• - الموافق2025/05/15م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
محاسن الإرث في الإسلام

أيها المسلمون: الالتزام بشرع الله تعالى في المواريث يقطع النزاع بين الورثة، ويزيل الضغائن والشحناء؛ وذلك لأن أهل الإيمان يتعبدون لله تعالى بما قسم لكل واحد منهم من الإرث، ويرضون بذلك، وهذا من تحقيق الرضا بالله تعالى


الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وخذوا بشرعه، واستسلموا لحكمه، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].

أيها الناس: حين خلق الله تعالى البشر، وأسكنهم الأرض؛ ملكهم ما عليها، ومكنهم فيها، وسخر لهم أرزاقها، وبارك لهم في منتوجها، فسعوا فيها، وحرثوها وزرعوها وعمروها، واستخرجوا ثرواتها، ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: 10]. وإذا ذهب جيل من البشر خلفه جيل يرث ماله وممتلكاته، ويكمل وظيفته في عمارة الأرض. ولأهمية الأموال والممتلكات نظم الله تعالى المواريث، وأنزل فيها ثلاث آيات في سورة النساء، ففصلها أحسن تفصيل، وبين حقوق الورثة في مال مورثهم، وأخبر تعالى أن حكمه في المواريث فريضة فرضها على عباده فقال سبحانه بعد بيان ميراث الأبناء والبنات والآباء والأمهات ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 11].

ومن محاسن الإرث في الإسلام: أن الله تعالى تولى قسمته، وهو سبحانه أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وجعل هذه القسمة في قرآن يتعبد بتلاوته، فيقرؤه كل مسلم قارئ للقرآن، ويحفظه حفاظ القرآن، فيعرفون حكم الله تعالى في المواريث في كل مرة يتلون فيها آياتها؛ ولذا ختم الله تعالى آخر آية في المواريث بقوله سبحانه ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النساء: 176].

ومن محاسن الإرث في الإسلام: ما شرع فيها من تطييب قلوب من حضروا القسمة من القرابة وغيرهم ممن لا إرث لهم بقول حسن يرضيهم، وإعطائهم شيئا من الإرث يجبر قلوبهم ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ [النساء: 8]. قال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ قِسْمَةِ مَوَارِيثِهِمْ أَنْ يَصِلُوا أَرْحَامَهُمْ وَأَيْتَامَهُمْ وَمَسَاكِينَهُمْ مِنَ الْوَصِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةٌ وُصِّلَ لَهُمْ مِنَ الْمِيرَاثِ».

ومن محاسن الإرث في الإسلام: أن الضعفاء من النساء والصبيان لم يحرموا منه، بل هم والكبار فيه سواء بحسب صلتهم بمورثهم، قال الله تعالى: ﴿لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا﴾ [النساء: 7]، قال سعيد بن جُبَيْرٍ «وذلك أن أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلا الْوِلْدَانَ الصِّغَارَ شَيْئاً، يَجْعَلُونَ الْمِيرَاثَ لِذِي الأَسْنَانِ مِنَ الرِّجَالِ، فَنَزَلَتْ: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ»، ونُقل عن العرب في الجاهلية قولهم: «‌لا يرثنا إلا من يحمل السيف ويحمي البيضة». وكذلك اليهود ما كانوا يورثون النساء إلا في حالات قليلة، ويجعلون للابن الأكبر ضعفي ما للبقية من الذكور. وإذا ماتت الزوجة عند اليهود لا يرثها إلا زوجها فقط، وإذا مات الزوج فلا شيء لزوجته في إرثه. وأما النصارى فليس في دينهم المحرف نظام يضبط الإرث، بل يتفق الورثة على اقتسامه، أو تحكم فيه القوانين الوضعية، وإذا أوصى الميت بتركته لأحد ولو كان بعيدا فتنفذ وصيته ويحرم أولاده وزوجته، بل قد يوصي بماله لكلب أو قطة فتنفذ وصيته. وفي الإسلام يحفظ حق الصغار من الإرث إلى أن يرشدوا فيدفع إليهم إرثهم ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [النساء: 6].

