أيها المسلمون: من تأمل قصة الإسلام وتاريخه وانتشاره؛ أيقن أنه دين الله تعالى، وأن الله تعالى لن يرضى من العباد دينا سواه، وأن محاولات أعداء الإسلام وأده تبوء بالفشل مرة بعد مرة؛ فحربهم للإسلام لا تزيده إلا صلابة وقوة
الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، ذي العرش المجيد، والبطش الشديد، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ إمام المرسلين، وخاتم النبيين، وقف بعرفة يعلم الناس مناسكهم، ويخبرهم بكمال دينهم، ويودعهم الوداع الأخير، فما مضى إلا بضعة أشهر فقبضه الله تعالى إليه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى، وخذوا حظكم من هذه الأيام العظيمة بالأعمال الصالحة؛ فمن فاتته فهو محروم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ. قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ» رواه البخاري.
أيها الناس: من غار حراء في مكة كانت البداية، وفي عرفات كان الكمال، وعند الكعبة النهاية.. وفي البلد الأمين قصة هذا الدين العظيم الذي بلغ مشارق الأرض ومغاربها، فلم يبق بيت مدر ولا وبر إلا بلغه هذا الدين، قالت عائشة رضي الله عنها تخبر عن البداية: «جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾ فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ» رواه الشيخان.
فحُمل النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة فتحملها، وأمر بتبليغها فبلغها سرا ثلاث سنوات، حتى أمر بالجهر بها، قال ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «لَمَّا نَزَلَتْ ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ صَعِدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا، فَجَعَلَ يُنَادِي: يَا بَنِي فِهْرٍ، يَا بَنِي عَدِيٍّ، لِبُطُونِ قُرَيْشٍ، حَتَّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولًا لِيَنْظُرَ مَا هُوَ، فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِالْوَادِي تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ، قَالُوا: نَعَمْ، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلَّا صِدْقًا، قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا، فَنَزَلَتْ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾» رواه الشيخان. وبعدها بدأ المشركون حربا على أهل الإيمان لا هوادة فيها، سخروا منهم وآذوهم، وعذبوهم وهجروهم، فكانت الهجرة إلى الحبشة ثم الهجرة إلى المدينة، ثم كانت غزوة بدر وما تلاها من الغزوات إلى فتح مكة، فعاد النور إلى مكة وقد بدأ منها، وقابل النبي صلى الله عليه وسلم جهل المشركين بالحلم، وأذاهم بالعفو، وقام فيهم خطيبا يوم الفتح وقال: «مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ».
وبعد فتح مكة بعامين حج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتنزل عليه آية كمال الدين في عرفة، وهي قول الله تعالى ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3]، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ مَكَانٍ أُنْزِلَتْ، أُنْزِلَتْ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ» رواه الشيخان.
وفي حجة الوداع صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا «فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» رواه مسلم، وفعل ذلك في كل شوط من أشواط السعي، وكأنه يستحضر ما كان بعد صدعه بالدعوة حين دعا قريشا إلى التوحيد على الصفا، فردوا دعوته، وأعلنوا عداوته؛ فيحمد الله تعالى على ما منّ به عليه من النصر والتمكين، وكسر شوكة المشركين، وما كان بين الوقوفين على الصفا إلا ثماني عشرة سنة فقط؛ لنعلم أن الأمر أمر الله تعالى، وأن الدين دينه، وأن النصر نصره، وأنه سبحانه لا يخلف وعده.
وبكمال الدين تمت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فودع أمته في حجته كما في حديث جابر رضي الله عنه قال: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ: لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» رواه مسلم. فلم يمكث بعد وداعه لأمته إلا ثلاثة أشهر ويومين، حتى توفاه الله تعالى.
وحمل دينه أصحابه من بعده، ثم تابعوهم بإحسان إلى يومنا هذا، وبلغ دينه مشارق الأرض ومغاربها، وحورب أربعة عشر قرنا من كل أجناس البشر، ومن جميع أديانهم، وفي مختلف بقاعهم، فيشتد ولا يلين، ويقوى ولا يضعف، ويزيد أتباعه ولا ينقصون؛ لأنه دين الله الذي ارتضاه لعباده، وتأذن بحفظه، إلى أن يأذن الله تعالى بقرب نهاية الدنيا، فيبلى الإسلام ويمحى ويزول؛ كما في حديث حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا نُسُكٌ وَلَا صَدَقَةٌ. وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عز وجل فِي لَيْلَةٍ، فَلَا يَبقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ، الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» رواه ابن ماجه وصححه الحاكم.
وفي ذلكم الزمن يعطل البيت الحرام، والمشاعر المقدسة، فلا يحج إلى البيت أحد؛ كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ» علقه البخاري ووصله ابن حبان والحاكم وصححاه. وتهدم الكعبة بعد أن بقيت قرونا يطوف المؤمنون بها، ويصلون إليها؛ إيذانا بنهاية الإسلام ونهاية الدنيا مع نهايته؛ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ» رواه الشيخان.
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على دينه القويم، وأن يهدينا صراطه المستقيم، ويقوينا على طاعته، ويجنبنا معصيته، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
أيها المسلمون: من تأمل قصة الإسلام وتاريخه وانتشاره؛ أيقن أنه دين الله تعالى، وأن الله تعالى لن يرضى من العباد دينا سواه، وأن محاولات أعداء الإسلام وأده تبوء بالفشل مرة بعد مرة؛ فحربهم للإسلام لا تزيده إلا صلابة وقوة ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 32-33].
ومكة منبع الإسلام ونهايته، فمنها بزغ نور الإسلام، وفيها ينتهي؛ ولذا قدست مكة وعظمت؛ لتعظيم الله تعالى لها، وجعلها محجا إليه، وموطنا لشعائره ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا﴾ [البقرة: 125]، «أي: جعلنا الكعبة مرجعًا للناس، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه، ومجمعًا لهم في الحج والعمرة والطواف والصلاة، وأمنًا لهم، لا يُغِير عليهم عدو فيه». ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحج: 27]، يأتون من أقاصي البلدان: برا وبحرا وجوا، وفي كثير من الأقطار يقضون أعمارهم في جمع أموالهم لبلوغ البيت الحرام، وأداء مناسك الحج والعمرة، في أشد بقاع الأرض حرارة وزحاما، ومع ذلك يعودون إليها مرة بعد مرة إن وجدوا مؤنة ذلك، والذين لا لم يتمكنوا من العودة مرة أخرى يشتاقون إليه، ولا ينسون حجهم إليه، ولا غرابة إن حكوا لأولادهم وأحفادهم أنها أعظم رحلة قاموا بها في حياتهم، والذين لم يروه ولم يحجوا إليه أو يعتمروا تتعلق قلوبهم به طيلة أعمارهم، ويدعون الله تعالى في صلواتهم أن يبلغهم إياه. وما كان لغير مكة من القدسية والشوق ما لها؛ قَدَرا من الله تعالى أن تتعلق بها القلوب، وتهفو إليها النفوس، فسبحان من جعلها موطنا لذكره وعبادته، وعلق بها قلوب أهل الإيمان. فلنعرف عظمة هذا الدين، وعظمة شعائره، وحرمة المكان والزمان؛ فنتعبد لله تعالى بما نستطيع من العبادات، ونتقرب إليه بصالح الأعمال في أيام أمر الله تعالى بذكره فيها ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 28].
وصلوا وسلموا على نبيكم...