تقارب الدب والتنين.. فصل جديد في الصراع العالمي

من الجانب الإستراتيجي وهو الأخطر؛ فقال بوتين: بالنسبة لعلاقاتنا الثنائية فهي تتطور بشكل واضح، بروح الصداقة والشراكة الإستراتيجية، واكتسبت صورة غير مسبوقة حقاً، وهي مثال على العلاقات الجديرة التي تساعد بعضها على التطور


«أسوأ سيناريو يمكن أن تتعرض له الولايات المتحدة الأمريكية هو تشكيل تحالف كبير بين الصين وروسيا».

هذا ما قاله الإستراتيجي الأمريكي الشهير ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبغينو بريجنسكي.

ويمضي بريجنسكي فيقول: «إن السياسة الأمريكية المعادية لروسيا والصين التي تنتهجها القيادة الأمريكية الحالية، والتي تعبِّر عن الأزمة الوجودية للنظام السياسي الأمريكي؛ إنما تدفع روسيا والصين إلى تحقيق هذا السيناريو الذي يُعدُّ الأسوأ للولايات المتحدة الأمريكية».

يكاد يُجْمِع من له صلة بالعلاقات الدولية أن النظام الدولي يمر بمرحلة انتقالية تحاول فيه بعض القوى الكبرى رسم شكل جديد لهذا النظام، في حين تريد القوة الأكبر في هذا النظام تجديد آليات تفرُّدها في قمة النظام، بعد أن بدا أن آلياتها القديمة قد أصابها العجز والشيخوخة.

وفي هذا الإطار ومنذ عدة أسابيع زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بكين لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، واجتمع بالرئيس الصيني شي جين بينغ.

ماذا جرى وعلى ماذا اتفق البلدان في هذا الاجتماع؟

تمخض الاجتماع عن تصريحات للرئيسين الروسي والصيني، وبعدها إعلان مشترك.

من الناحية الاقتصادية كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النقاب في تصريحاته عن اتفاقين جديدين في قطاع النفط والغاز مع الصين بقيمة 117.5 مليار دولار، ناتجة عن إبرام اتفاق جديد لتزويد الصين بعشرة مليارات متر مكعب سنوياً من الشرق الأقصى الروسي، فضلاً عن إمدادات الصين بالهيدروكربون.

ووَفْقَ حسابات أعدَّتها وكالة رويترز، فإن مبيعات الغاز وحدها قد تَدُر حوالي 37.5 مليار دولار على مدار 25 عاماً، على افتراض متوسط سعر للغاز يبلغ 150 دولاراً لكل ألف متر مكعب، حسبما أشارت شركة الغاز الروسية العملاقة غازبروم بخصوص صفقتها الحالية مع الصين، ويشرح المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف تفاصيل هذه الصفقة فيقول: إن الصفقة سارية لمدة 25 عاماً، في حين قال مصدر صيني بالقطاع: إنها لمدة 30 عاماً.

وقالت شركة الغاز الروسية غازبروم في بيان لها إنها تخطط لزيادة صادرات الغاز إلى الصين إلى 48 مليار متر مكعب سنوياً، بما في ذلك التي تضخُّ عبر خط الأنابيب الذي تم الاتفاق عليه، وسينقل 10 مليارات متر مكعب سنوياً من أقصى شرق روسيا.

وكما يقول تليفزيون ألمانيا دويتشه فيله: فإن الصفقة الروسية الجديدة مع بكين لن تسمح لموسكو بتحويل مسار الغاز المتجه إلى أوروبا، لأنها تشمل الغاز من جزيرة سخالين في المحيط الهادي، التي لا تتصل بشبكة خطوط الأنابيب الروسية الممتدة لأوروبا.

وعلى صعيد منفصل وقَّعت شركة النفط الروسية العملاقة روسنفت، التي يرأسها حليف بوتين منذ وقت طويل إيغور سيتشين، اتفاقاً مع سي إن بي سي الصينية لتوريد 100 مليون طن من النفط عبر كازاخستان على مدار عشر سنوات، وهو ما يمدد فعلياً صفقة قائمة حالياً. وقالت روسنفت: إن الصفقة الجديدة قيمتها 80 مليار دولار.

