من شجاعة العربية
أولاً:
ائتناف ووطاءة
هذا غور من العربية بطين لا يدرك أعماقه ودفائنه إلا الذي زكِنَ أسرار الخلابة في
تدبيج حُلل البيان المنشـرات التي لا تكـاد أقلام الـمُنْشئين تطـؤها، فهـو خلاصة
البراعة والاتساع والتفنن في أساليب الكلام المشتملة على نُكَتٍ دقيقة قائمة على
الالتفات والانتقال بالكلام من صيغة إلى أخرى أدقَّ وأغمض مسلكاً، لأن الأسلوب إذا
انتقل من الإخبار عن الغائب، والمراد بالمعنى الحاضر الشاهد أو العكس كان ذلك أدعى
للانتباه إلى ما يتضمنه الكلام من مزيد البراعة والخلابة. قال ابن جني في (باب في
شجاعة العربية)، وهو السَّنْبر العارفُ بِسَعَة مذاهب الفصحى:
«اعلم
أن معظم ذلك إنما هو الحذف، والزيادة، والتقديم، والتأخير، والحمل على المعنى،
والتحريف»[1].
وهذا النوع من الأسلوب منه أيضاً: عكس الظاهر، وتأنيث المذكر، وتذكير
المؤنث، وتصور معنى الواحد للجماعة، والعدول عن الغيبة إلى الخطاب أو العكس، أو من
فعل ماضٍ إلى مستقبل أو العكس، وتأنيث المذكر، وتذكير المـؤنث. وقد جعله ابن الأثير
«خلاصة
علم البيان التي حولها يُدَنْدَنُ، وإليها تستند البلاغة، وعنها يُعنعَن، وحقيقته
مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله، فهو يقبل بوجهه تارة كذا، وتارة كذا،
وكذلك يكون هذا النـوع من الكلام خاصة؛ لأنه ينتقل من صيغة إلى صيغة، كالانتقال من
خطاب حاضر إلى غـائب، أو من خطاب غائب إلى حاضر، أو من فعل ماضٍ إلى مستقبل، أو من
مستقبل إلى ماضٍ، أو غير ذلك... ويسمى أيضاً (شجاعة العربية)، وإنما سمي بذلك لأن
الشجاعة الإقدام، وذاك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره، ويتورَّد ما لا
يتورَّده سواه، وكذلك هذا الالتفات في الكلام؛ فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها
من اللغات»[2].
ولهذا النوع من الكلام أسرار لا تُنتصف ولا تدرك لأنها تتخفى في أزياء بيانية
متحولة الظلال، لذلك يحتاج الذي يقبل على تخليص إتائها من رغوتها إلى معرفة دقيقة
بالأصباغ المختلفة الألوان التي طُرِّست بها لاستخراج خبيئها، لكن هيهات ذلك
مطلبـاً، فهو أعز من بَيْض الأَنُوق، لا يقدر على استفراه دُرَرِه إلا الذي أوتي
الحكمة وفصل الخطاب. وها أنا أُجَلِّي عنه باقتباس فرائد فوائده، ونُبَذ من غمائمه
يستدل بها على نظائره التي توضع لتعرف على هذه الشاكلة.
