الاستعمار الإسباني للفلبين... أبعاده ونتائجه
لم يكن للجزر التي تُعرَف اليوم باسم (الفلبين) اسم محدد في التاريخ القديم، بل كانت كل جـزيرة من جزرها تُعرَف باسمها الخاص، وكل ما كان يعرَف عنها أنها جزء من جزر الملايو، التي تضم حالياً إندونيسيا، وماليزيا، وسنغافورة، والفلبين، فلما احتلها الإسبان، ادعوا اكتشافها وأطلقوا عليها اسم (الفلبين) تخليداً لطاغيتهم فيليب الثاني (1566 - 1598م) الذي وقع الغزو الإسباني لهذه الجزر في عهده.
أولاً: المعلومات الطبيعية والبشرية:
الفلبين إحدى دول جنوب شرقي آسيا، وهي عبارة عن أرخبيل من الجزر يقع في أقصى الجزء الغربي من المحيط الهادي، ويحدها من الشمال والغرب بحر الصين الجنوبي، ومن الشرق المحيط الهادي، ومن الجنوب بحر سيليبس، وتقترب أطرافها الجنوبية من جزر إندونيسيا. وتتكون الفلبين من 7.100 جزيرة، منها 200 جزيرة مأهولة بالسكان، وهي تتوزع على أربع مجموعات جزرية، هي لوزون في الشمال، وفيسايان في الوسط، ومينداناو في الجنوب، وصولو في الجنوب الغربي، إضافة إلى بالاون في الغـرب، وتمثل جزيرتا لوزون، ومينداناو، أكبر جزر هذا الأرخبيل، إذ تشغلان معاً ثلثي مساحة البلاد البالغة 300 ألف كم2، ويتركز فيهما ثلثا السكان البالغ عددهم حالياً 105 مليون نسمة، منهم 80% كاثوليك، إلى جانب أقليات نصرانية أخرى أهمها البروتستانت، بجانب البوذيين والوثنيين، أما نسبة المسلمين فتبلغ 11%، يتركز معظمهم في جزيرتي مينداناو، وصولو، ويطلق عليهم اسم «المورو»، وهو الاسم الذي كان يطلقه الإسبان على العرب المسلمين في الأندلس ويشتهر المسلمون (المورو) بشجاعتهم الفائقة، إلى جانب شهرتهم كبحارة وصيادين نشطين، حتى أن القوى الاستعمارية الصليبية، وبخاصة الإسبان، والأمريكيين، عجزوا عن إخضاعهم، وما يزالون قابضين على دينهم كالقابض على الجمر، ولم يكفُّوا عن حمل السلاح دفاعاً عن دينهم وهويتهم حتى اليوم. واللغتان الرسميتان في الفلبين حالياً هما (التاغلوغية)، والإنجليزية، وهناك بجانبهما حوالي 150 لهجة منتشرة في أرجاء البلاد، أما المسلمون المورو فيتحدث معظمهم لغة «المارتاو»، التي تكتب حروفها بالعربية، وتحتوي على كلمات عربية عديدة. وأهم حِرَف سكان الفلبين، هي الزراعة، وصيد الأسماك، وتربية الدواجن والحيوانات، وصناعة قطع الأخشاب، وأهم المحاصيل الزراعية هي الأرز، وجوز الهند، والذرة، والأناناس، والمانجو، والموز، والبن.
وتعتبر جزيرة مينـداناو، التي يقطنها المسلمون، ثاني أكبر جزر الفلبين بعد لوزون، وهي أغنى الجزر قاطبة، حيث تزخر أرضها بأنواع متعدة من المعادن، كالحديد، والنيكل، والنحاس، والفضة، والذهب، والفحم والنفط... هذا إلى جانب غناها بالثروات الزراعية كالأناناس، والقمـح، وجوز الهند، والكاكاو، والقنب، كما أنها تحتوي على مجموعة وافرة من الأنهار، والبحيرات، والشلالات، والغـابات، والأحراش، والجبال، وأكبر مدنها (دافو)، وهي ذات أغلبية مسلمة.
