فلسطين... الانتصار الديمغرافي والمنزلقات السياسية

بالمجمل تتعلق القيادة الفلسطينية سواء في حركة فتح أم حركة حماس بملف الانتخابات كسبيل وحيدة للنجاة، لكن اختلاف الأولويات والمنهج بين الطرفين ينسف أي احتمالية للنجاح في تحقيق ذلك


من الناحية السياسية لا يوجد ثابت يمكن أن يؤثر على المسار المستقبلي للقضية الفلسطينية، فـ (الكفاح المسلح) الذي أطلقته منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة فتح مطلع عام 1965م لتحرير كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر، تحوَّل إلى ورقة مساومة للوصول إلى مربع الاستسلام والتعاون الأمني وتحوُّلِ منظمة التحرير الفلسطينية إلى سلطة مدنية تتمركز في الضفة الغربية لترهن قواتها الأمنية لخدمة الأمن الإسرائيلي مقابل السماح لها بالحصول على الاستقطاعات الضريبية التي تقوم سلطة الضرائب الإسرائيلية بجبايتهـا من التجار الفلسطينيين بموجب اتفاقية باريس التي وافقت عليها منظمة التحرير الفلسطينية بموجب اتفاق (أوسلو) برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب.

في تلك الفترة كانت الأراضي الفلسطينية تعيش في أوج الانتفاضة الأولى وتمكَّنت تلك التجربة الثائرة من فضح همجية الاحتلال الإسرائيلي لذلك كانت الرؤية الأمريكية تتجه للضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق شامير، للجلوس على طاولة المفاوضات بهدف إخماد الانتفاضة وإسكات منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات بالفتات من الكنتونات الأمنية التي يشرف على حمايتها، وفي الوقت نفسه تتخلص (إسرائيل) من ظهور مقاومة مسلحة بدأت تقود الانتفاضة، وتتجنب تشكيل رأي سياسي عالمي يدعم الحق الفلسطيني.

كثير من التفاصيل حدثت في المسار الأمريكي نفسه حتى حدوث الانقسام الفلسطيني عام 2007م، الذي أفرز جدلاً حول أولويات القيادة السياسية الفلسطينية بشقيها المتمثلين في حركتي فتح وحماس؛ فالأُولى تمثل تيار السلام والمفاوضات وتهيمن بسلطة وهمية على أجزاء من الضفة الغربية تحت وصاية أمنية إسرائيلية كاملة. والأخرى تتبنى خيار المقاومة وتتصدر لزعامته في قطاع غزة المكتظ بالسكان، وأغلبيةٌ كبرى منهم من اللاجئين المنحدرين من مناطق التهجير في الشمال الفلسطيني.

معضلة فتح أن طموحاتها السياسية أضحت في سياق وظيفي مرتبط بتوفير السيولة المالية التي تؤمِّن رفاهية قيادتها التي تهيمن على السلطة الفلسطينية والمصدر الوحيد لها هو الدعم الأوروبي والعربي وأموال المقاصة الواردة من سلطة الضرائب الإسرائيلية، بعد أن شطب الرئيس محمود عباس خيار المقاومة من تاريخها إثر قيامه بتصفية كتائب شهداء الأقصى الذراع العسكري للحركة، الذي كان ينشط في الضفة الغربية بقيادة مروان البرغوثي الذي تعتقله سلطات الاحتلال منذ 19 عاماً. كذلك فإن الرئيس عباس الذي تجاوزت سِنُّه 85 عاماً ينشغل اليوم بشكل كبير في صراع حادٍّ مع القيادي السابق في حركة فتح محمد دحلان؛ فقد جرت اشتباكات مسلحة بين عناصر محسوبة على السلطة الفلسطينية في مخيم بلاطة بمدينة نابلس وعناصر موالين لمحمد دحلان وتسببت بسقوط قتلى وإصابات، وسرَّبت وسائل إعلام فلسطينية معلومات حول صراع خفي يدور داخل مخيمات الضفة الغربية بين الطرفين وهي مقدمة تشير إلى طبيعة الخلافات التي قد تندلع حول مستقبل السلطة الفلسطينية في حال وفاة محمود عباس.

