البيان/القدس: تعيش الدولة العبرية لحظة غير مسبوقة من القلق الاستراتيجي، تتجاوز في عمقها حدود حرب غزة أو الأزمات السياسية المتكررة، لتلامس الأسس التي قام عليها النظام الدولي الذي ولّدها عام ١٩٤٨ ومنحها الحماية والامتياز طوال عقود. فمنذ تأسيسها، اعتمدت الدولة العبرية على بيئة دولية استثنائية جمعت بين الهيمنة الأميركية، والدعم الغربي الواسع، وغياب التوازنات العالمية التي أتاحت لها تفوقاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً غير مشروط، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وصعود النظام الأحادي القطبية بقيادة واشنطن.
اليوم تتعرض تلك البيئة لتحولات بنيوية عميقة مع توسع التعددية القطبية وتراجع قدرة الغرب على فرض رؤيته، ما انعكس مباشرة على موقع إسرائيل في العالم. فرغم استمرار الدعم الأميركي، تضعف قدرة واشنطن على حمايتها في المؤسسات الدولية، بينما يتجه الرأي العام العالمي نحو مزيد من الانتقاد لسياساتها، خاصة بعد مشاهد الدمار الواسع في غزة منذ عام ٢٠٢٣، التي أضعفت سردية الدولة العبرية التقليدية كـ"ضحية" و"ديمقراطية وحيدة" في الشرق الأوسط.
فقدت الدولة العبرية جزءاً كبيراً من قوتها الناعمة، وخرجت تظاهرات حاشدة في العواصم الغربية رفضاً للحرب ودعماً للفلسطينيين، ما فتح شرخاً غير مسبوق بين الشعوب الغربية وحكوماتها المؤيدة لتل أبيب. وفي الداخل، تتعمق الأزمات السياسية والاجتماعية؛ فالجيش الذي كان رمز الإجماع الوطني بات موضع تشكيك بعد الفشل الاستخباراتي والعجز عن حسم حرب غزة رغم التفوق العسكري، فيما يزداد الانقسام بين التيارات العلمانية واليمين الديني المتطرف حول هوية الدولة وحدود مشروعها السياسي.
إلى جانب ذلك، تواجه الدولة العبرية ضغوطاً اقتصادية متصاعدة مع هروب الاستثمارات من قطاع التكنولوجيا الحيوي، وتراجع ثقة الأسواق، وارتفاع كلفة الحرب إلى مستويات تهدد قدرة الدولة على تمويل عملياتها العسكرية والاجتماعية. وعلى المستوى الدولي، يتزامن تراجع الهيمنة الأميركية مع صعود دول الجنوب العالمي كلاعب سياسي متنامٍ، إذ بادرت جنوب أفريقيا إلى ملاحقة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهم الإبادة، فيما اعترفت دول أوروبية بدولة فلسطين رغم الاعتراض الأميركي، في وقت تتوسع فيه حملات المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية.
كل هذه التحولات تجعل القلق الصهيوني الحالي أقرب إلى خوف من تغير الزمن أكثر من كونه خشية من الخصوم. فالمشروع الذي نشأ في لحظة استعمارية واستفاد من نظام عالمي أحادي القطبية، يفقد اليوم شبكته التقليدية من الحماية، ما يدفع الخطاب السياسي الصهيوني نحو مزيد من الانفعال والتصعيد ومحاولة مهاجمة المؤسسات الحقوقية والإعلامية لمنع الانهيار المتسارع في شرعيته الدولية.
وبين تراجع البيئة الدولية التي دعمت الدولة العبرية لعقود، وتآكل شرعيتها السياسية، وضعف الحماية الأميركية المطلقة، واتساع التضامن العالمي مع الفلسطينيين، واهتزاز الداخل الصهيوني ذاته، تبدو الدولة العبرية أمام لحظة انكشاف تاريخي. فالمشروع الذي تأسس عام ١٩٤٨ يدخل اليوم مرحلة تراجع بنيوي لا تخفيه القوة العسكرية مهما حاولت تل أبيب التعويض بها.