أما من الجانب الإستراتيجي وهو الأخطر؛ فقال بوتين: بالنسبة لعلاقاتنا الثنائية فهي تتطور بشكل واضح، بروح الصداقة والشراكة الإستراتيجية، واكتسبت صورة غير مسبوقة حقاً، وهي مثال على العلاقات الجديرة التي تساعد بعضها على التطور، وفي الوقت نفسه تدعم كلٌّ منها الأخرى. في حين أكد الرئيس الصيني شي جين بينغ التزام الصين وروسيا بتطوير العلاقات الثنائية على الرغم من الجائحة.

وأضاف الرئيس الصيني: الثقة السياسية والإستراتيجية المتبادلة بين بكين وموسكو مستمرة في النمو، وأكد الرئيس الصيني أن الصين وروسيا تعملان معاً لتطبيق تعددية حقيقية تكون بمثابة دعامة لتوحيد العالم في التغلب على الأزمات. واختتم بقوله: بالجهود المشتركة، يتم تنفيذ التعددية الحقيقية، والحفاظ على روح ديمقراطية حقيقية تكون بمثابة ركيزة موثوقة لحشد العالم في التغلب على الأزمات والدفاع عن المساواة.

أما في الإعلان المشترك أو الوثيقة فقد تكون من 31 بنداً في خمسة آلاف كلمة، وحمل البيان عنواناً ذا مغزى: (بيان مشترك بين الاتحاد الروسي وجمهورية الصين الشعبية بشأن العلاقات الدولية التي دخلت عصراً جديداً والتنمية العالمية المستدامة).

تكونت الوثيقة في شقها الأمني من أربعة موضوعات رئيسة:

الأول: دعا البلدان حلف شمال الأطلسي إلى التخلي عن نهجه المؤدلج الذي يعود إلى الحرب الباردة.

الثاني: التنديد بالتأثير السلبي لإستراتيجية الولايات المتحدة، ولكن في هذه المرة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على السلام والاستقرار في المنطقة، معبِّرين عن قلقهما من إنشاء تحالف أوكوس العسكري بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا.

الثالث: الإصرار على ضرورة إزالة الولايات المتحدة السريع لمخزوناتها من الأسلحة الكيماوية، وفي الوقت نفسه تقليص الاعتماد على ترسانتها النووية في سياساتها الأمنية وسحب كافة أسلحتها النووية المنتشرة خارج حدودها.

الرابع: أعرب البلدان عن معارضتهما لاستمرار تمدُّد حلف الناتو، وعبَّرا عن قلقهما من خطط واشنطن لتطوير نظام الدفاع الصاروخي العالمي ونشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى.

أي أن المحاور الأربعة تتعلق بوقف التدخل في منطقة نفوذ الصين ثم في منطقة نفوذ روسيا، وبعدها التخلي عن التهديد بالأسلحة غير التقليدية والصواريخ، وأخيراً الدعوة إلى نظام متعدد القوى.

ومن خلال تحليل مخرجات هذا الاجتماع بين روسيا والصين وما تمخض عنه من البيان المشترك الصادر، ومقارنة ذلك بتاريخ العلاقات بين البلدين، ثم بتطورات الصراع الدولي الجاري ومدى ارتباطه بما يحدث في أوكرانيا وتايوان، يمكننا فهم أبعاد التقارب الصيني الروسي الجديد ومحدداته.

ولكن قبلها يجب إدراك مفهوم مصطلح التحالفات عند علماء السياسة، الذين يعدُّونه ظاهرة حتمية تقتضيها طبيعة البيئة الدولية القائمة على تعدد القوى وتعدد السياسات، فالسياسة الخارجية لأي دولة تقوم على واحدة من أربع قيم: عدم الانحياز أو الحياد أو العزلة أو التحالف؛ فسياسة التحالف تعني الاعتماد على الأحلاف من حيث كونهم أداة من أدوات السياسة بهدف حماية الأمن القومي لهذه الدولة والدفاع عن مصالحها الوطنية.