أما بالنسبة لحركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة منذ عام 2007م فهي تعيش أزمة سياسية خانقة إثر الحصار الإسرائيلي المفروض عليها، وكذلك عدم اعتراف السلطة الفلسطينية بسلطتها على القطاع وهذا الأمر نتج عنه قطيعة عربية وعالمية، وأسفر عنه أزمة اقتصادية خانقة يدفع ثمنها السكان هناك. بالإضافة إلى ما سبق لم تنجح حركة حماس في توسيع دائرة علاقاتها العربية بسبب مواقفها المرتبطة ببعض الملفات مثل الثورة المصرية أو السورية واستمرارها في إظهار علاقاتها بالنظام الإيراني مستفزة بذلك بعض الأطراف العربية، لكنَّ أخطر حلقة تمر بها حركة حماس حالياً ما يتعلق بأزمتها في عدم قدرتها على إدارة شؤون قطاع غزة وانعكاس ذلك على بيئتها الداخلية، فقبل أيام قليلة أعلن كثير من موظفيها في الأجهزة الأمنية المختلفة تنظيم حملة على مواقع التواصل الاجتماعي للمطالبة بصرف مستحقاتهم المالية المتأخرة، بالإضافة إلى خلافات قد تسببها الانتخابات الداخلية للحركة في المرحلة الراهنة بين القيادة الشورية للحركة وبين الجناح العسكري.

بالمجمل تتعلق القيادة الفلسطينية سواء في حركة فتح أم حركة حماس بملف الانتخابات كسبيل وحيدة للنجاة، لكن اختلاف الأولويات والمنهج بين الطرفين ينسف أي احتمالية للنجاح في تحقيق ذلك؛ فالسلطة الفلسطينية أشبه بشركة تقوم بسداد موظفيها من مستحقات مالية تحصل عليها مقابل منع أي مقاومة مسلحة في الضفة الغربية. وحركة حماس ليس لها أية فرصة في الفترة الحالية لتحقيق استقرار اقتصادي أو إقامة شراكة مع السلطة وَفْقاً لنهج أوسلو؛ وهي نقط خلاف مستمرة منذ 30 عاماً.

أما الملف الأخطر والأصعب الذي تمر به القضية الفلسطينية برمَّتها وهو أيضاً خسارة كبيرة بالنسبة لحركتي فتح وحماس؛ هو توسع دائرة التطبيع العربي والإسلامي مع (إسرائيل) ونجاح الأخيرة في إرغام بعض الأطراف العربية على الإقرار بشرعيتها في احتلال فلسطين بضغط أمريكي دائماً كان داعماً للرواية الإسرائيلية، فلم تجرؤ السلطة الفلسطينية على التقدم خطوة واحدة لولا الضغط المصري بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978م، إذ شرع في حينه أنور السادات مبدأ تعريض المقدسات للتفاوض!

التحرك الأمريكي بالنسبة للملف الفلسطيني دائماً يأتي في سياق الاحتياج الأمريكي للوجود الإسرائيلي في المنطقة؛ فالولايات المتحدة تعتبر (إسرائيل) قاعدة عسكرية متقدمة لها في المنطقة تمنع أي نفوذ منافس هناك، لذلك سواء كانت القيادة الأمريكية ديمقراطية أو جمهورية فهي تتحرك في سياق مصالح الأمن القومي الأمريكي، كذلك يوجد نقطة لا يتم التطرق إليها كثيراً في هذا الملف تتعلق بالتحرك اليهودي داخل الإدارة الأمريكية؛ فاليهود في الولايات المتحدة سواء ممثَّلين بمنظمة (إيباك) التي تمثل المصالح الإسرائيلية هناك، أم بهويتهم الدينية الموالية لـ (إسرائيل) يستخدمون مواطَنَتَهم الأمريكية للتغلغل في المنظومة الفدرالية الأمريكية، لذلك شاهدنا العديد من الشخصيات اليهودية ظهرت في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب وعملت بشكل فج لتهميش الحق الفلسطيني والضغط بشكل سافر على بعض الأطراف العربية لإجبارها على التطبيع مع (إسرائيل)، وآخر خطوة اتخذها وزير الخارجية الحالي مايك بومبيو - وهو إنجيلي داعم بشكل كبير لـ (إسرائيل) - أنه قام بتعيين الحاخام اليهودي المتطرف آرييه لايتستون مبعوثاً خاصاً بالنيابة عن الإدارة لاستثمار اتفاقات التطبيع الأخيرة التي تم توقيعها بين الدول العربية والإسلامية و (إسرائيل) بما يخدم الأهداف الاقتصادية للدولة العبرية. ولايتستون هذا هو مهندس هذه الاتفاقات ويعد الرجل الثاني في السفارة الأمريكية في إسرائيل بعد السفير الأمريكي اليهودي ديفيد فريدمان.

