ماذا بعد هدم المسجد البابري؟
في بلد يبلغ تعداد المسلمين فيه ما يقارب 160 مليون مسلم، ويشكلون حوالي 14% من
السكان، وهم مواطنون أصلاء ليسوا مجنسين ولا مهاجرين، حكموا تلك الأرض لقرون عدة،
نشروا فيها العدالة والحضارة والعلم، ومع ذلك يجدون أنفسهم خارج سياق التاريخ في
تلك الدولة، ويعانون اليوم من صعوبات جمة في بناء مساجد لعبادتهم وصلواتهم، بل لا
يستطيعون المحافظة على القائم منها حتى وإن كان يمثل أثراً تاريخياً، تلك الآثار
التي تحتفي بها المؤسسات الدولية. ويقوم رئيس وزرائها بالاحتفاء بوضع حجر الأساس
لمعبد هندوسي على أنقاض مسجد البابري، وهو أثر تاريخـي ولوحة معمارية وهندسية تم
هدمها بالكامل وإزالتها من على وجه البسيطة بكل هدوء وصمت سواء من المؤسسات الدولية
أو المجتمع الدولي وكثير من المؤسسات والدول الإسلامية.
إنها الهند في عهد ناريندرا مودي الذي ينتمي لحزب بهارتيا جانتا ذلك الحزب الهندوسي
المتطرف الذي من أيديولوجيته إعلاء القومية الهندوسية والتضييق على المسلمين حيث
يركز خطاب الحزب على تعرض الهندوس للتهميش والاستبعاد من دوائر صنع القرار على مدار
عقود من سيطرة حزب المؤتمر الوطني الهندي، متهماً إياه بأنه يميل لمهادنة واسترضاء
المسلمين على حساب المعتقدات الدينية الهندوسية. وربط مؤيِّدو الحزب بين التصويت
لصالحه وحماية العقيدة الهندوسية. وارتبط ذلك بتأسيس أكثر من 45 ألف فرع لمنظمة
(راشتريا سوايامسيفيك سانج)
Rashtriya Swayamsevak Sangh
اليمينية الهندوسية التي انتشرت في مختلف الولايات الهندية وقامت بحشد أصوات
الهندوس لصالح الحزب في الانتخابات التشريعية.
في المقابل فإن مسلمي الهند أكبر أقلية إسلامية في العالم، وهم ثاني أكبر تجمع
إسلامي على وجه الأرض وقد كانوا يمثلون ربع السكان في شبه القارة الهندية قبل
الاستقلال وتقسيمها إلى دولتي الهند وباكستان، وهو التقسيم الذي يعدُّه كثير من
المسلمين تقسيماً للطائفة الإسلامية الهندية. يعيش أكثر من نصف المسلمين في ثلاث
ولايات شمالية هي (أوتربرادش)، وولاية (بهار) وولاية (البنغال) الغربية، وطبقاً
لذات الإحصاء فإنهم يمثلون الأغلبية في 15 مديرية، بالإضافة إلى منطقتي (جامو)،
(كشمير) مع أن نسبة المسلمين في الهند تتجاوز 14% كما ذكرنا؛ إلا أن نسبتهم في
البرلمان لم تتجاوز 0.04% من مجمل أعضاء البرلمان.
ويعانون من أكبر عملية تمييز وتضييق وقتل وتشريد منذ صعود حزب مودي للسلطة،
والتاريخ القريب يحكي وحشية مودي وكأن تلك الحادثة كانت أهم مصوغاته للصعود إلى هرم
السلطة، تعد أحداث ولاية كوجرات، التي تقع في شمال غرب الهند وتجاور بحر العرب
وباكستان، نقطة سوداء في تاريخ ناريندرا مودي فقد أوردت جريدة الحياة نكبة تلك
المدنية وأحداث العنف التي جرت بها فتقول:
«في
28 فبراير عام 2002م استقلت مجموعات هندوسية متطرفة مسلحة ببلطات وسيوف باصات
وارتكبت فظائع: اغتصبت نساءً وحرقت رجالاً وهم أحياء وذبحت أطفالاً. أدت هذه
المذبحة التي راح ضحيتها أكثر من ألفي مسلم إلى هجرة المسلمين وتقوقعهم على بعضهم
في ضاحية أحمد أباد عاصمة ولاية كوجرات التي يزيد عدد سكانها عن أربعمئة ألف من
المسلمين»،
وتصفها الجريدة قائلة:
«الواصل
إلى هذه الضاحية يلفته غياب لافتات المحال التجارية المضيئة والحفر في الأرض
والمنازل الكبيرة المختبئة وراء بوابات ضخمة. فالمشهد الهندي ينقلب رأساً على عقب
حين يبلغ المرء أكبر حارة للمسلمين في الهند، وهي تعرف بـ (باكستان الصغيرة). وفي
مبانٍ تبدو وكأنها جبال من الأسمنت ومحيط من الحطام، يقيم 400 ألف مسلم. وفي
المنطقة مدرستان ابتدائيتان رسميتان، والمنطقة غير متصلة بشبكة المياه ولا بشبكة
الصرف الصحي ولا بشبكة الكهرباء. والطرق فيها غير معبدة، ولا تسير فيها باصات النقل
العام. وهي مقر ثلاثة مراكز للشرطة».