ويتم تعريف التحالفات عموماً بأنها اتفاقيات أو تفاهمات رسمية أو غيـر رسـمية للتعـاون الأمني بيـن فاعليـن دولييـن أو أكثـر، بهـدف إدارة تغيـر توازنـات القـوى أو التهديـدات والفـرص القائمـة أو المحتملة أو المدركة، بمــا يحقــق مصالح هؤلاء الأعضاء.

والتحالفات على نوعين: تحالفات مستقرة وتحالفات غير مستقرة وهي الأكثر شيوعاً، والأخيرة أصبحت السمة الأبرز في نوعية التحالفات في العقود الأخيرة.

وتتعدد أنواع التحالفات غير المستقرة: فمنها التحالفات المرنة والتحالفات الهجينة وتحالفات القضية الواحدة وتحالفات تختص بتهديدات أمنية غير تقليدية.

ولكن الواقعية السياسية تقتضي أن تلك العلاقة التي يُطلَق عليها تحالف قد تكون من دول كبرى تشعر بِنِدِّية في التنافس فعندها يمكن تسمية تلك العلاقة بالتحالف، أو تكون من دول بعضها دول كبرى والأخرى غير ذلك فتكون أقرب إلى التبعية منها للتحالف.

ولذلك يفرِّق خبراء العلاقات الدولية بين الكتلة والحلف، فالكتلة ﺗﻤﺜﻞ ﺣﻠﻔﺎً ﻋﺴكرﻳﺎً ﻳﻌﻤﻞ ﺗﺤت زﻋﺎﻣﺔ دوﻟﺔ قوﻳﺔ يأﺗمر ﺑﺄمرﻫﺎ ويمثل حلفاً عسكرياً دائماً، أﻣﺎ اﻟﺤﻠﻒ فهو ﻳﻤﻴﻞ إلى إﻳﺠﺎد تكافؤ بين اﻷﻋﻀﺎء ويكون مؤقتاً، وهذا ما يبدو عليه التحالف الحادث الآن بين روسيا والصين.

الصين وروسيا تاريخ من التحالفات والعداوات:

في عام 1949م استولى الشيوعيون بزعامة ماو تسي تونغ على السلطة في الصين، وعلى إثر هذا الانتصار تشكل تحالف طبيعي بين البلدين الشيوعيين الرئيسيين، الاتحاد السوفييتي والصين، في مواجهة الغرب الرأسمالي.

ولكن في عام 1961م انهار هذا التحالف وعَزَت الصين سبب انهياره إلى اختلاف فهم الشيوعية في كلٍّ من البلدين، في حين أرجعه بعض المحللين لتضارب المصالح بينهما.

هذا الفراق بين القوتين الشيوعيتين الأكبر في العالم، يعطينا محدداً هاماً لطبيعة العلاقات المتذبذبة بينهما، وهي أن الأساس لهذه العلاقات ليست الأيديولوجيا أو العقيدة السياسية أو الفكر ولكنها المصالح السياسية والإستراتيجية.

ثم عادت العلاقات للتحسن بشكل كبير بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وتأسيس الاتحاد الروسي عام 1991م، إذ تم تحديد الحدود الطويلة المشتركة بينهما، وبدأ تقارب فعلي عام 1992م بين البلدين وأعلنا أنهما يسعيان إلى شراكة بنَّاءة، وفي عام 1996م تقدما نحو ما عُرف حينها بالشراكة الإستراتيجية؛ حتى عام 2001م حين وقَّعت كلٌّ من الصين وروسيا معاهدة (صداقة وتعاون).

ومنذ عام 2012م أجرى البلدان مناورات عسكرية مشتركة فضلاً عن التقارب الاقتصادي وتنسيق المواقف السياسية حيال مختلف القضايا الدولية، وخلال المدة من يناير 2021 إلى نوفمبر 2021م، زادت نسبة التبادل التجاري بين البلدين بمقدار 31% لتصل إلى 123 مليار دولار، ويهدف البلدان إلى رفعها إلى 200 مليار دولار.