أما ميناؤها الرئيسي، فهو مدينة (زامبونجا) التي كانت تدعى أيضاً (جامبانجا)، وتعني في اللغة الملاوية (أرض الزهور)، حيث تزخر المنطقة بأنواع من النباتات ذات الأزهار متعددة الألوان والأشكال، بالإضافة إلى الأصداف رائعة الألوان والأشكال، وكانت هذه المدينة قبل تغلُّب الإسبان عليها مدينة إسلامية، وكانت ميناءً مهماً يربط جزر الفلبين ببقية جزر الملايو، وبأنحاء القارة الآسيوية، وهي حالياً ذات أغلبية كاثوليكية؛ وذلك بعد أن تكالبت عليها حملات التبشير الإسبانية على مدى أكثر من 350 عاماً، ولتعرضها أيضاً للزحف النصراني المنظم من الشمال والوسط أثناء الاحتلال الأمريكي وبعده، فضلاً عن اضطرار سكانها المسلمين للنزوح منها إلى الأدغال والجبال هرباً من البطش، والتنكيل، والاضطهاد، من قبل الإسبان، والأمريكان، والقوات الحكومية، حيث غدت تلك الأدغال والجبال مراكز للجهاد ضد الغزاة أعداء الإسلام، وللحفاظ على الهوية.
ثانياً: تاريخ الإسلام في الفلبين:
تختلف الروايات حـول تاريخ وصول الإسلام إلى جزر الفلبين، غير أنه يمكن القول: إن الإسلام انتشر في هذه الجزر، في القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، وبصورة متزامنة مع انتشاره في جزر الملايو، ويقال بأن الإسلام وصل الفلبين عبر شيخ عربي يدعى (كريم المخدوم)، كان يمارس التجارة والطب، وأيضاً عبر أمير ملايو يدعى (الراجا باجونيدا)، الذي كان أميراً لبلدة (منيانجكابو) في وسط جزيرة سومطرة، ومن اسم تلك البلدة جاءت تسمية جزيرة (مينداناو) وطن المسلمين المورو اليوم. وكانت أول جزيرة يغلب على أهلها الإسلام في أرخبيل الفلبين، هي جزيرة صولو، حيث ظل الإسلام ينتشر بصورة طبيعية، وبطريقة سلمية، وعن طريق الدعوة والإقناع، والقدوة، والمعاملة الحسنة، واختلاط الدعاة والتجار العرب بالسكان المحليين والتزوج منهم، وقد وجد الإسلام إقبالاً واسعاً في جزيرتَي صولو ومينداناو وبقية جزر الجنوب التي يغلب فيها الجنس الملايو المائل بطبعه للإسلام، وأما في جزر الوسط والشمال، فلم يكن انتشار الإسلام فيها على نطاق واسع، إلا في مطلع القرن الساس عشر؛ وذلك ردُّ فعل على الغزو البرتغالي لجزر الملايو، ذلك الغزو الصليبي الذي كان شديد العداء للإسلام وأهله، والذي استطاع القضاء على سلطنة ملقة الإسلامية الصاعدة سنة 1511م. فقد كانت هذه الجزيرة نقطـة التقاء للتجار والدعاة المسلمين من كل مكان، وبعد سقوطها في أيدي البرتغاليين تفرق أولئك الدعاة والتجار في مختلف جزر المنطقة، ومنها جزر الفلبين، ونشطوا في الدعوة إلى الإسلام بمن لحق بهم من دعاة من أهل التصوف وغيرهم من اليمن والحجاز والعراق وجزر الملايو، على اعتبار أن نشر الإسلام بجانب الجهـاد بالسيف والسنان، من أهم الوسائل للتصدي لأولئك الغزاة الصليبيين، الذين كان هدفهـم الرئيـس، هو سحق المسلمين أينما كانوا، أو إخراجهم من عقيدتهم وتحويلهم إلى عبيد، وفي غضون ذلك نزلت طائفة من الدعاة المسلمين في جزيرة لوزون في الشمال، وتولت نشر الإسلام هناك، ولم