• - الموافق2024/11/26م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أرجى آيات القرآن

أرجى آيات القرآن


الحمد لله الغفار التواب، العزيز الوهاب؛ له في هذه الليالي العظيمة عطايا وهبات، وله عفو كثير وغفران ورحمات، وما شرع الصيام والقيام إلا ليرحم العباد، وما أعطاهم ليلة القدر إلا ليعظم لهم الأجر والثواب؛ فله الحمد كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، وله الحمد على عفوه ومغفرته وإحسانه، وله الحمد على ما أنعم به على عباده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا يعفو أحد كعفوه، ولا يعطي أحد كعطائه، بل كل عفو ورحمة وعطاء في الخلق فهو منه سبحانه، ورحمته وسعت كل شيء، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان كثير الرجاء في الله تعالى، مع كثرة عمل وذكر وعبادة، فيقوم حتى تتورم قدماه من طول القيام، ويعتكف عشر رمضان ليخلو للعبادة والذكر والدعاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واجتهدوا فيما بقي من هذه الليالي؛ فإنها خير الليالي، وأحسنوا ختام الشهر الكريم فإنما الأعمال بالخواتيم، ورب دعوة خرجت من القلب فاستجيب لها، ورب دمعة سالت من العين فغفر للعبد بها، ورب توبة نصوح هدي العبد إليها، ورب مناجاة في جوف الليل أو السحر رُحم العبد بسببها، ورب همٍّ لازم العبد عامه كله أزاحه الله تعالى في هذه العشر، فألحوا على الله تعالى بالدعاء، وألظوا بياذا الجلال والإكرام؛ فإنكم تدعون ربا قريبا مجيبا، سميعا بصيرا، مطلعا على سرائركم، عالما بأحوالكم وحاجاتكم.

أيها الناس: هذه الليالي هي ليالي الرجاء، وفيها يتلى الكتاب، وهو كتاب رجاء وخوف، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد. وفي بعض آياته من الرجاء ما يبدد الخوف، ويزيل الحزن، ويربط على القلب، ويستدر الدمع؛ لنعلم أن الله تعالى عفو غفور رحيم.

ومن الآيات التي قيل فيها إنها أرجى آيات الكتاب العزيز قول الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]. «فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ دَعْوَةٌ لِجَمِيعِ الْعُصَاةِ مِنَ الْكَفَرَةِ وَغَيْرِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، وَإِخْبَارٌ بِأَنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا لِمَنْ تَابَ مِنْهَا وَرَجَعَ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَهْمَا كَانَتْ، وَإِنْ كَثُرَتْ وَكَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».

وقد جاء عن جمع من السلف أنها أرجى آية في كتاب الله تعالى؛ وذلك لأن الله تعالى أضاف العباد إلى نفسه لقصد تشريفهم وتبشيرهم {قُلْ يَاعِبَادِيَ} ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي، والاستكثار من الذنوب،  ثم عقَّب على ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب أولى، ثم جاء بما لا يبقي بعده شك، ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن، فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين الذين أحسنوا الظن بربهم سبحانه، الصادقين في رجائه عز وجل، الخالعين لثياب القنوط، الرافضين لسوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده، المتوجهين إليه في طلب العفو، الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم، وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلا {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي كثير المغفرة والرحمة عظيمهما بليغهما واسعهما.

ويدل على عظيم مغفرته سبحانه قصة الرجل الذي قتل مئة نفس ثم تاب قبيل الموت فتاب الله تعالى عليه.

قَالَ عَلِيُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ أَوْسَعُ مِنْ {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}».

وجاء في سبب نزولها حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَ: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] وَنَزَلَتْ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53]» رواه الشيخان.

ولذا كان السلف يكرهون من يُيَأس الناس من التوبة، ومن يقنطهم من رحمة الله تعالى؛ اعتمادا على هذه الآية ومثيلاتها، ولأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» رواه مسلم.

