أوصاف القرآن الكريم { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1] نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أنزل علينا القرآن {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله «كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ، حَتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ أَجْوَدَ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظموا شهركم، واستثمروا فيه أوقاتكم، فلقد انتصف بكم، وقريبا يفارقكم؛ فعامل مخلص مقبول، ودعي مراء مردود، ولاه عابث محروم، ومن حرم فضل الله تعالى في شهره المعظم فقد حرم خيرا كثيرا و«مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
أيها الناس: كتاب الله تعالى بيِّن واضح قاطع في حججه وبراهينه، وفي تذكيره ومواعظه، وفي قصصه وأخباره. فليس كتاب طلاسم ورموز لا تفهم، يكذب بها الدجالون على العامة. وليس كتاب أسطورة وخرافة يجافيها العقل، ويأنف منها السمع، ويتبعها دراويش الناس ودهماؤهم. وليس كتابا ينقض بعضه بعضا كما في الكتب المخترعة والمبدلة والمحرفة؛ ولذا وصفه الله تعالى بأنه محكم ومثاني ومتشابه؛ لأن آياته يصدق بعضها بعضا، وليس فيه تناقض أو تعارض . وقد حاول أعداء الإسلام وبكل ما أوتوا من علوم ومعارف، وما يملكون من قدرات وإمكانيات أن يوجدوا تناقضا أو اختلافا في القرآن، أو شيئا يُطعن به عليه فعجزوا وانقطعوا، وكثير منهم سلّموا به وأسلموا، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
ومن أوصاف القرآن كونه بينا واضحا، فلا ينكر شيئا منه إلا جاحد معاند قد ركبه الشيطان، أو جاهل معرض لا يتعلم القرآن {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} [البقرة: 99]. والآيات البينات هي الدلائل الواضحات.
فالقرآن فِي نَفْسِهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى آيَةٍ أُخْرَى تُبَيِّنُهُ وَتَشْهَدُ لَهُ، فَإِنَّ مَا كَانَ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِمَّا يَحْتَاجُ فِي بَيَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ...كَالنُّورِ يُظْهِرُ الْأَشْيَاءَ وَهُوَ ظَاهِرٌ بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ يُظْهِرُهُ؛ ولذا وصف بأنه نور {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].
فالصدود عن القرآن بعد معرفته ينطوي على فسق الصادين وكفرهم وظلمهم {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49] وفي آية أخرى {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة: 5].
والغاية من تنزل القرآن وكون آياته بينات هي هداية الناس لما ينجيهم ويسعدهم في دنياهم وأخراهم {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: 9].
ومع هذا الوضوح لآيات القرآن فلن يهتدي به إلا من هداه الله تعالى {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} [الحج: 16].
لقد حاول المشركون أن يغروا النبي صلى الله عليه وسلم بتبديل القرآن وتغيير آياته ليوافق أهواءهم ومعتقداتهم؛ وليثبتوا للناس أنه من عند النبي صلى الله عليه وسلم لا من عند الله تعالى {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] فكان الجواب على خلاف ما توقعوا وظنوا؛ إذ قطع الله تعالى حجتهم {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 15- 16].
وفي أحيان أخرى يرد المشركون الآيات الواضحة، والحجج القاطعة للقرآن بحجج تافهة:
فمن حججهم في رد الآيات البينات: استدلالهم بحسن عيشهم على صحة شركهم، وبفقر المؤمنين وابتلائهم على خطأ إيمانهم، ويقولون: لو كان الإيمان صحيحا لما كان أصحابه أهل فقر وابتلاء وامتحان {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73] وهي كمقولة قوم نوح له {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] وكقول بعض الزنادقة المستكبرين: لو كان الدين ينفع صاحبه لأغنى الفقراء.
ومن استدل بصحة مذهبه على ما فتح له من الدنيا فقد مكر به وهو لا يشعر {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182-183] وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَفْتَحُ لَهُمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ وَوُجُوهَ الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَغْتَرُّوا بِمَا هُمْ فِيهِ وَيَعْتَقِدُوا أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ.
ومن حججهم على رد الآيات البينات: تمسكهم بجادة الآباء، ورد الحق بزعم أنه إفك وسحر، وهذه حيلة العاجز عن مقارعة الحق {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ: 43]، وفي آية أخرى {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 7].
وأعجب من حجتهم هذه طلبهم الإتيان بالآباء، ولو جيء بآبائهم لما آمنوا {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجاثية: 25].
والمعارضون للقرآن، الكارهون له، المعرضون عنه، الطاعنون فيه؛ إذا أعجزتهم آياته وحججه وبراهينه لجئوا إلى العنف في التعامل معه ومع حفاظه وحملته وقرائه؛ لأنهم لا يقدرون على آيات القرآن، فينفسون عن أحقادهم وضغائنهم تجاه القرآن بحرق صحفه ووطئها وتدنيسها، وأذية أتباع القرآن بالقتل والتعذيب والتهجير، وهدم المساجد التي ينبعث منها صوت القرآن مدويا في الآفاق، كما فعل الصليبيون والتتر والشيوعيون، وكما يفعل الآن الباطنيون بشتى مذاهبهم، وبالكذب والافتراء على حملة القرآن ودعاته ومحفظيه ومحاضن تعليمه، وحلقات تحفيظه كما يفعله منافقو العصر من العلمانيين والليبراليين الموتورين بالإسلام والقرآن، الحاقدين على أهل القرآن والسنة، المبجلين للكفار والمبتدعة، عباد الهوى والشهوة، ومن تبعهم من المرتزقة {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} [الحج: 72] أي: يؤذونهم بالقول والفعل من كراهتهم للقرآن وحملته.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، ويكفينا شرور أنفسنا، وأن يجعل في القرآن أنسنا وراحتنا، وربيع قلوبنا، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأولوا القرآن عنايتكم؛ فإنكم في شهر القرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
أيها المسلمون: كون آيات القرآن بينات واضحات قاطعات يريح المؤمن في كثير من المسائل التي يقع فيها الجدل بين الناس، فيحسم المؤمن رأيه فيها بآيات القرآن، واعتماد ما فيه؛ لأنه حق لا باطل فيه، وبيّن لا غموض فيه، ويقين لا شك فيه، فوجب الرجوع للقرآن في كل شيء، والصدور عن آياته البينات {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 138]
وفي زمن القيل والقال، وانتشار الأهواء، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ لا نجاة للمؤمن إلا أن يتحصن بالقرآن، ويستمسك به، ويكثر قراءته وتدبره والعمل به {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 43- 44] ومن اتبع القرآن قاده إلى رضوان الله تعالى والجنة، ومن عارض القرآن أو أعرض عنه خسر الدنيا والآخرة.
وبعد أيام قلائل تحل بساحتكم عشر مباركة فيها ليلة القدر التي تنزل فيها القرآن، وهي خير من ألف شهر، فأحسنوا استقبال العشر، وابتغوا من الله تعالى الأجر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم «كَانَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» و«كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ» كما أخبرت بذلك عائشة رضي الله عنها. فأروا الله تعالى من أنفسكم خيرا تجدوا خيرا.
وصلوا وسلموا على نبيكم....