الحسبة والمحتسبون (خطورة توطين المنكر وتطبيعه)
الحمد لله الخلاق العليم، البر الرحيم؛ هدى عباده المؤمنين، وخذل الكفار والمنافقين فهم في طغيانهم يعمهون، وفي ريبهم يترددون، نحمده على ما هدانا واجتبانا، ونشكره على ما وهبنا وأعطانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أنار طريق الحق للسائرين، فسلكه أهل الإيمان واليقين، وعمي عنه أهل الجهل والجحود فكانوا معرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، ابتلي في دين الله تعالى أعظم ابتلاء فما وهن لما أصابه في ذات الله تعالى، وما زاده إلا إيمانا ويقينا وتسليما، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقيموا له دينكم، وأخلصوا له أعمالكم، وأسلموا له وجوهكم؛ فلا نجاة من العذاب، ولا فوز بالجنان إلا بالانقياد التام لله تعالى، والاستسلام لشرعه، والذود عن دينه، وتعظيم حرماته {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 14- 15].
أيها الناس: من نعمة الله تعالى على العبد أن يولد وينشأ في بيئة نقية من الشرك والبدع والفواحش، فيتربى تربية سوية، ويعيش عيشة هنيئة. لا يتلطخ بشرك يخلد بسببه في النار، ولا يتلوث ببدعة تحرفه عن السنة، ولا يألف فواحش تفتك به في حياته وترديه في آخرته.
وكم في بلاد الكفر والفجور من أقوام لما ذاقوا حلاوة الإيمان، وجربوا الطهر والنقاء؛ لم يبغوا عن إيمانهم حولا، وجعلوا دنياهم فداء لدينهم.
ومن أعظم الخسران، وأشد الخذلان أن يعيش العبد في أرض طيبة نقية فيفارق طيبها إلى خبث غيرها، ويتلوث بأوضار يستجلبها من مزابل الأفكار والديانات ورذائل الأخلاق والعادات {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [آل عمران: 86].
ولا شيء أعسر على دعاة التغيير من تغيير ما ألفه الناس واعتادوه، سواء كان تغيير حق إلى باطل، وحسن إلى قبيح، أو كان العكس؛ لأن إلف الناس للشيء واعتيادهم عليه يكون جزء من حياتهم؛ ولذا كان في أمثال العرب: «الطبع يغلب التطبع»، و«من شب على شيء شاب عليه».
وفي القرآن العظيم آيات كثيرة تدل على أن الذي منع مشركي العرب ومشركي الأمم السابقة من الإيمان، وترك عبادة الأصنام، ومفارقة الفواحش والموبقات؛ إنما كان السير على جادة الآباء والأجداد، وعجزهم عن مفارقة ما ألفوه من الديانات والأخلاق والعادات، حتى إنهم ليتركون كلام الله تعالى وأحكامه التي أنزلها لأجل ما نقلوه عن آبائهم من معتقدات وعادات ولو كانت ضلالا واضحا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170] وفي آية أخرى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 104] وفي آية ثالثة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [لقمان: 21]، وفي آية رابعة {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. وتكرار هذه الحجة منهم، وذكرها في القرآن في آيات عدة يدل على أنها من أهم أسباب الصدود عن الحق، كما يدل على أن الباطل إذا ساد في الناس وألفوه تعذر إخراجهم منه، وأن المنكر إذا استوطن بلدا عسر اقتلاعه منها.
وتتابع الأنبياء عليهم السلام على دعوة أقوامهم للتوحيد مع رفض أقوامهم لدعواتهم، وتتابعهم على ذات الحجة -وهي الإحالة على ما كان يعبد الآباء- ليؤكد خطورة إلف الباطل واعتياده؛ فهود عليه السلام دعا قومه إلى التوحيد فأجابوه قائلين { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70] ودعا صالح عليه السلام قومه إلى التوحيد فكانت حجتهم كحجة عاد {قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 62] ودعا شعيب عليه السلام قومه للتوحيد فقالوا كما قالت عاد وثمود {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 87].
ودعا الخليل عليه السلام قومه إلى الإيمان وترك الأصنام فأحالوه على ما وجدوا عليه آباءهم، قال لهم {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 52-53].
بل إنه عليه السلام حاول تحريك عقولهم، وإثبات أن أصنامهم مجرد أحجار لا تسمع ولا تنطق ولا تضر ولا تنفع، ولكن غلبة العادة منعت قبول الدعوة، رغم أن العادة تخالف العقل الصحيح، والدعوة توافقه، فالعادات ألغت العقول، وغشت على الأبصار، فلا تتبع الحق، ولا تهتدي إلى الصواب، قال الخليل عليه السلام يحاجج قومه في عبادتهم للأصنام {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 72 - 74] ليس لهم سوى هذه الحجة، وهي أن آباءهم فعلوا ذلك، مع علمهم أنها أحجار لا تضر ولا تنفع.
