: أن الأمن الدولي يفترض به أن يمنع المجتمع الدولي ممثلاً في
المنظمة الدولية أي تهديدات أمنية تتعرض لها دولة أو منطقة، هذه التهديدات قد تكون
تهديدات عسكرية كحالة استباحة دولة لدولة أخرى، أو حرباً أهلية بين مكونات الدولة
الواحدة يتعرض فيها الأفراد لمذابح جماعية، أو مجاعة وكوارث إنسانية أخرى.
وفي حالة حرب أوكرانيا، ينظر طرفا الصراع للأمن الدولي بمنظور مختلف؛ فأوكرانيا
والغرب يرون أن الأمن الدولي في خطر نتيجة اعتداء روسيا على أرض دولة أخرى، في حين
تنظر روسيا على أنها قامت بعملية عسكرية داخل أوكرانيا لإيقاف تهديد محتمل لأمنها
من تمدد حلف الناتو المعادي إلى جوارها الجغرافي، وهي لن تسمح بذلك، ويكفي أن نعرف
أن حدود أوكرانيا تبعد عن موسكو 490 كيلو متراً فقط.
نظام دولي جديد:
إذا كانت روسيا تنظر لتهديدات تنال من الأمن العالمي من جراء حصار الناتو لها
جغرافياً، وليس غزو أراضيها، فهذا مرجعه إلى أن روسيا تنظر لنفسها على أنها قوة
عالمية تتطلع على الأقل إلى المساواة مع القوى الكبرى الأخرى في نظام دولي متعدد
الأقطاب، بديلاً عن الهيمنة الأمريكية التي سادت العالم منذ انهيار الاتحاد
السوفييتي في بداية تسعينيات القرن الماضي.
فمع نهاية التسعينيات وصل بوتين لحكم روسيا، وجعل همَّه استعادةَ روسيا مكانتها
اللائقة تاريخياً وجغرافياً.
رسم بوتين إستراتيجية تتكوَّن من مسارين رئيسين: مسار السيطرة الداخلية، ومسار
الصعود في سلم النظام الدولي.
أولاً: مسار السيطرة الداخلية
كانت ثلاثية الهوية والأمن والاقتصاد بمثابة الدعائم الثلاث التي حاول بها بوتين
السيطرة على الوضع الداخلي لروسيا تمهيداً لاستعادة الهيمنة العالمية أو الدخول في
نادي الأقوياء الدولي.
اعتمد هذا المسار أولاً على تأجيج هوية جديدة للروس، فكما ذكر الباحث غراهام فولر
نائب رئيس هيئة الاستخبارات الوطنية الأمريكية السابق أن روسيا تعاني من أزمة هوية
منذ سقوط الاتحاد السوفييتي؛ فكيف تستعيد موقعها في أن تكون قوةً ذات تأثير كبير في
العالم حتى مع عدم امتلاكها أي شيء سوى القوة العسكرية الكبيرة؟
ولكن بوتين نجح في جعل الشعب يلتف حول الدولة مرة أخرى، حول هوية جديدة تقوم على
مزج التاريخ القيصري والتاريخ السوفييتي في روسيا والعقيدة الأرثوذكسية، هذه الهوية
من خصائصها كره الغرب الأوروبي والأمريكي والشعور بالتفوق وليس بالدونية ومن ثَمَّ
التحدي، وأنهم يستحقون السيطرة على العالم أو على الأقل إعادة الاعتبار إلى روسيا
وموقعها بين القوى الدولية العظمى. باختصار حاول بوتين إعادة النزعة الإمبراطورية
التي يميل إليها الشعب الروسي عبر تاريخه.
نجح بوتين تدريجياً في حشد الروس من حوله وأصبح حكمه مرتبطاً بشكل كبير بالغزو كما
حدث في الحملة العسكرية على سوريا وليبيا وغيرها، برغم أن هذه الحملات تخدم أهدافاً
إستراتيجية أخرى.