أما بالنسبة لمستقبل (إسرائيل) فيمكن إيجاز ذلك في هذه القصة التي ينقلها الدكتور ناصر اللحام، رئيس تحرير وكالة (معاً) الفلسطينية؛ ففي عام 1950م وصل يهود العراق إلى مطار اللد، وكان من بينهم يوسف وهو مدير بنك. ومثل كل أهل العراق كان يلبس أفخم الملابس وأولاده مثله يلبسون أجمل ما عرفته الموضة حينها ويشع محياهم من شدة النظافة. ولكن صدمة يوسف كانت كبيرة حين أجبروه بالقوة على دخول خيمة الحجر الصحي لحلق شعر رأسه هو وجميع أفراد عائلته خشية من الجرب والأمراض الجلدية المعدية. لم يستسلم يوسف بسهولة وأخبرهم أنه كان مدير بنك في العراق وأن الدعاية الصهيونية قالت حرفياً: «كل يهودي يترك بيته ويأتي للاستيطان في فلسطين، سيحصل على الوظيفة نفسها والبيت نفسه والقيمة الاجتماعية نفسها». لكن شكواه لم تصل لمسامع الحركة الصهيونية وتم تعقيمهم وحلق شعر رؤوسهم ومِن ثَمَّ وضعهم في حافلة ونقلهم إلى مستودعات من الصفيح في منطقة تل بيوت قرب بيت لحم ليعيشوا هناك لسنوات في أسوأ ظروف، ليصبحوا بعدها اليهود الشرقيين الذين داست عليهم الصهيونية ليتحوَّلوا من خواجات وأسياد في العواصم العربية إلى فقراء ومتسوِّلين في عصر الصهيونية.

تلك القصة هي حالة حقيقية اليوم للتركيبة الإثنية المعقَّدة في (إسرائيل)، ولكن جدَّ عليها انقسام المجتمع إلى تيارٍ يميني متطرف يحيط بنيامين نتنياهو زعيم حزب الليكود به نفسه لينجو من المحاكمة بقضايا فساد منذ عدة سنوات. وتيارٍ يساري يحاول إبقاء شيء من القواعد الديمقراطية التي غيَّبت توحش اليمين، وأفسدت هذه التجربة السلك القضائي وزادت من تفكك النظام السياسي في (إسرائيل) لدرجة أن الكنيست سيشهد انتخاباته الرابعة في غضون عامين، وهذا الأمر يحدث لأول مرة في تاريخ الدولة العبرية.

فالكتلة السياسية المتعارَف عليها بدأت تنهار شيئاً فشيئاً بسبب خلافات شخصية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر: انشق الوزير السابق جدعون ساعر عن حزب الليكود بزعامة نتنياهو وذهب إلى تشكيل حزب جديد مع اثنين من قادة المستوطنين المتطرفين، في المقابل ألمحت كتلة (أزرق أبيض) التي يقودها بيني غانيتس إلى أنها لن تدخل الانتخابات المقررة في مارس المقبل، وهذا الأمر يشير إلى توجه قيادة الدولة العبرية الشابة إلى التطرف أكثر نحو اليمين، وهذا الأمر أفرز جرأة إضافية لظهور مجموعات (فتية التلال) الاستيطانية التي تهاجم منذ سنوات القرى الفلسطينية في الضفة المحتلة بدعم  وقيادة الحاخامات.   

لقد خسرت الدولة العبرية القيادة المؤسِّسة سواء كانت منطـوية تحت عباءة حزب العمل أم الليكود، وفي ظل محاولة نتنياهو الاستمرار في الحكم والمراوغة فقد بدأ يفسد النظام القضائي الإسرائيلي مقابل دعمه لأجندة اليمين المتطرف التي تحميه من المحاكمـة، لكن ذلك يزيد من الصدام بين اليهود وقرابة مليوني عربي فلسطيني داخل الخط الأخضر. فقد ينجح نتنياهو في الولاية السادسة لحكم الدولة العبـرية وهذا الأمر لم يحدث منذ احتلال فلسطين؛ لكنه ينعـش صعود اليمين ويزيد من حدَّة الخلافات داخل الدولة العبرية ويقضي على قواعد الديمقـراطية التي كانت تمثـل مساحة مرنة للتنازع بين الإثنيات المختلفة، رغم الانتصارات الزائفة التي حققتها الدبلوماسية الإسرائيلية بمساعدة الولايات المتحدة.

أخيراً:

تبقى المعركة الحقيقية والعقبة الأكبر في استمرار المشروع الصهيوني في فلسطين مرتبطاً مصيره بالصراع الديمغرافي الموجود على الأرض؛ فهناك قرابة خمسة ملايين فلسطيني يعيشون داخل فلسطين التاريخية وفي ظل استمرار تمسكهم بهويتهم ورفضتهم الاندماج مع أي مخططات إسرائيلية فإن هذا الأمر يمثل التهديد الحقيقي لوجود الدولة العبرية وبقائها، فالتجارب في الانتفاضتين الأولى والثانية تشير إلى أن فلسطين عبارة عن بركان يغلي قد تفجِّره شرارة بسيطة تعيد تشكيل الواقع السياسي والجغرافي فيها.

أعلى