يلبث المسلمون أن صاروا هم حكام هذه الجزيرة، ثم جاءت حملة ماجلان الإسبانية سنة 1521م، لتعزز من انتشار الدعوة الإسلامية في المنطقة، ومن سيطرة المسلمين على بقية الجزر. وقبل الغزو الإسباني الحقيقي لهذه الجزر سنة 1565م، كان الإسلام قد توطدت أركانه في هذه البلاد، وبخاصة في الجزر الجنوبية كجزر صولو ومينداناو، كما كان قد انتشر في جزيرة لوزون أكبـر جزر الأرخبيل في الشمال. وعلى إثر ذلك امتدت سيطرة السلطنات والإمارات الإسلامية على سائر أرجاء البلاد، رغم بقاء كثير من السكان في جزر الشمال والوسط على وثنيتهم، ومن أهم تلك السلطنات: سلطنة صولو في جزيرة صولو، التي ظهرت عام 1450م، واستمرت حتى عام 1519م. وسلطنة مينداناو في جزيرة مينـداناو التي ظهرت عام 1520م. وسلطنة راجا سليمان في جزيرة لوزون في الشمال، والتي ظهرت في مطلع القرن السادس عشر، وعاصمتها أمان الله (مانيلا)... هذا بجانب إمارات إسلامية صغيرة هنا وهناك، تدور في فلك تلك الإمارات الإسلامية الكبيرة، أو مستقلة عنها.
ثالثاً: الاحتلال الإسباني للفلبين:
وصل ماجلان (1480 - 1521م) الرحالة والمبشِّر الصليبي الإسباني برتغالي الأصل، إلى جزيرة سيبو بوسط الفلبين الشرقي في مارس 1521م، بعد رحلة بحرية طويلة استغرقت 19 شهراً قادمة من إسبانيا، واستطاع أن يوقِّع حلفاً مع سلطان تلك الجزيرة، وأن يدخلَه في النصرانية بعد أن كان وثنياً، ولكن ماجلان لم يلبث أن لقي مصرعه عندما حاول غزو جزيرة ماكتان المحاذية لجزيرة سيبو، وأعلن عن نيته في تنصير أهلها المسلمين بالقوة، فقد أَنِف أميرها المسلم (لابو لابو) من ذلك، وتصـدى بحزم ورجولة لمخطط ماجلان التنصيري وقتله في معركة جرت بينهما في ساحل تلك الجزيرة، ونتيجـة لذلك فقـد هرب بقية رفاق ماجلان، وعادوا إلى إسبانيا مهزومين خائبين، ومع ذلك فقد تواصلت حملات الإسبان على جزر الفلبين، ووصلت إحداها إلى ساحل جزيرة مينداناو، فأباد المسلمون جميع أفرادها، حتى نجح القائد العسكري الإسباني (ليجازبي) في الوصول إلى جزيرة سيبو، في إبريل 1565م، حيث شيَّد فيها قلعة حصينة لحماية الجنود الإسبان من هجمات المسلمين، ولكي تكون منطلقاً لإخضاع بقية الجزيرة وما حولها، ثم لم يلبث أن انطلق منها نحو الشمال حيث الكثافة العددية للوثنيين، ومع توالي الحملات من إسبانيا، والتحالف مع رؤساء القبائل الوثنية، واستغلال الخلافات بين الأمراء المسلمين، تمكن الإسبان بعد معارك ضارية من القضاء على سلطنة (راجا سليمان) والسيطرة على عاصمتها (أمان الله)، التي حُرِّف اسمها إلى مانيلا بعد أن نقل ليجازبي مقره إليها وجعلها قاعدة للحكم الإسباني سنة 1571م، ومن خلالها استطاع الإسبان أن يبسطوا سيطرتهم على ما تبقى من جزيرة لوزون. لكن المقاومة الإسلامية لم تلبث أن تجددت ضدهم، بعد أن التأم شمل أمراء المسلمين من جديد، ووصلهم الدعم من جزيرة بورنيو، ولم تتوقف هذه المقاومة إلا بعد غزو الإسبان لتلك الجزيرة، وتقويض سيطرتها السياسية والتجارية على شمال الفلبين. وعند ذلك