أما المسؤول عن تلك المجزرة فتصفه الجريدة قائلة:
«ناريندرا
مودي هو (تاجر الموت)، على نحو ما سماه حزب (المؤتمر) وهو متهم بغض النظر عن
المجازر في 2002م، فمودي الذي بلغ منصب رئيس وزراء ولاية غوجارات الهندية (منذ عام
2001م)، وقف صامتاً متفرجاً إن لم يكن مشجعاً على أعمال القتل العنيفة التي حدثت
عام 2002م في الولاية. آنذاك قُتل ما يقارب الألفي مسلم وشُرد عشرات الآلاف منهم
على أيدي حُشود هندوسية متطرفة. كما صمت مودي عند حدوث أحداث الشغب الأخيرة بين
الهندوس والمسلمين في شهر سبتمبر 2013م في أوتار بارديش، والتي أودت بحياة 65
شخصاً، وشردت ما يزيد عن 50 ألف مسلم من بيوتهم.
وبعد فوز حزبه في الانتخابات العامة لعام 2019م، ألغت إدارته الوضع الخاص لجامو
وكشمير. كما قدمت إدارته أيضاً قانون تعـديل المواطنـة الذي أدى إلـى احتجاجات
واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد.
يُوصف مودي بأنه مهندس التنظيم السياسي باتجاه السـياسة اليمينية، وهو ما يزال
موصـوفاً بالتطرف بشأن معتقداته القومية الهندوسية.
واليوم ونحن نقف مع واحدة من فواجع المسلمين في الهند حيث يشهد مسجد البابري آخر
فصول معاناته التي بدأت بعد أربعة قرون، وقد ظل المسلمون يصلون في هذا المسجد دون
انقطاع منذ أن بناه السُلطَانُ ظَهير الدين مُحَمد بَابُر»
أول إمبراطور مغولي حكم الهند، والذي سمي المسجد باسمه، وقد أنشأه له نائبه في عام
1528م. تدرجت فصول القصة منذ الحادثة التي وقعت ليل 22 - 23 كانون الأول عام 1949م،
حين توجه كاهن هندوسي ومعه نحو خمسين من تلامذته ومريديه، فتسلقوا جدران المسجد تحت
جنح الظلام ووضعوا تماثيل راما داخل المسجد، وانطلقوا في الصباح يبشرون بأن
«الإله
راما ظهر في المسجد».
مروراً بقيام 15.000 هندوسي متعصب بهدم المسجد أمام أنظار العالم وهم من أتباع
منظمة بهارتيه جنتا بارتي المنظمة الهندوسية المتعصبة التي وصلت لحكم الهند سنة
1998م.
وظل المسلمون منذ ذلك الحين يطالبون بإعادة بناء المسجد، بينما واصل الهندوس
المطالبة ببناء معبد في الموقع الذي يقولون إنَّ معبودهم راما قد ولد فيه. وانتهاء
بلحظةٍ سوداء شهدت وضع حجر الأساس لمبعد هندوسي على أنقاضه.
