هذا الكتاب سطَّره في السجن بعد أن اعتقل من قبل السلطة الشيوعية اليوغسلافية وقتها عام 1982م، وحكم عليه بالسجن مدة خمسة عشر عاماً، قضى منها 2075 يوماً ثم أطلق سراحه عام 1988م
يمثل كتاب (هروبي
الى الحرية)
لعلي عزت بيجوفيتش (ت 2006م) نمطاً من الكتب لم نتعود عليه؛ يتمثل في كتابة مئات
الخواطر والآراء والتحليلات القصيرة عن كل ما يؤثر في حرية الإنسان من القوة والدين
والديمقراطية والسلطة... إلخ.
يقول رحمه الله:
«إني
لم أستطع الكلام ولكني استطعت التفكير، وأدرتُ منذ البداية الحوارات داخل ذاتي عن
كل شيء وكل ما يخطر على البال».
وهذا الكتاب سطَّره في السجن بعد أن اعتقل من قبل السلطة الشيوعية اليوغسلافية
وقتها عام 1982م، وحكم عليه بالسجن مدة خمسة عشر عاماً، قضى منها 2075 يوماً ثم
أطلق سراحه عام 1988م، وذلك قبل نهاية يوغسلافيا عام 1991م وتفككها إلى عدة دول
قومية، كانت البوسنة والهرسك ذات الأغلبية المسلمة إحداها. إذ جرى وضعها على أساس
ديني رغم غالبية السكان من البوشناق بعد حربٍ أهلية ذهب ضحيتها آلاف المسلمين من
قتل وتشريد واغتصاب، حتى بلغ عدد النساء المغتصبات أكثر من ستين ألف امرأة مسلمة
خصوصاً في مدينة سيبرينيتشا عام 1995م، وانتهى من كتابة خواطره هذه عام 1999م.
صار علي عزت رئيساً لدولة البوسنة والهرسك، فقد كان سياسياً ورئيساً للحزب
الديمقراطي بجانب ضلوعه في التاريخ والفلسفة وبعد مخاض الحرب الأهلية التي دامت خمس
سنوات، وما صاحَبَها من مذابح ولم تتدخل بها أوروبا بصورة جدية لإنهائها، حتى إن
وزير الدفاع البريطاني آنذاك مايكل هزلتاين صرَّح بكل صلافة بأنه من غير المسموح به
قيام دولة مسلمة داخل أوروبا، ومع ذلك فلم تنعكس هذه الأحداث الجسام على تفكيره
المتوازن وآرائه في تقويم الأمور السياسية، ولم تدفعه السياسة التي مارسها بشكل
يدعو للعجب إلى التجاوز على شعوب الصرب والكروات وغيرهم، وهم في موقع العداء
للمسلمين البوشناق، ولم يهاجمهم بسبب عقائدهم، لأنه كان على يقين أن الساسة لا
يمثلون شعوبهم بشكل مطلق، وأنه بجانب الاندفاع الإجرامي هناك من يرفضه.
في الفصل الأول من الكتاب وهو بعنوان (عن الحياة والناس والحرية)، يتناول رحمه الله
الجانب غير الأخلاقي من فلسفة غطرسة القوة المتجذرة في أعماق الفكر الغربي التي
يعبِّر عنها بحروب الإبادة والاستعمار بكافة أشكاله على مدار قرون عديدة خصوصاً بعد
اكتشاف العالم الجديد، والشعور الدفين بمسألة التفوق الذاتي الغربي على الآخرين،
الذي سطَّره كبار فلاسفة الغرب بجانب رجال الدين من خلال إشاعتهم للأكاذيب حول
الآخر.
لقد تجذر شعور بالتفوق الأوروبي بالاندفاع نحو الشرق وإفريقيا واستعمار العالم
واحتقار سكانه وإبادتهم.
وعلى المستوى الفكري فقد كان الغرب منبعاً للتعصب القومي وإفرازاته، مثل النازية
والفاشستية، وتفضيل العنصر الأبيض على العناصر الأخرى، بجانب أفكار القهر
والاستبداد الأخرى متمثلة بأبشع صورها وهي الشيوعية وكل ما جاء من إفرازاتها خصوصاً
الإلحاد، وإن كنا نعتقد بأنه لم يعطِ الأنظمة الرأسمالية نصيبها الذي تستحقه في
عمليات الإبادة والقهر والاستغلال.