ثانياً:
التقديم والتأخير
هذا باب واسع لمكملات الخطاب ومتمِّماته الدال على البراعة والحذاقة في اختلاف
المراد من الكلام الواحد بزيادة لا تخلو من ظلال دلالية يقتضيها المقال والمقام؛
إنه ليس من قبيل التلاعب بالأماكن التي تتنزل فيها الألفاظ من دون تغيير المعنى،
ولكنه طريقة فنية توجِّه الكلام وجهة دلالية وبلاغية تتطلب قدماً راسخة في معرفة
أسرار البلاغة والبيان للكشف عن أغراض الخطاب الذي ينتقل من غرض إلى آخر مثل: ترسيخ
الخبر في ذهن السامع، أو تعجيل المسَرَّة بخبر، أو التلذذ بذكره، أو تقوية الحكـم
وتقريره، أو إفادة العمـوم، أو التفاؤل بتقديم الخبر المفرح، أو الاختصاص، أو لمجرد
رعاية الفاصلة في القرآن والسجع في كلام البلغاء، أو للتعظيم والغلبة والتكثير، أو
لمراعاة الأسبقية، أو لإيقاع اللبس على السامع. لذلك انشغل به علماء اللغة على
اختلاف تخصصاتهم، حيث نظر إليه النحاة انطلاقاً من معيار حفظ الرتبة أو عدم حفظها،
بينما نظر إليه البلاغيون نظرة فنية فيها زيادة في المعنى، ولذلك أعلنوا أنه
«كثير
الفوائد، جمُّ المحاسن، واسعُ التصرُّف، بعيدُ الغاية، لا يزال يفْتَرُّ لك عن
بديعة، ويُفضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعراً يروقك مَسْمَعُه، ويَلطُفُ لديكَ
موقِعُه، ثم تنظـر فتجـد سببَ أنْ راقَك ولَطُفَ عندَك، أنْ قُدِّم فيه شيء، وحوِّل
اللفظ عن مكان إلى مكان»[3].
إذا ثبت أن التقديم والتأخير من المداخل الأساسية التي تنشأ عنها الدقة في توجيه
المراد من الخطاب لناحية خاصة لا يدركها إلا فرسان الإجادة الذين تتكـاثر محاسن
ودلالات عباراتهم، فإن القدماء أولوه عناية خاصة، فسبروا غوره ودخلوا إلى رياضه
الأريضة، وتلمَّحُوه بعين البصيرة، فلم يكتفوا بالقول الكسول الذي يردده المنشئون
في هذا العصر:
(المقدم أولى، لأن ذكره أهم).
من دون تعليل أسباب التقديم أو التأخير التي رأوا أنها عين البلاغة والبراعة؛ بها
يتفاضل الكلام بعضه عن بعض، ويعظم التفاوت بين الأساليب في إصابة الغرض الذي قصد
إليه مرسل الكلام على شاكلة العبارتين الآتيتين اللتين غيَّر التقديم والتأخير
معناهما إلى الضد:
(ما رأيت خيـراً منك) (ما رأيت منك خيراً). الجملة الأولى مدح لأن المتكلم قدم
التفضيل (خيراً)، أي: أنت أفضلهم أجمعين أكتعين أبتعين. وعندما قدم الجار والمجرور
في الجملة الأخرى تحولت الجملة إلى الهجاء والذم، حيث ينفي المتحدث أن تكون قد صنعت
له خيراً قط.
«ومن
أبينِ شيء في ذلك (الاستفهام بالهمزة)، فإن موضع الكلام على أنك إذا قلتَ:
(أَفَعلْتَ هذا؟)، فبدأت بالفعل، كان الشك في الفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن
تعلم وجوده. وإذا قلت: (أَأَنتَ فعلْتَ؟)، فبدأت بالاسم، كان الشك في الفاعل مَنْ
هو، وكان التردد فيه»[4]،
بأن تجعله يقـر بأنه الفاعل بدليل قوله تعالى حكاية عن قول نمرود لإبراهيم عليه
السلام عندما كسر الأصنام:
{قَالُوا
أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا
إبْرَاهِيمُ}
[الأنبياء:
62]؛
إذ إن غرضهم ليس السؤال عن كسر الأصنام، ولكن أن يقرَّ بأن الكسر حصل منه، ولذلك
كان جـوابه صدمة لهم عندما أجاب:
{قَالَ
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ
إن كَانُوا يَنطِقُونَ}
[الأنبياء:
63]؛
إذ لو كان الغرض السؤال عن الفعل لأجاب بالإثبات:
نعم فعلت، أو بالنفي:
لم أفعل. يتضح مما سبق أن التقديم والتأخير هو غيث أرض الفصحى العذية، يحتاج إلى
لطف وتدبير لأجل اصطفاء الألفاظ والأماكن التي تتنزل فيها، والتي هي أليق وأتم
للمعنى المقصود الذي يكشف الغطاء عن المراد من الكلام كما تظهر الجملتان الآتيتان:
•
(ما طلبْتُك لِهذا) فإن المعنى يفيد نفي أن أكون طلبتك لهذا الأمر، ولا يستفاد منه
أن أكون قد طلبته لشيء آخر.