ولكن مع تقدم الصراع الدولي بدأ الاقتراب بين القوتين يأخذ شكلاً أكثر جدية.

فما هي المعطيات التي دفعتهما إلى هذا التقارب الذي يطلِق عليه بعض المحللين: تحالفاً؟

بين القطب الواحد وتعدد الأقطاب:

منذ انهيار الاتحاد السوفييتي مع مطلع تسعينيات القرن الماضي أي منذ حوالي أكثر من ثلاثين سنة، تنفرد الولايات المتحدة الأمريكية بقمة النظام العالمي.

قبل هذه الحقبة طورت أمريكا ثلاث آليات مكَّنتها من بسط نفوذها في العالم وهي: مؤسسات اقتصادية دولية، ومنظمات أمنية إقليمية، ومعايير سياسية ليبرالية، وبفضل تلك العوامل حافظت الولايات المتحدة على تفوُّقها وتربُّعها في عرش النظام الدولي.

ولكن في السنوات الأخيرة ومع مرور الوقت وبالتدريج، بدا أن تلك الآليات أصابها الضعف وعوامل الشيخوخة المبكرة، فضلاً عن تحدي القوى الكبرى وحتى القوى الإقليمية للاستفراد الأمريكي، فعملت تلك القوى على إضعاف الآليات الأمريكية الثلاث في محاولة لإنزال الأمريكان من عرش النظام الدولي.

وزاد الأمر سوءاً بالنسبة لأمريكا صعود اليمين الأمريكي للرئاسة، فأدخل أو ورَّط البلاد في حربين فاشلتين في أفغانستان والعراق في عهد بوش الابن، ثم جاء عصر ترامب الذي فعل نقيض بوش بمحاولته فرض عزلة أمريكية عن الصراع العالمي لتجنيب أمريكا مزيداً من الخسائر الاقتصادية ولكنه ألحق بها مزيداً من الخسائر الإستراتيجية على صعيد الهيمنة والتفرد.

ويعترف المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما في مقالة له في مجلة ذا إيكونومست البريطانية، بأن الاستقطاب في المجتمع الأمريكي قد أثَّر على السياسة الخارجية بشكل مباشر؛ فخلال سنوات حُكْم أوباما اتخذ الجمهوريون موقفاً متشدداً وهاجموا الديمقراطيين بسبب سياسة إعادة ضبط روسيا وسذاجتهم فيما يتعلق بالرئيس بوتين، ولَـمَّا جاء الرئيس السابق دونالد ترامب قَلَبَ الطاولة باحتضانه بوتين علناً، واليوم يعتقد معظم الجمهـوريين تقريباً أن الديمقـراطيين يشكلون تهديداً أكبر من روسيا على أسلوب الحياة الأمريكية.

ومنذ ما يقرب من عام، وصلت إدارة جو بايدن إلى سدة الرئاسة، فشرعت في ترميم مكانة الولايات المتحدة الإستراتيجية.

لقد وجدت إدارة بايدن أن أكثر قوتين تحاولان منع استمرار التفرد الأمريكي هما الصين وروسيا، فعملت تلك الإدارة على الانسحاب من جميع القضايا والمناطق التي كانت تتمدد فيها أمريكا حتى يتم التركيز على مواجهة التحدي الأكبر القادم من روسيا والصين، وفي الوقت نفسه شرعت في تفعيل تحالفات جديدة وترميم تحالفات سابقة.

ففي مواجهة روسيا أعاد بايدن بناء الفاعلية لحلف الناتو بعد أن تصالح مع أوروبا التي تضررت علاقتها بأمريكا في حقبة ترامب، ولمواجهة الصين شرع في بناء تحالفين جديدين في آسيا: وهما أوكوس وأكواد.

فأوكوس هي شراكة أمنية بين أمريكا وأستراليا وبريطانيا لتبادل تقنيات عسكرية متقدمة في محاولة لمواجهة النفوذ الصيني، وستُمكن هذه الشراكة أستراليا، للمرة الأولى، من بناء غواصات تعمل بالطاقة النووية، كما ستغطي مجالات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الكمية والإنترنت.