هذه هي القصة باختصار وإن كنا أغفلنا كثيراً من التفاصيل؛ ذلك أن هدفنا هو الوقوف
على الرسائل التي ترسلها حجارة هذا الـمَعْلَم الإسلامي المهدم:
أولاً:
يشير هدم مسجد البابري إلى السعي إلى إذلال مسلمي الهند وإرسال رسالة لهم؛ أن أعظم
مقدساتكم في الهند لا قداسة لها وأنه يمكن استباحة مساجدكم وهدمها بكل سهولة، وإذا
هدم هذا المعْلَم الذي يحمل كثيراً من الدلالات التاريخية والدينية والسياسية فما
دونه أهون وأيسر علينا. فهدم المسجد البابري سيفتح الباب على مصراعيه ليطالب
الهندوس بمساجد أخرى، وهو ما حدث فعلاً؛ إذ جدد الهندوس مطالبهم القديمة لاستعادة
مسجدين آخرين. فقد أعد غلاة الهندوس قائمة بثلاثة آلاف مسجد في أنحاء البلاد
يدَّعـون أنها بنيت بعد هـدم معـابدهم، ولذلك لا بد من استعادتها وتحويلها إلى
معابد، وهذا يعني أن مطالب الهندوس لن تنتهي بالمسجد البابري.
ثانياً:
تشير هذه المأساة أيضاً إلى أن المسلمين في الهند لا وزن لهم على الصعيد السياسي؛
إذ إن نسبة تمثيلهم البرلماني لا تتجاوز 0.04%، ولا على الصعيد الشعبي والمجتمعي،
وأنهم أصبحوا مواطنين من الدرجة الرابعة أو الخامسة، بل إن مصطلح المواطنة قد يسحب
منهم قريباً، فيصيرون لاجئين في بلادهم.
ثالثاً:
أن اليمين المتطرف في تسارع كبير وينتشر بين كافة الأديان سواء كانوا نصارى أم
بوذيين أم هندوس، وضحايا هؤلاء جميعاً هم المسلمون فقط، وهم الذين يتنادى أفَّاكوهم
المسومون بالمفكرين بـ (التعايش)، والتعايش هنا معناه أن تتخلى عن مقومات عقيدتك
وثوابت دينك.
رابعاً:
هدم وطمس أي تاريخ يدل على المسلمين في الهند مؤشر خطير يدل على أن المسلمين
مستهدفون حجراً وبشراً. ويشير أيضاً إلى ضعف المسلمين خارجياً؛ فأين مؤسسات
المسلمين ومنظماتهم الدولية وقد أضحت شعائرهم لا قيمة لها. ففي الصين يضطهد
الأويغور وهم الذين عاشوا عشرات السنوات تحت الحكم الشيوعي ورغم التضييق المستمر
لكن لم يتم الإمعان في الإذلال والتذويب كما في السنوات الأخيرة. وفي الهند، كشمير
تحكي المشهد نفسه فقد ظلت لها خصوصية سياسية وتتمتع بحكم شبه ذاتي، ومع الضعف الذي
أصاب الأمة فقد امعنت الهند وأوغلت في الظلم فألغت كل الاتفاقيات وعدت كشمير جزءاً
لا يتجزأ من الهند، وهي الآن تشرع في التغيير الديموغرافي وفرض سياسة الأمر الواقع.
ذلك بأن المسلمين لا بواكي لهم ولا يوجد من يدافع عن حقوقهم ومقدساتهم.
خامساً:
أن القانون الدولي والمؤسسات الدولية وغيرها من المصطلحات الكبيرة هي جاهزة فقط
للتدخل عندما يتعلق الأمر بأي ديانة أو قومية غير المسلمين، أما إن قُتِل المسلمون
أو اغتصبت المسلمات أو هدمت مساجدهم فإن الصمت الدولي هو عنوان المواقف الدولية
التي يتشدقون ليل نهار بمصداقيتها وعدالتها وما ذكرى سربرنيتسا منا ببعيد.
والحق يقال:
إن الحبل على الجرار، فإذا ضعف القلب وتشتت المركز، فإن أول ما تتساقط الأطراف،
وقلب الأمة اليوم ينزف وحواضرها محاصرة أو مدمرة، وكثير من أهلها هائمون على وجوهم
يتسولون الحياة ويقايضون عليها بدينهم، وربما حملت السنوات القادمة مشهداً أشد
قتامة إلا أن يتغمد الله هذه الأمة برحمته، ويفيق المسلمون إلى ما يحيق بهم فيعودون
لربهم، وعساهم يُدرِكون فيُدرَكون.