ثم خطا بوتين خطوة أخرى في المسار الداخلي من خلال الإمساك بخيوط السلطة مع
الاحتفاظ بديمقراطية مبرمجة بواسطة جهاز أمني قوي والإطاحة بأي رمز من رموز
المعارضة سواء بالسجن أو الاغتيال، وبفضل هذه السياسة وخبرته في العمل المخابراتي
نجح بوتين سريعاً في تحقيق الاستقرار الداخلي.
وفي خطوة متوازية على الصعيد الاقتصادي حاول بوتين الارتقاء بالاقتصاد الروسي
الضعيف، وعند مقارنة بالاقتصاد الروسي قبل مجيء بوتين نجد قفزة كبيرة حدثت في
الاقتصـاد الروسي، وفي مايو من عام 2018م، وقَّع بوتين ما يُعرَف بمرسوم التنمية
الإستراتيجية للاتحاد الروسي حتى عام 2024م، وفي إطار المرسوم تم تكليف رئيس
الحكومة بخفض مستوى الفقر في البلاد إلى النصف ورفع مستوى الدخل الحقيقي للمواطنين
وتحسين مستوى السكن وظروفه لما لا يقل عن خمسة ملايين عائلة سنوياً، إضافة لمحاولة
تحقيق حلم دخول روسيا إلى قائمة الاقتصادات الخمسة الأولى في العالم. ويحتل
الاقتصاد الروسي خلال العام الحالي (2022م) المرتبة الـ 11 عالمياً بحسب تصنيفٍ
نشرَه موقع
Statistics Times.
ثانياً: مسار السياسة الخارجية
دائماً تسلك القوى الراغبة في الصعود عالمياً ليكون لها دور مؤثر في تشكيل النظام
الدولي، ثلاث مراحل:
ففي المرحلة الأولى تحاول إنهاء مشاكلها مع القوى الإقليمية والدولية والجيران من
الدول، فيما يطلق عليها أحمد داود أوغلو تصفير المشاكل.
أما المرحلة الثانية فهي التحرك نحو ملء الفراغات السياسية التي تتركها القوى
الدولية، لتوجد أو تصنع أوضاعاً جيوسياسية جديدة على الأرض.
أما المرحلة النهائية فهي مرحلة المبادرة والاصطدام المدروس لتوجد مكانها بين القوى
الكبرى على قدم المساواة إن لم تكن القوة الكبرى المهيمنة.
وسار بوتين على هذه الخطوات، ففي البداية جاءته فرصة هجمات سبتمبر، فسارع ليكون من
أوائل زعماء العالم الذين اتصلوا ببوش ليعرض عليه التعاون.
يقول الباحث الألماني والخبير في الشأن الروسي الدكتور بيتر شولتسه: لقد دفعت هجمات
الحادي عشر من سبتمبر روسيا إلى لوبي النخبة السياسية الدولية بسرعة بعد أن كانت
قبل ذلك تراوح على هامش السياسة الدولية. ولكن منذ ذلك الوقت فهم الغرب أن كثيراً
من الصراعات الدولية لا يمكن حلها من دون دور روسي.
وجاءت المرحلة الثانية التي حاولت فيها روسيا التحرك في الفراغ الحاصل في أي منطقة
واستغلال الأزمات، واستمر بوتين في مسعاه التوافقي. فقد تخلى عن محاولات روسيا
التوازن مع الصين وأمريكا وأبدى مرونة في موضوع شبكة الدفاع الصاروخي الأمريكية
الجديدة، كما وافق بوتين على التعاون في مشروع خط الأنابيب بين باكو في أذربيجان
وميناء جيهان التركي وهو المشروع الذي طالما رأته روسيا مشروعاً تنافسياً.
وترى الباحثة آنا بورشفسكايا في معهد واشنطن أن بوتين ينظر إلى الدبلوماسية على
أنها لعبة لا رابح فيها ولا خاسر، ويسعى للحدِّ من النفوذ الغربي من خلال استغلال
الفجوات التي يتركها الغرب.
استغل بوتين الفراغ الحادث في سوريا نتيجة إحجام أمريكا عن التدخل على الأرض بعد
عقدة العراق وأفغانستان، وكذلك التردد التركي ليرسل بوتين قواته لملء الفراغ بحجة
محاربة الإرهاب وداعش، وفعل الشيء نفسه في ليبيا باستخدام الفاغنر.