ويضرب بيجوفيتش مثالاً على ذلك ما ذكره الفيلسوف الألماني الشهير هيجل (1770 -
1831م) في كتابه (فلسفة التاريخ) عن الزنوج والهنود والصينيين إذ ينعتهم بصورة سيئة
للغاية؛ فعلى سبيل المثال يقول:
«لا
يوجد في شخصية الزنجي ما يشبه الإنسان»،
ويذهب انعدام القيم الإنسانية عنده إلى أبعد حد، فلا يرى أن الإكراه ضد العدالة،
ولذلك فإن أكل لحوم البشر منتشر ومسموح به بين الزنوج!
وقد انتشرت هذه الخرافة في الأدبيات الغربية انتشار النار في الهشيم وصار الرجل
الأسود مثاراً للنكات والسخرية وصدقها الناس في الغرب بغباء نادر.
ويسترسل هيجل فيقول بأن أهل الصين لا يعرفون الشعور بالكرامة ويطغى عليهم الإحساس
بشعور الضعف الذي يؤدي ببطء إلى النذالة وترتبط بهذه الدونية لا أخلاقية عالية
لديهم؛ إنهم معروفون بأنهم سيخدعون الآخر كلما أتيح لهم ذلك، الصديق يخدع صديقه ولا
أحد يأبه عندما يعلم بذلك الخداع.
وهذه التقويمات لا تأتي من جانب فلسفي بقدر صدورها من أحقاد دفينة ضد الآخر وجهل
بطبائع الشعوب.
وأما الهنود فإن المراوغة هي من الطباع الرئيسية لديهم، والهندي منهزم وضيع وسافل
في تقديم ذاته للمنتصر والسيد، وقليل الأدب، وقاسٍ تجاه المقهورين والمرؤوسين.
وهذا النوع من العنصرية العميقة لم يقل بها أحد في الشرق سواء من المسلمين أم من
غيرهم؛ فما بالك أن تصدر عن واحد يعدُّ من كبار فلاسفة الغرب!
لقد كان موقف هيجل من الشرق الإسلامي سطحياً لعدم الدراية الكافية بالإسلام ولا
يعترف أو لا يعرف عن أدب الشرق شيئاً ولم يسمع إلا بقصص ألف ليلة وليلة وقال إنها
مستمدة من مصر القديمة!
إن هذه الآراء التي تعبِّر عن شعور غير أخلاقي تجاه الأعراق والشعوب الأخرى لا
تختلف مطلقاً عن مشاعر (الشعب المختار) عند آخرين، وبأدب بالغ يقول بيجوفيتش بأن كل
تعميم غير مقبول، ولكنه نقل ما قرأ على قاعدة ناقل الكفر ليس بكافر.
وهنالك كمٌّ هائل من هذه الدوافع العنصرية سواء على المستوى القومي أم على المستوى
الديني، وتأخذ أشكالاً فلسفية هزيلة وتُدرَس على هذا الأساس.
والفيلسوف الألماني نيتشه (1844 - 1900م)، صاحب نظرية (موت الإله)؛ أي موت الأخلاق،
اعتبر أن كلَّ المثل الأخلاقية تمثل أخلاق العبيد، وهي ليست سوى تصرفات للدفاع عن
مصالح خاصة، ومن ذلك تبلورت عنده أفكار (الرجل الخارق) والبقاء للأقوى حسب مقاييس
فهمه، لتولد من هذه الأفكار ومن غيرها الحركات الفاشستية والنازية والحركات الهدامة
كالشيوعية التي لم تكن أقلَّ بشاعة في ممارساتها ضد كلِّ من يقف في مواجهتها من
الشعوب.