أخذ الإسبان يعززون وجودهم السياسي والديني، في أرجاء تلك الجزر التي انتشرت فيها أيضاً اللغة الإسبانية مع تعليم الإنجيل، وأخذ الفلبينيون يقلدون الإسبان في ملابسهم، وطعامهم، وعاداتهم، وأسلوب حياتهم، كما سيطر الإسبان على الثروة الزراعية في البلاد؛ إذ جلبوا معهم من أمريكا اللاتينية زراعة البطاطا، والتبغ، والذرة... وغيرها، وأجبروا السكان على زراعتها بجانب زراعـة أنواع عديدة من محاصيل وفاكهة المنطقة الاستوائية، وبخاصة جوز الهند، وقصب السكر، اللتين تحوَّلت زراعة كلٍّ منهما إلى محصول اقتصادي لا يستهلك جميعه في داخل البلاد، وأصبحت الفلبين في أخريات العهد الإسباني من أهم مراكز تصدير السكر في العالم، وكان الإسبان يطمعون أن يجدوا التوابل بجُزر الفلبين، فلما لم يتحقق لهم هذا الحلم حاولوا زراعتها اقتصادياً في جزيرة مينداناو كون أرضها كانت هي الوحيدة التي تصلح لمثل هذه الزراعة، ولكنَّ أهلها المسلمين تصدوا لهم وحالوا بينهم وبين ذلك، وظلت هذه الجزيرة بجانب جزيرة صولو قلعتين إسلاميتين حصينتين، وعصيتين على السقوط في أيدي الإسبان؛ بل بقيت كل منهما خنجراً في ظهورهم حتى آخر لحظة من وجودهم.
رابعاً: جهود الإسبان لتنصير سكان الفلبين:
لم يكن الغزو الإسباني لجزر الفلبين غزواً عسكرياً فقط؛ بل كان غزواً دينياً أيضاً؛ بل إن الباعث الديني كان هو الباعث الأول لركوب مخاطر المحيطات الغامضة، والإبحار الطويل نحو الشرق من قِبَل الأوروبيين، حتى أنه يمكن القول: إن الغزو العسكري لم يكن إلا لخدمة الغزو الديني، بدليل أن إسبانيا التي كانت تعتبر نفسها وقتذاك حاميةَ حمى النصرانية، وصاحبة رسالة مقدسة لنشرها في العالم، استمرت في محاولاتها للسيطرة على جزر الفلبين، رغم تحقق المستكشفين الإسبان الأوائل من عـدم وجود التـوابل أو الذهب في أرضها. وتحقيقاً لهذه الغاية فقد صاحب حملة (ليجازبي) المذكورة على الفلبين خمسة من الرهبان المتحمسين لسحق (طائفة محمد)، وبدؤوا التبشير بالكاثوليكية في جزيرة (سيبو) وفي غيرها من الجزر. وبعد أن تمكن الإسبان من إخضاع شمال البلاد ووسطها لسيطرتهم (جزيرتي لوزون وفيسايان)، توافدت البعثات التنصيرية إليها بكثافة، وأقيمت الكنائس في العاصمة ومدن الأقاليم، وانتشرت الأبرشيات في مختلف تلك الجزر، وأعلن رجال الدين الإسبان سياسة أحادية مفادها: القتل أو التنصر، ونتيجة لذلك مال غالبية الوثنين إلى التنصر؛ لكن اعتناقهم لهذه العقيدة ظل لفترة طويلة من غير فهم أو إيمان، ولم يكن ذلك يهم الكنيسة كثيراً، بقدر ما كان يهمها ضمان عدم تحولهم إلى الإسلام عدوِّها الإستراتيجي والأزلي اللدود. بَيْد أن الكنيسة تمكنت عن طريق غسل أدمغة الأطفال في مدارسها التبشيرية، وأيضا عن طريق اكتساب النساء الفلبينيات للنصرانية، أن تحقق النجاح المطلوب. فقد كان لهؤلاء النساء دور ملحوظ في تقـريب النصرانية إلى أهالي البلاد، نظراً لمتانة وعمق الروابط العائلية بين الأسر الفلبينية واتساعها، كما كان لهن تأثير بالغ على البراعم الصغيرة، ومما