قراءة نقدية تُحلّل الجذور الفكرية الغربية لإعادة تعريف الجنس والهوية، وتفحص آليات انتقالها إلى العالم العربي، مع إبراز الموقف الإسلامي الذي يوازن بين فهم السياق العالمي وحماية الفطرة والأسرة وبناء وعي حضاري رصين.
المؤلف: د. نهى عدنان القاطرجي.
الناشـر: مركز الفكر الغربي.
تاريخ النشر: ٢٠١٧م - ١٤٣٨هـ.
مقدمة
حين تتناول مجلة البيان قضايا الفكر والهوية والتحديات الحضارية؛ فإنها لا تُلاحِق
حدثًا عابرًا بقَدْر ما تُفتِّش عن جذوره العميقة ومساراته التاريخية ومآلاته على
المجتمعات المسلمة. ومن هذا المنطلق تأتي أهمية النظر في الكتاب الموسوم بـ«الشذوذ
الجنسي في الفكر الغربي وأثره على العالم العربي»؛
للدكتورة نهى عدنان قاطرجي، الصادر عن مركز الفكر الغربي عام 2017م، في 471 صفحة.
فالعنوان وحده يضع القارئ أمام ملف شديد الحساسية، تتشابك فيه الفلسفة الحديثة،
والتحوُّلات الاجتماعية والقانونية في الغرب، وآليات نقل الأفكار عبر العولمة
والإعلام، ثم سؤال الاستجابة العربية والإسلامية بين الرفض والمقاومة والتأثر.
ولا يخفى أن الحديث عن هذه القضية لا ينبغي أن يتحوَّل إلى انفعالٍ أخلاقي مجرد أو
ردود فِعْل عاطفية؛ لأن الانفعال وحده لا يبني وعيًا، ولا يصنع سياسة تربوية، ولا
ينشئ خطابًا قادرًا على المنافسة الحضارية. بل لا بد مِن مُقاربة معرفية تُحَسِّن
قراءة السياق العالمي، وتفهم أدوات التأثير، وتستحضر ثوابت الشريعة ومقاصدها،
وتُفرِّق بين معالجة الفكرة وبين التعامل الإنساني مع الأفراد. ومن هنا تبرز قيمة
هذا الكتاب بوصفه محاولة لفهم
«الفكر»
الذي يسبق الظاهرة ويُواكبها، ولفَحْص أثره الممتد إلى المجال العربي والإسلامي.
لذلك ستكون هذه المراجعة قراءةً تنطلق من عنوان الكتاب، ومن طبيعة الحقل المعرفي
الذي ينتمي إليه، ومن الأسئلة التي يثيرها مثل هذا الموضوع.
إطار الكتاب وإشكاليته
يدل عنوان الكتاب على أنه لا يكتفي بوصف السلوك أو بإيراد أحكامه الشرعية، بل
يتَّجه إلى تحليل
«الفكر
الغربي»
الذي رافق تحولات النظرة إلى الجنس والهوية والأسرة. وهذا اختيار منهجي مُهِمّ؛ لأن
الظواهر الاجتماعية الكبرى لا تُفْهَم عادةً بمعزل عن منظوماتها الفلسفية والقيمية.
فالحداثة الغربية، بما حملته من علمنة متزايدة، وتغليب للنزعة الفردانية، وإعادة
تعريف مفهوم الحرية، أحدثت زحزحة عميقة في التصورات الأخلاقية التقليدية، ثم انعكس
ذلك على القوانين والسياسات العامة.
كما يُوحِي العنوان بمحور ثانٍ مُكمِّل، وهو
«أثره
على العالم العربي»؛
أي: محاولة رَصْد قنوات انتقال الأفكار وتمثلاتها العربية. وهذا يَفتح الباب للحديث
عن دور الإعلام العالمي، ومنصات الترفيه، والمؤسسات الحقوقية الدولية، وأُطُر
الخطاب الأكاديمي، وأحيانًا الضغوط السياسية والاقتصادية التي تُمارَس باسم
«المعايير
الحقوقية»
المعاصرة. وبذلك يتحرَّك الكتاب بين مستويين: مستوى تحليل النشأة الغربية، ومستوى
قراءة الامتدادات العربية.