ثم تأتي الخطوة الأخيرة وهي مرحلة الصدام ومناكفة القوى الدولية لتثبيت روسيا قوة
عظمى، فكان غزو أوكرانيا.
هنا يكمن التساؤل: هل تعجَّل بوتين بهذه المرحلة؟ أم أنها جاءت في سياق يستطيع فيه
بوتين تثبيت روسيا أخيراً كلاعب يستطيع تغيير النظام الدولي ليكون متعدد الأقطاب،
ويتمكن فيه من هندسة جديدة للأمن العالمي كما يزعم المسؤولون الروس؟
حتى الآن نستطيع أن نرصد ما جرى للأمن الدولي والنظام العالمي على النحو التالي:
بالطبع تبدو الصورة الظاهرة للعيان والأوضح أن هناك تهديداً قوياً للأمن الدولي
لاحتمالية أن يتطور الصراع لحرب نووية؛ فقد أظهر تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث
السلام (وهو أكبر معهد عالمي للشؤون والإحصائيات العسكرية) نُشر في 13 يونيو
الحالي، أن عدد الأسلحة النووية في العالم سيرتفع في العقد المقبل بعد 35 عاماً من
التراجع، نتيجة الحرب الروسية في أوكرانيا.
وإذا استخدمنا مفهوم الأمن الدولي بأنه أمن الأفراد، نجد أن الخسائر التي نتجت عن
الحرب في أوكرانيا، والتي وثَّقتها الأمم المتحدة في بيان لها بعد مائة يوم من
الحرب جاءت على النحو التالي:
فقد أُجبر نحو 14 مليون أوكراني على مغادرة منازلهم، نصفهم تقريباً تركوا أوكرانيا
إلى دول أخرى، معظمهم نساء وأطفال، كما قتل 4.253 رجلاً وامرأة وطفلاً من المدنيين،
وأصيب أكثر من خمسة آلاف شخص بجراح.
أما مِن العسكريين، فوفق بيانات محايدة فإنه قتل ما يقرب من ١٠ آلاف إلى ١٥ ألف
عسكري أوكراني، ويبلغ العدد نفسه تقريباً من الروس، وإن كانت البيانات الصادرة عن
كلا الطرفين تعطي أرقاماً مغايرة تهوِّل من خسائر الطرف المعادي وتقلل من جانبها.
وعلى الجانب المقابل فإن اجتناب خـوض الحروب لا يتوقف عند قوَّتها التدميرية أو
تكاليفها فقط؛ ذلك أن عمليات الحصار في بعض الأحيان على القدر نفسه من الدموية
والتكلفة.
وبالنظر إلى العقوبات التي فرضها الغرب والولايات المتحدة الأمريكية على روسيا، منذ
تفجُّر النزاع مع أوكرانيا، نجد أنها غير مسبوقة من حيث الشمولية ومن حيث التأثير
والتبعات المستقبلية بعيدة المدى، يضاف إليها الحصار بأشكاله المتعددة، سياسياً
ودبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً.
أما عالمياً فقد كانت كارثة نقص إمدادات الحبوب تطلُّ برأسها، وتنذر بعواقب وخيمة
خاصة على الشعوب الفقيرة التي تعتمد بشكل أساسي على القمح والذرة في طعامها.
فهذه المآسي تمثل تجلياً لما نتج عن هذه الحرب من تدهور للأمن الإنساني والعالمي،
فصحا العالم على تلك المآسي، وربما ذكَّرته بأن هناك شعباً في سوريا عانى وما يزال
يعاني من أضعاف تلك المآسي، ولكنه يغض الطرف عنها لأن هوية هؤلاء هي الإسلام.