وتالله إن استدلالهم هذا ليدل على خطورة توطين الباطل في الناس، وتطبيعهم عليه حتى يألفوه، فإنه يعسر بعد ذلك اقتلاعه من أوساطهم، وإخراجه من عقولهم ووجدانهم مهما كان شاذا وغريبا، ومهما كان وضوح بطلانه وظهوره، وإذا عميت العقول تبعتها في عماها الأسماع والأبصار {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44].
وفي مجادلة فرعون وملئه لموسى عليه السلام أحالوا أيضا على ما ألفوه عن الآباء {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78].
وهذه الحجة قد قالها جميع المعارضين لدعوات الرسل عليهم السلام وذكر الله تعالى أنهم قالوا لرسلهم {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [إبراهيم: 10] وفي آية أخرى {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23- 24].
هذه الحجة التي منعتهم من قبول الحق هي التي ختم بها أبو طالب حياته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له «يَا عَمِّ، قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ المَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» رواه الشيخان.
عجز أبو طالب أن يقول كلمة الحق حتى عند موته؛ لأنه عاش على الباطل وألفه، فأحب أن يموت عليه.
وبهذا نعلم خطورة توطين المنكرات، وتطبيع الناس عليها حتى يألفوها فيصعب إخراجهم منها، أو اقتلاعها من أوساطهم؛ ولذا فإن مكافحة المنكر قبل وقوعه، ومدافعته حال وقوعه، وتحذير الناس منه بعد وقوعه أهون من صرفهم عنه بعد إلفهم له، واعتيادهم عليه.
نسأل الله تعالى أن ينصر المصلحين، ويكبت المفسدين، وأن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من الموبقات والعقوبات {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
أيها المسلمون: بعض الناس يظن أن توطين منكر ما لا يضره ما دام أنه لا يرضى به، ويعتقد أنه لا يسعه إلا إنكار القلب. ومن الناس من ينظر إلى خطورة توطين المنكر الآنية من رفع النعم، ونزول النقم. ومنهم من ينظر إلى أثر ذلك في الآخرة. لكن قلَّ من الناس من يفطن إلى خطورة توطين المنكر على الأجيال المتعاقبة، فينكره ويدفعه ما استطاع ونظره على أحفاده وأحفادهم؛ ليحفظهم من توطين منكر يولدون عليه فيألفونه ويعتادونه. ومن قرأ القرآن، ورأى تتابع الأمم الكافرة على الاحتجاج بأفعال الآباء خاف من توطين المنكرات بحيث تتعاقب أجيال تحتج على صحة المنكرات بوجودها في الآباء.
وينبغي أن يتفكر المؤمن في قصة قريش وتبديلهم لدين الخليل عليه السلام حتى ألفوا الشرك فمات أبو طالب عليه والنبي صلى الله عليه وسلم عند رأسه يلقنه شهادة الحق.
لقد كانت مكة في أيدي جرهم، حتى جاءت خزاعة فانتزعتها منهم، وكان عمرو بن لحي الخزاعي رأسهم، فبدل دين الخليل عليه السلام إلى الشرك، فعاشت أجيال كثيرة على الشرك في عهد خزاعة، ثم في عهد قريش، ومات أجداد النبي صلى الله عليه وسلم على الشرك رغم أنه ليس بينهم وبين توحيد الخليل عليه السلام إلا تغيير عمرو بن لحي لدينه إلى الشرك وتوطينه في مكة، فألفته خزاعة، ثم ورثته قريش بعدها، فيا لله العظيم ما أعظم توطين المنكر، وما أشد فتكه بالأجيال المتعاقبة.
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة في مكة ليقتلع منكرات عمرو بن لحي التي وطنها فيها فما استجابت له قريش، حتى مات أكثر كبراءها على الشرك، وما رضخوا لدعوة الحق إلا بعد الفتح، فحذار حذار -عباد الله- من ألف المنكرات واعتيادها، بل يجب دفعها وإنكارها وتحذير الناس منها حفظا للأمن والنعم، ودفعا للعذاب والنقم، وحماية للأجيال القادمة من أن تنشأ على المنكرات فتألفها حتى توبقها كما أوبقت قريشا منكرا عمرو بن لحي الخزاعي.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 13- 14].
وصلوا وسلموا على نبيكم...