سياق تاريخي مُوجَز للنقاش الغربي
من المفيد -لفَهْم مَغْزَى الكتاب- استحضار خطوط عامة من المسار الغربي الحديث في
ملف الجنس والأسرة. فقد شهدت أوروبا وأمريكا خلال القرن العشرين تحوُّلات متدرجة
بدأت بنقد المرجعيات الدينية التقليدية في الفضاء العام، ثم توسَّعت مع صعود مدارس
فلسفية ترى أن القِيَم الأخلاقية نتاج اجتماعي متغير، وأن الحرية الفردية ينبغي أن
تكون معيار التنظيم القانوني.
ثم جاءت الثورة الجنسية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لتدفع هذه التحولات خطوة
أبعد، مع تغيرات في الخطاب الطبي والنفسي والاجتماعي، ترافقت مع حركات احتجاج
ثقافية وموجات نسوية واتجاهات فكرية ما بعد الحداثة. وفي هذا المناخ أخذت بعض
الممارسات التي كانت تُعدّ انحرافًا أخلاقيًّا أو اضطرابًا نفسيًّا تُقدَّم
تدريجيًّا بوصفها
«تعبيرًا
عن الهوية»،
ثم وُظِّفت هذه اللغة الجديدة لإعادة بناء منظومة الحقوق والقوانين.
ومن هنا يظهر كيف تتشابك عناصر تبدو للوهلة الأولى مستقلة: فلسفة الحرية، وتفسير
الهوية، ودور الدولة، ومعايير الصحة النفسية، وتغيُّر صورة الأسرة في الأدبيات
الاجتماعية. وهذه الخلفية تمثل -على الأرجح- أرضية ضرورية لأيّ كتاب يريد تفسير
الظاهرة من داخل سياقها الغربي.
منهجية المؤلفة
عند قراءة النص بشكل شامل، يتَّضح أن الكاتبة انتهجت مسارين محددين:
الأول: مسار تاريخي-فكري،
يبدأ من جذور فلسفية وثقافية في أوروبا وأمريكا، مرورًا بانعطافات كبرى مثل الثورة
الجنسية، وصعود مدارس عِلْم النفس الحديثة، وتحوُّلات الخطاب الطبي من
«التجريم/المرض»
إلى
«الهوية/الحق»،
ثم وصولًا إلى المعركة القانونية والإعلامية التي تُقدَّم اليوم كصراع من أجل
الاعتراف والمساواة.
الثاني: مسار نقدي-تحليلي،
يقف عند مفاهيم محورية مثل الحرية الفردية، والجندر، وإعادة تعريف الأسرة، وطبيعة
العلاقة بين الدين والقانون في المجتمعات الغربية، ثم مقارنتها بالتصور الإسلامي
للإنسان والأسرة والمجتمع.
اللافت هنا أن اختيار لفظ
«الفكر
الغربي»
يمنح البحث أفقًا أوسع من مجرد استعراض قوانين أو أحداث؛ لأنه يربط الجزئي بالكلي،
والسلوكي بالفلسفي، ويستلزم الاستناد إلى مصادر فكرية واجتماعية متعددة.
دلالات اختيار العنوان
يُحْسَب للمؤلفة -منذ العنوان- أنها لم تضع القضية في إطار
«اجتماعي»
ضيِّق، بل صاغتها بصيغة تُشْعِر القارئ أن الموضوع أكبر من كونه جدلًا حول ممارسة
بعينها. فإدراج كلمة
«الفكر»
يُحوِّل الاهتمام إلى البنية المعرفية للقِيَم الحديثة: ما الذي يجعل سلوكًا
مُحرَّمًا يَتحوَّل في خطابٍ ما إلى
«هوية»،
ثم إلى
«حقّ»،
ثم إلى
«معيار»
يُطْلَب من الآخرين الاعتراف به؟ هذا السؤال هو قلب المعركة الفكرية، وليس فقط
حدودها الأخلاقية.
كما أن إضافة عبارة
«أثره
على العالم العربي»
تُوحي بأن الكتاب لا ينتهي عند نقد الداخل الغربي، بل يتجاوز ذلك إلى نقد آليات
التلقي العربي أيضًا. وهذا بُعْد مُهِمّ في الكتابة الحضارية؛ لأنه يُحَمِّل
المجتمعات العربية مسؤولية الوعي، بدل الاكتفاء بلَوْم الخارج. فالعولمة الثقافية
لا تنجح إلا حين تجد فراغًا معرفيًّا أو هشاشة أسرية أو ضعفًا في المؤسسات
التربوية.