فهل صدق نائب بوتين عندما قال إنه تجري من خلال عملية أوكرانيا هندسة للأمن
العالمي؟
أم هي بالفعل مذبحة جديدة لهذا الأمن؟
وعلى صعيد النظام الدولي فهناك توقع من جانب روسيا صُرِّح به في مقال نشره منذ أيام
المجلس الروسي للشؤون الدولية لمستشار الرئاسة الروسية ألكسندر كرامارينكو وهو أحد
المقربين من بوتين، يتوقع فيه أنه سترسم صورة جديدة لأوروبا والعالم... كيف؟
بالنسبة لأمريكا فسوف تجري مراجعة جذرية لبنيتها العسكرية بأكملها، التي تطورت بعد
الحرب العالمية الثانية، والتي لم تصمم لإجراء عمليات قتالية مع عدو له القوة نفسها
والمعدات التكنولوجية، وفي جبهتين في الوقت عينه. لقد انتهى زمن (السفاري) الأمريكي
كما يقول كرامارينكو، ولن يرغب أحد في احتمالية محاربة الروس والصينيين في آن معاً،
فقد ولَّى زمن مجموعات حاملات الطائرات الضاربة وبات من الماضي... إن محاولة الحرب
في جبهتين ستؤدي إلى الهزيمة في كلتا الجبهتين (انظر تجربة ألمانيا في حربين
عالميتين). ولا يستطيع الأمريكيون الاتفاق مع بكين من دوننا. إجمالاً، سيؤثر ذلك
فيما كان أُطلِق عليه سابقاً سياسات القوى العظمى وتوازن القوى.
وتوقع المستشار الروسي أنه سيكون هناك تهميش متصاعد للغرب في السياسة العالمية مع
زيادة حادة في تأثير البلدان الأخرى، ولا سيما المناطق الرائدة التي ستستثمر
مواردها بعيداً عن النفوذ الدولي. وسيتكثف الاتجاه نحو أقلمة السياسة العالمية
وإعادة صياغة العولمة على أساس جماعي حقيقي مع مراعاة التوازن الجديد للقوى.
أما التوقع الغربي لتأثير حرب أوكرانيا على النظام الدولي، فقد عبَّر عنه جيمس
لاندال مراسل الشؤون الدبلوماسية في موقع بي بي سي، إذ يقول: إن الولايات المتحدة
والمملكة المتحدة وجزءاً كبيراً من دول أوروبا الشرقية سيعارضون أي نجاح روسي، إذ
يرى ساسة هذه الدول أن الغزو الروسي يجب أن يفشل من أجل أوكرانيا والنظام الدولي.
وهذا ما يراه أيضاً توماس فريدمان الكاتب المخضرم بصحيفة (نيويورك تايمز) في مقال
له استهله بحقيقة وصفها بالمفاجئة، وهي أن الأمريكيين الذين لا يبدو أنهم متفقون في
الوقت الحالي على أي شيء؛ أظهروا بغالبيتهم وبشكل مستمر أنهم يؤيدون تقديم مساعدات
اقتصادية وعسكرية سخية لأوكرانيا في حربها ضد سعي (الرئيس الروسي) فلاديمير بوتين
لمحوها من الخريطة.
إذن نرى صراعاً بين أمريكا وروسيا، أمريكا التي تريد الحيلولة دون الصعود الروسي
بجرِّها إلى مرحلة الصدام قبل أوانه، وقبل أن يصل استغلالها وتمددها في الفراغ
العالمي منتهاه، وعلامة النجاح الأمريكي في ذلك هي الانسحاب الروسي من سوريا وليبيا
وغيرهما من مناطق المصالح الغربية، وهذا لم يحدث حتى الآن، مع العلم أن أمريكا لا
تطمح إلى إنهاء الدور الروسي عالمياً، ولكن فقط تجييره لصالح الهيمنة الأمريكية،
فهي تحتاج الدور الروسي للحدِّ من الدور الصيني المتصاعد.
أم ستنجح روسيا وتصبر على حالة الحصار الاقتصادي الغربي، وتصمد في أوكرانيا عسكرياً
وتُفشل سيناريو سقوط السوفييت في أفغانستان كما يخطط له الغرب؟
الحال الآن كما يقول فريدمان:
«أوكرانيا
مسرح لمبارزة بين مصارعين عملاقين، يحاول كل واحد منهما طرد الآخر خارج الحلبة ولا
يرغبان في الانسحاب، حتى مع العجز عن الانتصار».