•
(ما لهذا طلبتك) فإن الطلب حاصل، ولكن ليس لهذا الأمر الذي اعتقده، ولكن حصل الطلب
لشيء آخر.
كما أن جملتي:
•
(لا خطأ في العبارة) فإن المراد نفي الخطأ عن العبارة. وإذا قلنا:
•
(لا في العبارة خطأ) كان المعنى أن العبارة جيدة لم يلحقها خطأ يشينها.
وهذا يحتاج إلى زيادة تأمل وتبصُّر، وإنعام نظر لخفائه ودقة ملمحه، لا يعثر على
حقيقته كاملة إلا اللوذعي صاحب الذوق الرفيع في التمييز بين الأساليب كما يتضح من
الجملتين:
(هو لا يحسن صياغة الكلام) هذه جملة أقوى وأشد في نفي حسن صياغة الكلام من قولنا:
(لا يحسن صياغة الكلام)؛ فالكلام في الجملة الأولى يقصد به النفي مع من يعتقد أنه
يحسن صياغة الكلام أكثر من غيره، بينما الجملة الأخرى ليست لها القوة نفسها في نفي
القدرة على صياغة الكلام.
ومن الأسماء التي يحسن ويلطف فيها التقديم: (مثل) و (غير) مثل قولنا:
(مِثلُكَ يصلح لهذا الأمر) التي يقصد منها أن كل مَن كان مثله في الصفة والحال يصلح
لذلك الأمر.
أما جملة: (غيري ينخدع بهذا المكر السياسي) فإن المقصود منها أنه لا ينخدع بهذا
المكر السياسي.
«واستعمال
(مثل) و (غير) على هذا السبيل شيء مركوز في الطباع، وهو جارٍ في عادة كل قوم. فأنت
الآن إذا تصفحت الكلام وجدت هذين الاسمين يُقدَّمان أبداً على الفعل إذا نُحِي بهما
هذا النحو الذي ذكرت لك، وترى هذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدَّما»[5].
فلو أخرت (مثلك) و (غيري) وقلت: (يصلح لهذا الأمر مثلك) و ( ينخدع بهذا المكر
السياسي غيري) لكان في الكلام تغيير عن الجهة التي قصد إليها، ولَبَدَا اللفظ
منحرفاً عن معناه.