موقع الكتاب ضمن الأدبيات العربية
تتَّسم الكتب العربية التي تتناول هذا الملف بواحد من اتجاهين شائعين؛ اتجاه وَعْظي
يُركِّز على التحريم والذم مع شواهد مختصرة، واتجاه يقترب من العلوم الإنسانية
الحديثة، لكن دون نَقْد فلسفي كافٍ لمقدماتها. والقيمة المضافة في هذا الكتاب أنه
جَمَع بين فضيلتين: وضوح الموقف الشرعي، وعُمْق النقد الفكري للمصادر المُؤسِّسة
للخطاب المعاصر. وهذا النوع من التأليف يمكن أن يَسُدّ ثغرة في المكتبة العربية إذا
التزم بالمنهجية الصارمة: توثيق النصوص الغربية، بيان سياقها التاريخي، ثم بناء نقد
إسلامي يَشتبك مع الإشكالات الحقيقية لا مع الصور النمطية المختزلة.
لغة الكتاب وأسلوبه
يُنتظَر من كتابٍ يتناول هذا الملف أن يُوازِن بين لغة البحث ولغة الخطاب العام.
فاللغة البحثية تضبط المصطلحات وتتحقق من المصادر وتُفكّك السياقات، بينما يحتاج
القارئ غير المتخصّص إلى سردٍ واضح يُقرِّب الصورة ويشرح المفاهيم من غير تعقيد.
وإذا كانت المُؤلّفة قد نجحت في الجمع بين هذا وذاك، فإن الكتاب يَكتسب ميزة إضافية
بوصفه صالحًا لأن يكون مادة مرجعية للباحثين ومادة تثقيفية للأُسَر والمربين.
كما أن اختيار مادة حساسة كهذه يضع الكاتبة أمام مسؤولية أخلاقية في طريقة العرض؛
فلا إفراط في التفاصيل، ولا توظيف للمادة بما يثير الفضول غير المنضبط، بل تركيز
على التحليل الفكري والاجتماعي، وعلى البُعْد الشرعي والتربوي. وهذه الموازنة
الدقيقة هي ما يجعل الكتابة في مثل هذه القضايا خدمة للوعي لا فتحًا لأبواب الفتنة.
ومما يُستَحْسَن التنبيه إليه في هذا السياق: أنّ قوة مثل هذا الكتاب تتحدَّد -في
العادة- بمدى اعتماده على مصادر غربية أصلية، لا على تلخيصات ثانوية فحسب. فالرجوع
إلى النصوص المُؤسِّسَة للحركات الحقوقية والكتابات الفلسفية والاجتماعية التي
أعادت تعريف مفاهيم الجنس والهوية؛ يضمن أن النقد الإسلامي سيكون نقدًا
«للأصل»
لا
«للاستقبال».
كما أن الإحالة إلى دراسات اجتماعية وإحصاءات موثوقة -عند تناول الأثر العربي-
تُعطي للأطروحة بُعدًا واقعيًّا وتمنعها من الوقوع في العموميات. وعندما توافر هذا
النوع من التوثيق، أصبح الكتاب أداةً لبناء خطاب علمي رصين قادر على الدخول في
نقاشات أكاديمية وإعلامية واسعة، وهو ما تحتاجه البيئة الإسلامية اليوم لمواجهة
التحديات الأخلاقية بلُغة تفهم العالم وتخاطبه دون تنازل عن الثوابت.
العالم العربي: قنوات التأثُّر والتحوُّل
إذا كان الكتاب يدرس
«الأثر
على العالم العربي»،
فمن المُهِمّ أن تُطرَح أسئلة مُحدَّدة حول هذا الأثر، مثل: كيف انتقلت لغة
«الهوية
الجنسية»
إلى المجال الإعلامي العربي؟ وما دور الفضاء الرقمي في تجاوز الرقابة الاجتماعية
التقليدية وإعادة إنشاء مجتمعات افتراضية تُقدّم الممارسة المحرمة كأنها جزء طبيعي
من التنوع الإنساني؟ وكيف تتعامل بعض المؤسسات الدولية مع هذا الملف ضمن برامج
التنمية أو التعليم أو الجندر؟ وما حدود قدرة القوانين المحلية على ضَبْط سلوكيات
تُروَّج عالميًّا بوصفها حقوقًا؟
هذه الأسئلة لا تَستهدف صناعة حالة ذُعْر، بل إنتاج وَعْيٍ عقلاني يساعد صانع
القرار والمُربّي والباحث على فَهْم المشهد. ومن المهم أيضًا إدراك أن التأثر
العربي لا يسير في اتجاه واحد. ففي مقابل تيارات
«التطبيع
الثقافي»
توجد تيارات عربية وإسلامية واعية تستعيد مركزية الأسرة والفطرة، وتُعيد طرح
الأسئلة الأخلاقية في لغة علمية وحقوقية مضادة، وتستثمر في خطابٍ بديل يُعزّز العفة
والحياء، ويقدّم السكينة الأسرية باعتبارها تحقيقًا للكرامة الإنسانية لا قيدًا على
الحرية.