ساعد على انتشار النصرانية أيضاً استخدام المبشرين لوسائل الدجل والشعوذة، وترويجهم بأن عملية التعميد، وأداء الطقوس والشعائر الدينية، والتقرب إلى القديسين، وتقديم النذور لهم، تشفي من الأمراض، ويذلل الصعوبات، ويقضي الحاجات، وكانت هذه الفكرة تلائم عقلية شعب وثني متخلف، يؤمن أفراده أساساً بالسحر، وبتأثير الأرواح والقوى الغامضة في الطبيعة، فكانت كل قرية أو مدينة في الجزر التي ثبَّت الإسبان أقدامهم فيها تحتفل سنوياً بقديسها الموكل بحمايتها، وتقيم له المهرجانات والزينـات، وما تزال هذه العادة سائدة حتى اليوم. وقد عمل رجال الـدين الإسبان والسلطات الإسبانية الاستعمارية بموازاة ذلك على استئصال المسلمين من هذه الجزر، واقتلاعهم من جذورهم، وحصرهم في جزر جنوب البلاد، وبخاصة في مينداناو التـي لم تسلم هي ذاتها من حروب الإبادة الإسبانية ضد المسلمين. واقترنت تلك الأعمال الإجرامية بتطبيق الإسبان سياسة ممنهجة لإزالة ومحو جميع المساجد والمعالم الإسلامية من جزر الشمال والوسط، وذلك لقطع روابط هذه المناطق بماضيها الإسلامي الزاهر، لدرجة أنهم أحرقوا مدينة أمان الله ودمروها بالكامل، ثم أعادوا بناءها على النمط الإسباني دون أن يتركوا فيها أي مَعْلَم إسلامي، كما دَمَّروا مستوطنات المسلمين في جزيرة (مندورو) الواقعة في جنوب جزيرة لوزون، وقتلوا جميع الدعاة المسلمين في (باتنجاس) إحدى جزر الوسط، وارتكبوا من الجرائم ما لم يتصوره عقل.
خامساً: جهاد المسلمين في مينداناو ضد الإسبان:
بعد أن تمكن الإسبان من توطيد سيطرتهم الاستعمارية في جزر شمال ووسط الفلبين، تركزت قلاع الإسلام منذ ذلك الحين في المناطق الجنوبية بجزر صولو ومينداناو التي كان فيها الإسلام - وما يزال - عميق الجذور، وراسخاً رسوخ الجبال، فعندما حاول الإسبان غزو هذه الجزر ونشر عقائدهم فيها خلال النصف الأول من القرن السابع عشر، اشتعلت فيها حروب المورو ضدهم، فأحرقت الأرض تحت أقدامهم، وكانت هذه الحروب نوعاً من الجهاد في سبيل الله، ولذلك عمل الإسبان الغزاة على تشويهها؛ فصوروها على أنها عدوان إسلامي يقوم به قراصنة لصوص ضد القوات الإسبانية التي جاءت لتثقيف الناس وتمدينهم وتلقينهم مبادئ الحضارة! ولما استطاع الإسبان أن يضعوا أقدامهم في مدينة (زامبونجا)، أكثر الموانئ ازدهاراً في جـزيرة مينداناو، عملوا على تنصير أهلها بالحديد والنار، ولكنهم جوبهوا بمقاومة ضارية من المسلمين، وفي عام 3561م وفدت إليها بعثة تبشيرية ضخمة، وشيدت فيها قلعة حصينة لمراقبة حركة الأساطيل الإسلامية، وليوحوا للمسلمين بأنهم باقون وعازمون على تنفيذ مخططهم التنصيري، واقتلاع الإسلام من جذوره، كما فعلوا في الأندلس. ثم تعرضت هذه القلعة إلى أعنف الهجمات من قبل البحارة المسلمين القادمين من جزر صولو، وقد اشتدت مقاومة المسلمين للإسبان وزادت عنفاً مع استمرار حملات التبشير المنظمة، واتساعها بين بعض قبائل مينداناو الوثنية، وظهور النزعة الصليبية بشكل فج من قبل الإسبان إلى جانب غطرستهم وصلفهم.