وقال عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: «إِنَّ الْفَقِيهَ كُلَّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ، وَلَمْ يدَعِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ...».

 وقال ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «قَدْ دَعَا اللَّهُ إِلَى مَغْفِرَتِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ اللَّهُ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَسِيحَ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ عُزَيْرًا  ابْنُ اللَّهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ يَدَ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِهَؤُلَاءِ {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الْمَائِدَةِ:74] ثُمَّ دَعَا إِلَى تَوْبَتِهِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ قَوْلًا مِنْ هَؤُلَاءِ، مَنْ قَالَ {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى} [النَّازِعَاتِ:24]، وَقَالَ {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [الْقَصَصِ:38]. فمَنْ آيَسَ عِبَادَ اللَّهِ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدَ هَذَا فَقَدَ جَحَدَ كِتَابَ اللَّهِ تعالى...».

ومرَّ ابْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَلَى قَاصٍّ وَهُوَ يَذَكِّرُ النَّاسَ فَقَالَ: «يَا مُذَكِّرُ لِمَ تُقَنِّط النَّاسَ؟ ثُمَّ قَرَأَ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}».

فالتوبة ليست مغلقة عن أحد مهما بلغت ذنوبه ما دامت الروح في جسده ولم يغرر بها. والرحمة ليست محجوبة عن تائب مهما كان جرمه، كيف وربنا سبحانه يرحم من العصاة خلقا كثيرا استوجبوا العقوبة فيعفو عنهم.

ومن أرجى الأزمان لقبول التوبة والغفران شهر رمضان، وأرجى رمضان عشره الأخيرة التي فيها ليلة القدر، وقد أقسم أبي بن كعب رضي الله عنه أنها ليلة سبع وعشرين، فلنجتهد -عباد الله- فيما بقي من هذه الليالي العظيمة، وليزدد أهل الإحسان إحسانا، وليتب أهل التقصير من تقصيرهم، وليندم المذنبون على ذنوبهم، وليثوبوا إلى رشدهم، ويؤوبوا إلى ربهم سبحانه، ولنرج عفو ربنا ومغفرته، ونحسن الظن به سبحانه، ولا نقنط من رحمته؛ فإنه لا يهلك على الله تعالى إلا هالك. {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه إذ بلغكم الشهر الكريم، ووفقكم لصيامه وقيامه؛ فكم في الأرض من محرومين منه، مصدودين عنه، أغوتهم شياطينهم فما حفلوا به من كفار وعصاة {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].

أيها المؤمنون: زكاة الفطر من الشعائر العظيمة التي يختم بها هذا الشهر الكريم، وهي زكاة البدن إذ أبقاه الله تعالى حولا كاملا، وهي كذلك ترقع ما تخرق من الصيام، وتغني الفقراء عن الحاجة يوم العيد، كما جاء في حَدِيثِ ابْنِ عَبَاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.

وتُخرج من قوت البلد، أو من أنواع الطعام المذكورة في حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» رَوَاهُ الشَيْخَانِ. والسنة أن تخرج قبل صلاة العيد، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، فأخرجوها عن أنفسكم ومن تلزمكم نفقتهم.

ويشرع التكبير المطلق ليلة العيد؛ تعظيما لشعائر الله تعالى وإعلانا بها. ومن دلائل قبول رمضان الاستمرار على الطاعات بعده، والديمومة عليها في كل آن وحال؛ فإن «أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» كما جاء في الحديث الصحيح.

ومن مواصلة العمل الصالح بعد رمضان صيام ست شوال؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» رواه مسلم.

ويجب الحذر من منكرات العيد، وعدم الاستهانة بالغناء والمعازف؛ فإن ذلك مما يعارض التقوى التي تعلمها المؤمن في رمضان، وقد عُلِّق قبول الأعمال على التقوى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.

 وصلوا وسلموا على نبيكم...

 

 

 

أعلى