إن الاندفاعات العنصرية ضد الآخر لها جذور ضاربة في الفكر الغربي عميقة، فعندما
ألقى البابا أوربان الثاني خطبته الشهيرة عام 1095م في كلير مونت في فرنسا في حشود
المستمعين لإلهاب المشاعر وزج أوروبا في أتون الحروب الصليبية التي استمرت حوالي
قرنين، وصف فيها المسلمين وأهل الشرق بقوله:
«جنس
غريب على الرب تماماً قد غزا أرض أولئك المسيحيين وأخضع الناس بالسيف والتدمير
والحريق، كما ذبح البعض الآخر بوحشية وسوَّى الكنائس بالأرض، لقد أجروا عمليات
الختان للمسيحيين، وكانوا يصبون دماء الختان على مذابح الكنائس أو في أواني
التعميد، وقد شقوا بطون أولئك الذين اختاروا تعذيبهم بالموت البطيء المثير
للاشمئزاز، فينزعون معظم الأحياء الحية ثم يربطون ضحاياهم إلى العصي المدببة
ويسحبونهم ...»،
وبعد انتهاء الخطاب تعالت صيحات عالية:
«الرب
يريدها»!
إن هذا المزيج من الشعور بالتفوق تجاه الآخر واستغلال الدين لمآرب استعمارية على
مدار قرون عديدة؛ كان النواة لكل الحركات الاستعمارية أيّاً كان لونها من رأسمالية
وشيوعية وتعصب قومي دفين.
وقد كان لهذه الأفكار أثرها البالغ في التفكير الفلسفي الغربي عن قصد وغير قصد
بجانب ما جاء في الكتاب المقدس عن نظرية الشعب المختار وإبادة الأعداء بكل السبل.
وقد يعجب القارئ من زج الشيوعية مع النازية في بوتقة واحدة، ولكن لعلي عزت بيجوفيتش
الذي ذاق مرارة الاضطهاد الشيوعي وعاصر تجربةَ ما كان يدور خلف الأسوار المغلقة
للمعسكر الشيوعي رأي آخر، فألمانيا النازية خرجت مهزومة عسكرياً من الحرب العالمية
الثانية، بينما الاتحاد السوفييتي وقتها كان على العكس منتصراً، وهذه الموازين لا
تغير من ممارسات الاضطهاد بكل أنواعه، ولذلك يقول بيجوفيتش بأن أوروبا وجدت نفسها
أمام أصعب مأزق في تاريخها: إما الشر مع الأمل بالستالينية الشيوعية أو الشر دون
أمل بالنازية الهتلرية؛ فمعسكرات الاعتقال السوفييتية سواء للمعارضين الروس أم
للشعوب التي تم احتلال أراضيها تحت راية السوفييت لا تقل بشاعة عن مثيلاتها
النازية، ولكن المنتصر يستطيع تزوير التاريخ وينخدع به العامة والسذج، وأما المغلوب
فلا يستطيع عمل أي شيء سوى تلقي اللعنات، ولكن التاريخ سيسجل أنهما ومثيلاتهما
يبقون وصمة عار وإدانة للحضارة الغربية والأفكار الفلسفية التي استمدت هذه الحركات
مقوماتها منها.
لقد ذهب أحد المفكرين إلى أبعد من ذلك فقال:
«إن
اللينينية - الستالينية وهي بنت الشيوعية البكر والنازية تتشابهان مثل الأخوين
التوأم».
لقد كان من مظاهر التوأمة هذه نشر الإلحاد والاستهزاء بفكرة الخلق والأخلاق، حتى أن
محمد أسد في كتابه الشهير
«الطريق
الى مكة»،
رأى لافتة كبيرة على حائط في محطة في تركستان المسلمة سنة 1926م تصور شاباً بملابس
العمل الزرقاء يقوم بدفع رجل عجوز بلحية بيضاء وبشكل مضحك بين غيوم السماء ومكتوب
باللغة الروسية: هكذا قام عمال الاتحاد السوفييتي بطرد الله من سمائه! وهي من
منشورات رابطة الملحدين في الاتحاد السوفييتي آنذاك.
لقد أدت غطرسة القوة إلى إبادة الملايين تحت مختلف الشعارات القومية والعنصرية
والدينية، وإلى حروبٍ استُخدمت فيها كل أنواع الأسلحة وصار قتل الأبرياء مبرَّراً
تحت أعذار واهية صارت مدعاة للسخرية، كنشر الديمقراطية والرخاء، وتم تغيير خريطة
العالم كله لصالح العرق الأبيض، ليخرج أخيراً العرق الأصفر (الصيني) ليرسم خريطة
جديدة لم يتوقعها هيجل وتلامذته.