القضية في ميزان التصوُّر الإسلامي
من أكبر مكاسب أيّ كتاب يُقدَّم ضِمْن بيئة إسلامية أنه يُذكِّر القارئ بأن الموقف
من القضايا الأخلاقية لا يُبنَى على المزاج الاجتماعي، ولا على
«اتجاه
التاريخ»
كما يُقال، بل على تصوُّر عقدي وأخلاقي متماسك. فالإسلام يَنْظر إلى الإنسان
باعتباره مخلوقًا مُكرَّمًا، لكنّه مُكلَّف، له رغبات وابتلاءات، ويُطالَب بأن يضبط
غرائزه ضمن إطار شرعي يحفظ الفرد والمجتمع.
كما أن الإسلام لا يتعامل مع الأسرة بوصفها اتفاقًا اجتماعيًّا قابلًا لإعادة
التعريف بحسب الأهواء، بل بوصفها مؤسسة وجودية تحفظ النسل وتُحقّق السكن والمودة
والرحمة، وتتّسق مع فطرة الإنسان. ومن هذا المنظور فإن إعادة تعريف العلاقات
الجنسية خارج إطار الزواج الشرعي ليست مجرد
«خيار
فردي»،
بل مساس ببنية المجتمع وقِيَمه.
ومن المهم هنا ألَّا تُقدَّم المعايير الغربية على أنها محايدة أو
«علمية
بحتة»؛
فالتصنيفات الطبية والقانونية التي تغيَّرت عبر العقود تَعْكس في جانبٍ كبيرٍ منها
تَغيُّرًا في الفلسفة العامة والمناخ السياسي والثقافي، لا مجرد نتائج تجريبية
محضة. ومِن ثَمَّ، فإن المقاربة الإسلامية مُطالَبة بإظهار هذا البُعْد، مع احترام
المنهج العلمي، دون التسليم بإطلاقية أيّ معيار لا ينفصل عن سياقه القيمي.
ملاحظات منهجية
1-ضرورة التمييز بين
«الخطاب
الغربي»
و«الواقع
الغربي»:
فليس الغرب كتلة واحدة؛ حيث إن التحولات القانونية والإعلامية قد تتقدم على
التحولات الاجتماعية في بعض البيئات، والعكس صحيح. كما توجد داخله تيارات فلسفية
ودينية وأكاديمية مُحافِظَة تُعارض إعادة تعريف الأسرة أو تطبيع الممارسات
المنحرفة. وغياب هذا التنويع قد يُؤدِّي إلى صورة نمطية تَختزل واقعًا شديد
التعقيد.
2-الحذر من التفسير أُحادي السبب: تفسير الظاهرة بعامل واحد كالعلمانية أو الإعلام
أو الاقتصاد قد لا يكون كافيًا. فالتحول غالبًا تراكُمي تشترك فيه عوامل فكرية
ونفسية واجتماعية وتقنية، وتتداخل فيه مصالح سياسية وحملات ضَغْط منظمة.
3-أهمية الدقة الاصطلاحية: الكتابة في هذا المجال تُواجه تحديًا لغويًّا؛ لأن
مصطلحات مثل
«الجندر»
و«الميول»
و«الهوية»
تحمل حمولة فلسفية كبيرة. ومِن ثَم فإن الدقة في التمييز بين
«السلوك»
و«الهوية»
و«الأيديولوجيا
الداعية للتطبيع»
عنصر حاسم في بناء خطاب متزن.