ولكي أجلِّي أن التقديم والتأخير من صنف ما دَقَّ وخفي، الذي يظهر المعنى في أبهى
هيئة، أدعوك أيها القارئ لتأمل هذا البيت الشعري لابن المعتز:
سالتْ عليهِ شِعابُ الحيِّ حِينَ دعَا
أنْصارَهُ بوجوهٍ كالدَّنانيرِ
إنَّ حَلَّ هذا البيت الشعري يفيد أن: شعاب الحي سالت على الممدوح بوجوه مثل
الدناير عندما دعا أنصاره. وهذا كلام مألوف وإن تضمن الاستعارة (شعاب الحي سالت)
لكنها باردة باردة، والتشبيه (بوجوه كالدنانير)؛ لكن عندما نعود إلى طريقة نظم
ألفاظ البيت الشعري وتقديم بعضها على بعض مثل تقديم: (عليه، وحين، ودعا)، فإننا
ندرك جمال الاستعارة القائمة على عبارة (سالت عليه شعاب الحي) فالسيلان مقصور عليه
وليس على أحد آخر، كما أن تأخير عبارة (بوجوه كالدنانير) أكسب أنصاره ميزة خاصة
جعلت صفتهم المتلألئة دائمة الحضور عند المتلقي، ناهيك عن إظهار هؤلاء الأنصار
والأتباع في أبهى صورة يميزها الرضا والتلألؤ. وبهذا يظهر أن التصرف في الكلام الذي
يُنْتقر له أحسن موضع تتنزَّل فيه الألفاظ، يعد بلا امتراء العمود الفِقْري الذي
تبنى عليه جودة الكلام المستولي على العقول، المجتذب للقلوب، الذي لا يحوم حوله
صغار المنشئين، كما يتضح من هـذه الآية القرآنية التي أكسبها التقديم الظنون
والتوهم الذي قد ينشأ لدى المتلقي. قال تعالى:
{وَقَالَ
رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ
يَكْتُمُ إيمَانَهُ}
[غافر:
28]
فلو أخَّر
{مِّنْ
آلِ فِرْعَوْنَ}
عن قوله:
{يَكْتُمُ
إيمَانَهُ}
لتوهَّم السامع أن الرجل ليس من آل فرعون.
ثالثاً:
تأزير
وختام
التقديم والتأخير في العربية الفصحى طريقة عجيبة في سبك الكلام وضم بعضه إلى بعض،
لا يقف على براعة كنهه إلا المرتاض بمعرفة أسرار العربية على شاكلة هذه الآية
القرآنية:
{إنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}
[فاطر:
٨٢]
التي قدم فيها اسمه جل جلاله بغرض الإخبار أن العلماء هم الذين يخشون ربهم دون
غيرهم، إذ لو تم تأخير اسم الله وتقديم لفظة العلماء
«فقيل:
(إنما يخشى العلماءُ اللهَ)، لصار المعنى على ضد ما هو عليه الآن، ولصار الغرضُ
بيانَ المخشيِّ مَنْ هو، والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره، ولم يجب حينئذٍ أن
تكون الخشية من الله تعالى مقصورة على العلماء، وأن يكونوا مخصوصين بها كما هو
الغرض في الآية، بل كان يكون المعنى أنَّ غير العلماء يخشون اللهَ تعالى أيضاً، إلا
أنهم مع خشيتهم الله تعالى يخشون معه غيره، والعلماءُ لا يخشون غيرَ الله تعالى»[6].
وهي طريقة في نظم الكلام وترتيبه تختص بفوائد بعيدة الغور، لذلك فهي في حاجة إلى
تعميق النظر، وإطالة التحقيق، وكثرة التفتيش والتقليب ظهراً لبطن وبطناً لظهر، رغبة
في تجاوز المعنى الخطِّي الذي لا يجني من الفهم شيئاً، بغية إدراك المعنى الكامل
والغرض الأتَمِّ، وتلك هي اللذة التي تسمح برؤية الأشعة المختبئة وراء غمام القرائن
اللفظية وغير اللفظية التي تفجر مكامن النص لبلوغ أكمل الأفهام وأبلغها.
[1] الخصائص،
أبو الفتح عثمان بن جني، تحقيق محمد علي البجاوي،
2/ 360،
دار الكتاب العربي بيروت، لبنان.
[2] المثل
السائر في أدب الكاتب والشاعر، ضياء الدين بن الأثير، تقديم وتعليق: د. أحمد
الحوفي، ود. بدوي طبانة،
2/ 4.
نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع.
[3]
كتاب دلائل الإعجاز، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني النحوي.
قراءة وتعليق: أبو فهر محمود محمد شاكر، ص
106،
مطبعة المدني بالقاهرة، دار
المدني بجدة،
1413هـ/1992م.
[4]
المصدر نفسه، ص111.
[5]
كتاب دلائل الإعجاز، ص
140.
[6]
نفسه، ص
339.