أما تحالف أكواد فهو الأخطر؛ إذ يضم أربع دول هي الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا، وهو تحالف عسكري في مواجهة الصين تم تفعيله العام الماضي، وبلغت درجة خطورته على الصين إلى حدِّ أن صحيفة غلوبال تايمز - وهي بوق الحزب الشيوعي الصيني - قد كتبت مهددة هذا التحالف الرباعي بالنص: «عصابة شريرة أعضاؤها أربعة زملاء في مستشفى مصابون بأربعة أمراض مختلفة، وسوف يصبحون وقوداً للمدافع إن تجرؤوا على مهاجمة الصين».

ولإدراك الولايات المتحدة تأثير هذا التحالف، فقد بادر وزير الخارجية الأمريكية بلينكن بالاتصال بنظرائه في هذه الدول الأربعة، فور الإعلان عن الشراكة الصينية الروسية في أعقاب زيارة بوتين لبكين.

ومثلما تُعدُّ أوكرانيا أداة ضغط إستراتيجية على روسـيا، كذلك تتخذ أمريكا من تايوان أداة للضغط على الصين.

ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً، هو: لماذا هذا التصعيد بين بايدن وبوتين حول أوكرانيا في هذا التوقيت؟

لماذا يواجه بايدن القوتين الكبيرتين في الوقت نفسه؟ وهل كان من الأفضل تأجيل مواجهة القوة التي تشكل تهديداً أقل ويتفرغ لمواجهة التحدي الأكبر؟

هل ما يفعله بايدن هو عكس لنظرية نيكسون وكيسنجر اللذَين سعياً إلى جر الخصم الأقل خطورة إليهما زمن الحرب الباردة، وكان الأقل قوة حينها الصين، وذلك بهدف التصدي بشكل أفضل للمنافس الأكبر وهو الاتحاد السوفييتي.

كان من المنطقي - والولايات الأمريكية في الوقت الحاضر تصنِّف الصين على أنها منافس أكبر لها على الزعامة العالمية - أن تكرس إستراتيجيتها الكبرى في سبيل احتواء الصين والحيلولة دون صعودها في النظام الدولي، كان من الأولى لها ألَّا تصعد مع روسيا وخطورتُها أقل بالنسبة للصين؛ فلماذا صعَّدت أمريكا مع روسيا بدلاً من أن تتحالف معها في مواجهة العدو الآخطر بالنسبة لها؟

هناك عدة تفسيرات لذلك:

يرى المحلل السياسي الروسي ألكسندر نازاروف في موقع تلفزيون روسيا اليوم: إنه - وَفْقاً لخطة واشنطن، خلال الصراع الأمريكي الصيني القادم - يجب ألَّا تكون أوروبا محايدة تجاه الصين، وأن تكون في أكبر صراع ممكن مع روسيا، وأن تضطر إلى أن تقاتل على أكبر عدد ممكن من الجبهات، ولكن ليس مباشرة مع الولايات المتحدة، حتى لا تشتت قوَّتها في المواجهة مع الصين.

بل وصل الأمر إلى ما يقوله مدير معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية في باريس باسكال بونيفاس، من أن الولايات المتحدة تسعى إلى التقارب الصيني الروسي، على اعتبار أنه يسمح بتشكيل جبهة موحدة للديمقراطيات في مواجهة محور البلدان غير الديمقراطية. فإدارة بايدن تستغل التقارب الصيني الروسي ليكون له جانب تنفيري بالنسبة لبعض الديمقراطيات في هذا التقارب.

وما يدعم هذا الاتجاه، أنه في ذروة الصراع على أوكرانيا نجد إصرار بايدن على أنه لن يتدخلَ عسكرياً لمساندة أوكرانيا إذا هاجمتها روسيا عسكرياً، وكأنه يصدِّر المواجهة مع روسيا بعد أن صعَّدها إلى أوروبا وأطراف أخرى مثل تركيا، لتتولى هي احتواء الدب الروسي بدلاً منه حتى تتفرغ أمريكا للمواجهة مع الصين.