4-التفريق بين نقد الفكرة ومراعاة الإنسان: الموقف الشرعي واضح في تحريم الفعل، لكن
الخطاب الدعوي الرشيد يحتاج أن يوازن بين بيان الحكم وبين الدعوة بالحكمة، ومعالجة
ما قد يَعْتري بعض الأفراد من إشكالات نفسية واجتماعية، دون أن يتحوَّل ذلك إلى
تمييع للأحكام أو قسوة على الناس.
5-توثيق الأثر العربي بأمثلة قابلة للتحقق: حيث إن
«الأثر
على العالم العربي»
يزداد قيمة حين يرفد بأمثلة محددة وموثقة؛ مثل: تغيُّرات في الخطاب الإعلامي، أو في
بعض البرامج التعليمية، أو في نشاط منظمات محلية، أو في تحوُّلات لغوية في المحتوى
الرقمي. كلما كانت الأمثلة دقيقة وقابلة للتحقق؛ زادت قيمة الكتاب البحثية.
القيمة الدعوية والتربوية للكتاب
مهما اختلفت تفاصيل المعالجة؛ فإن هذا النوع من الكتب يمكن أن يُؤدِّي دورًا في
ثلاثة مسارات:
1-المسار العلمي:
تقديم خريطة معرفية للطالب والباحث تساعده على فَهْم الخلفيات الغربية، وتفتح له
أبوابًا لقراءة المصادر الأصلية ثم نَقْدها.
2-المسار الدعوي:
تزويد الخطيب والداعية بلغة عقلانية تُخاطب الشباب، وتستوعب أسئلتهم دون إنكار واقع
التأثير العالمي.
3-المسار التربوي والأسري:
تنبيه الأسرة ومؤسسات التعليم إلى أنّ التحصين لا يكون بالمَنْع وحده، بل ببناء
معنى العفة وتقديم نماذج أُسرية ناجحة وصناعة محتوى إيجابي بديل.
اقتراحات بحثية وتطويرية
تفتح هذه الدراسة -بطبيعتها- مسارات بحثية مستقبلية قد تكون جديرة بالتوسع، مثل:
دراسة أثر المحتوى الرقمي العالمي على تصوُّرات المراهقين العرب عن الهوية والجسد
والأسرة، وتحليل التحولات اللغوية في الإعلام العربي، وبناء دراسات مقارنة حول
حماية الأسرة بين التشريعات الإسلامية وبعض التيارات المحافظة داخل الغرب نفسه،
وتطوير برامج تأهيلية للأُسَر والمربين لتمييز الخطاب الحقوقي المشروع من الخطاب
الأيديولوجي الذي يسعى لإعادة تعريف الفطرة. مثل هذه الامتدادات تُعطي أُفقًا
عمليًّا يتجاوز القراءة النظرية إلى صناعة مبادرات ومشاريع.
خاتمة
إن كتاب
«الشذوذ
الجنسي في الفكر الغربي وأثره على العالم العربي»،
يندرج ضمن الأدبيات الضرورية لفَهْم أحد أكثر الملفات إلحاحًا في زمن العولمة
الثقافية. فهو يُذَكِّر القارئ بأن الظواهر الأخلاقية ليست مجرد تفضيلات شخصية، بل
نتاج تصوُّرات عن الإنسان، والحرية، والأسرة. كما أنه يمكن أن يُسْهم في بناء
وَعْيٍ عِلْمي يُحرِّر النقاش من التشنُّج، ويرفعه إلى مستوى الرؤية الحضارية.
وتبقى قيمة هذا النوع من الكُتُب في قُدرته على تحويل القلق المجتمعي إلى معرفة،
والمعرفة إلى مشروع تربوي ودعوي وإعلامي متكامل. فليس المطلوب أن نقرأ الغرب لننبهر
به أو لنُشَيْطنه، بل لنَفْهمه فهمًا نقديًّا، ونثبت على ثوابتنا، ونُحْسن تقديم
خطابنا بوصفه خطابًا يحمي الإنسان وكرامته وفطرته قبل أن يحمي المجتمع وحدوده.
وحين تُكتب الدراسات التي تُحسن الجمع بين فَهْم السياق الغربي وتقديم البديل
الإسلامي المُؤصّل؛ فإنها تسهم في حماية الجيل الجديد من الارتباك المعرفي، وتُعزّز
ثقته بأن الفطرة ليست عائقًا أمام السعادة، بل طريقٌ إليها، وأن الشريعة حين تَحمي
الأسرة إنما تَحْمي الإنسان في أعمق حاجاته الروحية والنفسية والاجتماعية.