ومن محاسن الإرث في الإسلام: أنه أعطى للمورث الحق في الوصية بالثلث فما دونه؛ فيجعله في وقف على أعمال الخير التي تنفعه بعد موته؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رواه أحمد. أو يوصي لعزيز على قلبه، بشرط ألا يكون وارثا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» رواه أهل السنن إلا النسائي. وذلك لأن الوصية لأحد الورثة دون غيره مما يزرع الضغائن والأحقاد، ويوقد شرارة العداوة والشقاق. وفي القوانين الوضعية يتصرف المورث بما شاء في وصيته، فيحرم زوجته وأولاده، ويوصي لمن شاء بكل ماله.

ومن محاسن الإرث في الإسلام: أنه راعى قرابة الوارث من المورث، فجعل الأقرب أحظ بالإرث من غيره، وستة من الورثة من وجد منهم لا يحجب أبدا؛ فلا بد أن يرث، وهم الأب والأم؛ وذلك لعظيم حقهما على ولدهما، والزوج والزوجة؛ لشدة ما بينهما من المودة والعشرة، والابن والبنت؛ لأنهما الأقرب للميت. ثم راعى الإسلام حاجة الورثة؛ فجعل حق الأولاد في الميراث أكثر من حق الوالدين؛ مع عظيم حق الوالدين؛ وذلك باعتبار أن الوالدين كبيران مدبران عن الدنيا فيكفيهم القليل منه، بينما أحفادهما شباب وصغار مقبلون على الدنيا، يحتاجون إلى نفقات بعد موت عائلهم، فمع وجود الأولاد ذكورا وإناثا يكون لأب الميت السدس، وكذلك لأمه السدس، وللزوجة الثمن، والباقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كن بنتين فأكثر فلهما الثلثان، وإن كانت بنتا واحدة فلها النصف؛ فكانت البنت أكثر نصيبا من الأب والأم ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء: 11].

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].

أيها المسلمون: الالتزام بشرع الله تعالى في المواريث يقطع النزاع بين الورثة، ويزيل الضغائن والشحناء؛ وذلك لأن أهل الإيمان يتعبدون لله تعالى بما قسم لكل واحد منهم من الإرث، ويرضون بذلك، وهذا من تحقيق الرضا بالله تعالى ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، وبالإسلام دينا، أن يرضى المؤمن بما أعطاه الله تعالى وبما منعه على حد سواء، ويتقرب إلى الله تعالى بذلك.

ومن محاسن الإرث في الإسلام: العدل فيه بين الذكور والإناث، وليست المساواة التي فرضت في القوانين الوضعية، وهي ظلم وبغي وعدوان؛ فالزوج في الإسلام يرث النصف أو الربع، بينما ترث الزوجة الربع أو الثمن، وإذا اجتمع الأبناء مع البنات فلذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك إذا كان الورثة إخوة وأخوات فللذكر مثل حظ الأنثيين ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ [النساء: 176]. وسبب ذلك أن الإنفاق منوط بالرجال، وهم الذين يقومون برعاية النساء وكفايتهن وحمايتهن وفق قول الله تعالى ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ [النساء: 34]. ولو ورثت الزوجة من أبيها مالا كمال قارون، وكان زوجها فقيرا، فإرثها لها ليس لزوجها شيء منه، إلا بطيب نفس منها، وهو ملزم بالإنفاق عليها ولو كان فقيرا وهي غنية، فينفق بحسب ما أعطي؛ لقول الله تعالى ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 7].

وبهذا نعلم أن بدعة المساواة بين الرجال والنساء مخالفة للإسلام، وضحيتها المرأة والأسرة؛ لأن مساواتها بالرجل تقتضي أن تنفق كما ينفق الرجل، وأن تعمل كأعماله، وأن تكفي نفسها وتحميها ممن يطمع فيها؛ ومقتضى ذلك أن الزوجين ينفق كل واحد منهما على نفسه، ويحمي نفسه، والرجل لا مطمع فيه كما يطمع في المرأة، فيتسلط عليها أراذل الناس. فوجب أن نشكر الله تعالى على شريعته التي هي عدل ورحمة للجميع.

وصلوا وسلموا على نبيكم....

أعلى