وفي أثناء حرب المسلمين الطويلة في مينداناو وصولو ضد الإسبان، ظهر من بينهم قادة وأبطال قادوا الجهاد من داخل الغابات وقمـم الجبال، دوخوا الغزاة الإسبان وهزموهم في معارك عديدة، وكبدوهم خسائر فادحة، وبثوا الرعب في قلوبهم، أولئك القادة الأبطال الذين صاروا مضرباً للأمثال وقدوة للأجيال، في التضحية والفداء، وعلى رأسهم (قدرت) المعروف بـ (نصير الدين) سلطان ماجيندناو، ذلك السلطان البطل الذي ظل يقارع الإسبان أكثر من ثلاثين عاماً، حتى قهرهم وأجبرهم على الانسحاب من قلعة (زامبونجا) الإستراتيجية التي كانت خنجـراً مسموماً في ظهر المسلمين، والاعتراف بسيادته عليها سنة 1663م (قبل أن يعودوا لاحتلالها من جديد بعد عدة عقود)، ولذلك فقد استعصت مناطق وسط مينداناو وصولو على الإسبان، وظلت تحت سيطرة أهلها المسلمين في الوقت الذي سقطت فيه جميع جزر الملايو بأيدي المستعمرين، وذلك على الرغم من الجهود المستميتة التي بذلها الإسبان لإخضاع مينداناو وصولو، لتنصير المسلمين فيهما، وحروبهم الشرسة ضدهم واستخدامهم لكل أنواع الأسلحة، وما ارتكبوه من فظائع ضدهم، وحصارهم الاقتصادي لهم؛ فقد ظلت المقاومة الإسلامية في هذه المناطق مستمرة لأكثر من ثلاثة قرون، وصَمدت ببسالة نادرة حتى نهـاية القرن التاسع عشر، عندما اضطر الإسبان للتخلي عن الفلبين نهائياً وتركها للأمريكيين، كما صمدوا بعد ذلك في مقاومة الأمريكيين، ثم في وجه جيش النظام الوطني، والعصابات النصرانية، بما تحصل عليه من دعم صليبي غير محدود. ولكنهم - أي المسلمين - ما يزالون حتى اليوم عرضة لأخطار المنصرين[1] والذوبان في جحافل النصارى المهاجـرين إلى مناطقهم، وبخاصة مع ما هم فيه من فقر، وحرمان، واضطهاد، وجهل بأمور الدين.