في حين هناك اتجاه آخر يرى أن التصعيد في أوكرانيا الذي أعقبه التحالف مع الصين إنما هو مفتعَل من جانب بوتين، مستغلاً الانشغال الأمريكي بالصين للحصول على مكاسب من أمريكا تتمثل في منع تمدد الناتو إلى الحدود التي تشكِّل خطورة على الأمن القومي الروسي، فحدود أوكرانيا تبعد عن موسكو 490 كيلو متراً فقط، كما يريد بوتين الاعتراف الأمريكي بمنافذه التي استولى عليها مؤخراً في البحر الأبيض متمثلة في ميناء طرطوس السوري وميناء بنغازي الليبي.

مستقبل التقارب الصيني الروسي:

كما أسلفنا، يمكن تصنيف التقارب الصيني الروسي بالتحالف المؤقت الذي يهدف إلى غاية محددة، وهي مواجهة محاولة الاحتواء الأمريكي لهما ومنع أمريكا من الانفراد بالهيمنة.

ويبقى السؤال: ما هي آليات وإستراتيجيات ذلك التحالف في تلك المواجهة؟

وهل ستنجح هذه الآليات في تحدي أمريكا والحدِّ من نفوذها ولجمها، وتحويل النظام الدولي إلى نظام متعدد القوى؟

ترتكز آليات المواجهة التي يمكن للحلف الصيني الروسي استخدامها، على نزع الأوراق التي تضغط بها أمريكا عليهما أو على الأقل تحييدها؛ وخاصة في جانبي الاقتصاد والأمن، وقد فصَّلنا التعاون الاقتصادي الروسي الصيني عند تحليلنا لخطابات بوتين وللبيان المشترك الصادر عن لقاء بكين وبقي الحديث عن التعاون العسكري.

فمن الناحية العسكرية بدأت الدولتان منذ عدة أشهر - في شهر أكتوبر الماضي تحديداً - القيام بدوريات عسكرية بحرية في غربي المحيط الهادئ، وذلك بعد أن نفَّذتا من قبلُ مناورات عسكرية في بحر اليابان، الأمر الذي عدَّته وزارة الدفاع اليابانية تحركات غير عادية، وكان من الملفت للنظر ما أعلنته حينها وزارة الدفاع الصينية من أن التدريبات المشتركة كانت تهدف إلى «مزيد من تطوير الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين الصين وروسيا في المرحلة الجديدة وتعزيز قدرات العمل المشترك للطرفين والحفاظ بالشراكة على الاستقرار الإستراتيجي الدولي والإقليمي»

وفي الشهر الماضي أجرت الدولتان مناورات عسكرية مشتركة مع إيران في المحيط الأطلسي وبحر عمان، ويعكس البيان الصادر عن وزارة الدفاع الروسية كثيراً من المدلولات؛ فقد أشار إلى أن الاتجاه الرئيسي للمناورات هو التدريب على إجراءات القوات البحرية والقوات الجوية لحماية المصالح الوطنية الروسية في المحيطات، وكذلك لمواجهة التهديدات العسكرية ضد روسيا من المحيطات.

ولكن هل تنجح هذه الآليات - سواء الاقتصادية أم العسكرية - في مواجهة الضغوط الأمريكية على البلدين، ومن ثَمَّ إنهاء التفرد الأمريكي في قمة النظام الدولي؟

يبدو أن الأمر لم يُحسم بعدُ في ظل الإصرار الأمريكي الشديد على احتواء القوتين الكبريين، وفي ظل توسيع الولايات المتحدة لمنطقة الصراع، وجعلها لا تقتصر على الحدود الجغرافية القريبة من الدولتين، بل تشمل معظم مناطق العالم تقريباً في أوروبا وآسيا وإفريقيا والشرق الأوسط.

وفي ظل حشد أمريكا لقوَّتها ليس العسكرية والاقتصادية فقط، بل التكنولوجية والإعلامية والنفسية والفكرية أيضاً.

 


أعلى