انتخابات تشرين ودور جديد للعراق

الأحزاب الشيعية صاحبة الولاء الإيراني نظمت نفسها في تنسيقية رافضةً النتائج ودَعَت إلى التظاهرات والاعتصامات لكنها تعلم أيضاً أنها باتت منبوذة من جموع الشعب العراقي شيعته وسنته على السواء


من غير الممكن فهم نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة إلا من خلال سردية الاحتجاجات والانتفاضة العراقية التي اجتاحت العراق العام الماضي، والتي بلغت من القوة أن أطاحت برئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، إذ باتت الحكومة العراقية حينها مهددة بشكل كامل، والسلطة في مهب الريح، فكانت استقالة رئيس الوزراء محاولة لامتصاص غضب الشارع الذي كان من مطالبه أيضاً إخراج إيران من العراق؛ وقد أشعل متظاهرون خلالها النار في  القنصلية الإيرانية بمدينة النجف وحاصر الشيعة العراقيون مقرات الأحزاب الشيعية الموالية لطهران وأحرقوها، حتى عنونت الصحـف الغربية وقتها بـ «جدار طهران يسقط في العراق»، كما نُقِل عن الصحفي البريطاني المتخصص بشؤون الشرق الأوسط (باتريك كوكبيرن) قوله: إن حرق القنصلية الإيرانية في مدينة كربلاء التي يؤمها الملايين من الشيعة سنوياً إضافة إلى ما حدث في النجف «يعدُّ مؤشراً بارزاً على تخلي الشيعة العراقيين عن أي شعور بالتضامن الديني مع إيران باعتبارها دولة شيعية».

كانت مطالب الثوار العراقيين تتلخص في تحسين الأحوال المعيشية، وفك الارتباط الولائي بين القوى السياسية العراقية وإيران، وحصر السلاح بيد الدولة، وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة خالية من التزوير تعكس إرادة الشعب بشكل واضح.

هذه الموجة السياسية دفعت رئيس الوزراء الحالي مدير المخابرات السابق (مصطفى الكاظمي) إلى سدة الحكم، وبعد عام على تلك الانتفاضة الشعبية لم يتحقق في الواقع إلا هذه الانتخابات الأخيرة.

ما نجح الكاظمي في تحقيقه من جملة تلك المطالب هو تأجيل حالة الصراع بين الدولة والميليشيات المسلحة الإيرانية، وإجراء الانتخابات الأخيرة التي ما إن ظهرت نتائجها حتى بدت بوادر انفجار الصراع مرة أخرى، تلك الدولة التي يهمن عليها الشيعة، والذي لم يفهمه العراقي الشيعي: لماذا تحتاج إيران لأذرع مسلحة تُرهب العراقيين وتمتص خيراتهم وترسل بها إلى طهران وترهن العراق بأكمله طبقاً لأجندتها السياسية؟

لقد أدرك المواطن العراقي بعد عقود من تسلط الأحزاب الموالية لطهران أن إيران دولة عنكبوتية خبيثة تبث سمومها، وما شعاراتها إلا محاولة لخداع الشعوب وليست الطائفية إلا أداة مخادعة لا أكثر ولا أقل... وإلا فأي دولة حقق الشيعة فيها حالة من الرفاه الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي؟ بل ما حلت طهران بأذرعها في أرض إلا مزقت شعبه كلَّ ممزق حتى لو كان هذا الشعب شيعياً.

في الجهة المقابلة فإن رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر يعلم هذا المزاج الشعبي المتأزم، لذلك صرح فور ظهور النتائج الأولية التي أعلنت فوزه بهذه الانتخابات بأنه «آن للعراقيين أن يعيشوا بأمان بلا احتلال ولا إرهاب ولا ميليشيات تخطف وتروع وتنقص من هيبة الدولة». وأنه «لن يسمح بالتدخلات على الإطلاق» ودعا إلى  حصر السلاح بيد الدولة، ومنع استخدامه خارج هذا الإطار، وإن كان ممن يدَّعون المقاومة.

تصريحات دغدغ بها المشاعر الشعبية للحصول على مساحة سياسية وحاضنة مجتمعية أكبر، لأنه يعلم أن تلك التصريحات كانت شعارات انتفاضة تشرين الماضي التي جذوتها ما زالت مشتعلة تحت الرماد. لكن هل يُمَكَّن من تشكيل حكومة بهكذا أهداف سياسية؟ يعلم أكثر المحللين تفاؤلاً أن نزع سلاح الفصائل العراقية المسلحة، وتشكيل حكومة بعيدة عن السيطرة الإيرانية أمرٌ شبه مستحيل.

الأحزاب الشيعية صاحبة الولاء الإيراني نظمت نفسها في تنسيقية رافضةً النتائج ودَعَت إلى التظاهرات والاعتصامات لكنها تعلم أيضاً أنها باتت منبوذة من جموع الشعب العراقي شيعته وسنته على السواء، وأن خطوة التصعيد عسكري أو رفض النتائج بالكلية تشكل انتحاراً سياسياً، لكنها تستخدم أقصى حالات الضغط للوصول إلى أفضل النتائج.

والحقيقة أن المشهد السياسي الآن بعد إحياء حالة الانتخابات هذه أشبه بالقضية التي شغلت الرأي العام العراقي، والتي أبلغ فيها أحد الأزواج عن تغيب زوجته واختفائها وبعد تحقيق السلطات اعترف الزوج أنه هو من قتل زوجته وأحراق جثتها وألقاها في النهر، والمفاجأة أنه بعد أيام ظهرت الزوجة على قيد الحياة أمام شاشات الإعلام. هنا بدا الخطأ القاتل الذي أدى إلى إرباك المشهد الأمني وهو عدم استطاعته الوصول إلى المرأة قبل ظهورها في الإعلام؛ وإلا فإن التخلص منها كان سيجعل المشهد أكثر تماسكاً ومصداقية.

وهنا يبدو خطأ النخب السياسية الإيرانية في العراق، وهي التي اعتادت تزوير الانتخابات ودفن جثتها سريعاً قبل أن يتنته إليها أحد، لقد فشلت في عملية الوأد السريع هذه بسماحها بانتخابات تتمتع بقدر من الشفافية أربكت موفقها السياسي، كما أن بقاء تلك المرأة على قيد الحياة أربك المشهد الأمني.

لا تغيير كبير في المشهد السياسي في العراق غير قدر أكبر من المواءمات السياسية والمحاصصة، ويبدو أن مقتدى الصدر هو الفائز الأكبر في هذه الانتخابات، وهو الذي استطاع تجييش الانتفاضات الشعبية لتُترجَم مقاعدَ نيابية لفريقه، وسواء كان رئيس الوزراء الجديد من كتلته أو من خارجها بتوافق معه فسيبقى نهج التقارب العربي الذي دشنته الحكومة الحالية هو الأقرب للحكومة الجدية إذ  يراد للعراق أن يعلب دوراً وسيطاً في إعادة تشكيل المنطقة خاصة بعد قرب الانسحاب الأمريكي الكامل والتوقعات بإدماج إيران في المنطقة ويؤشر لذلك المحادثات الجارية بين إيران والعديد من الدول الخليجية، التي من المؤكد - إن  سارت الأمور في مسارها - أن تخرج اتفاقات قريبة تعيد تشكيل المنطقة وسيلعب العراق دوراً لا شك في مرحلة التفاوضات حاضراً وفي نتائجها مستقبلاً.

 

 


أعلى