سادساً: نهاية الاحتلال الإسباني للفلبين:
على الرغم من نجاح الإسبان الكبير في تنصير غالبية الشعب الفلبيني، إلا أنهم لم يتخلوا عن عنصريتهم تجاهه؛ فقد استمروا يحكمونه بالحديد والنار، وكانت تلك السياسة العنصرية مطبقة حتى على مستوى الكنيسة الكاثوليكية؛ فقد ظلت هذه الكنيسة تحت هيمنة الكهنة الإسبان وحدهم، وليس ذلك فحسب؛ فقد فرض رجال الدين الإسبان أنفسهم على الشعب الفلبيني المغلوب على أمره، كخبراء زراعيين إلى جانب مهنتهم التبشيرية، ولم يتورعوا عن استغلال واستعباد أولئك الفلاحين، وامتصاص جهدهم وعرقهم، وتسخيرهم وأرضهم لخدمة مصالحهم واقتصاد بلدهم، رغم أنهم من بني دينهم، وقد أدت هذه السياسة إلى سيطرة الكنيسة الكاثوليكية في الفلبين على إقطاعيات زراعية واسعة، وإلى تركُّز ثروات طائلة في إيدي رجال الدين الإسبان، واستفحال سلطانهم في الجزر حتى أصبحوا هم الحكام الحقيقيين، وتحولوا من حُماة للشعب في وجه الطغمة الحاكمة إلى عبء عليه، وسوط عذاب مسلط ضده، الأمر الذي أدى إلى استياء الكهنة والمفكـرين الفلبينيين، وقد تطور ذلك الاستياء إلى المطالبة بالاستقلال في نهاية القرن التاسع عشر، بعد استقلال العديد من دول أمريكا اللاتينية عن الإسبان، وإلى اشتعال الثورة المسلحة ضد الإسبان بدعم من الأمريكان، الذين كانوا قد انخرطوا في عملية الحدِّ من النفوذ الإسباني في الأمريكيتين، وأعالي البحار، وهي الثورة التي أجبرت الحاكم الإسباني العام في الفلبين على الفرار إلى هونغ كونغ عام 1895م، وأدت إلى تدمير الأسطول الإسباني في خليج مانيلا. ولكن إسبانيا، التي ظلت تمتص جهد هذا الشعب الفقير وعرقه لعدة قرون، تركته فريسة سهلة للأمريكان، وذلك بعد أن قبضت الثمن منهم، وهو مبلغ 5 ملايين دولار أمريكي، وكأنها ضيعة ورثوها عن آبائهم، وكأن شعبها عبيد أو بهائم في تلك الضيعة، وكان ذلك وَفْقاً لاتفاقية باريس عام 1898م التي أنهت الحرب الأمريكية الإسبانية، وأفسحت الطريق أمام مالك (محتلٍّ) جديد للبلاد والعباد، هو الاحتلال الأمريكي (البروتستانتي)، وكانت تلك الصفقة من قبيل (بيع من لا يملك لمن لا يستحق)، كما باع الإنجليز فلسطين لليهود بعد ذلك بقليل، لأن أغلب جزيرتَي مينداناو وصولو، أي حوالي 40% من مساحة البلاد لم تكن تحت سيطرة الإسبان؛ وإنما كانت تحت سيطرة أهلها المسلمين الذين لم يخضعوا يوماً للإسبان، ولم يعترفوا بالاسم الذي أطلقوه على الجزر قاطبة وهو (الفلبين). ومهما كان من أمر فإن تلك الصفقة إن دلت على شيء، فإنما تدل على أن التنصير ليس سوى وسيلة لقطع الطريق على الإسلام، ومنعه من الانتشار في أوساط الشعوب الوثنية، ولهذا لم يجد الإسبان الكاثوليك غضاضة في بيع الفلبين أرضاً وشعباً لأعدائهم الأمريكيين (البروتستانت) بذلك الثمن البخس، وذلك بعد أن استعمروها مدة ثلاثة قرون ونصف القرن، نجحوا خلالها في مهمتهم التنصيرية، وفي الحد من انتشار الإسلام في البلاد، والحيلولة دون تمدده وانتشاره إلى الجزر الشمالية التي كانت - وما تزال - تعج بالشعوب الوثنية، كجزر تايوان، وجزر اليابان، وجزر كوريا، والتي كان في طريقه إليها انطـلاقاً مـن شـمال الفلبـين، وبخاصـة تايوان، والتي لا تبعد عن جزر شمال الفلبين سوى 175 كم.
[1] وهذا إلى جانب خطر التشيع، وهو ما تقوم بها إيران منذ قيام ثورتها الرافضية عام 1979م، استغلالاً لمأساة المسلمين، وأحوالهم البائسة.