نعمتا الطعام والشراب من أعظم نعم الله التي يألفها الناس فينسون شكرها، وقد ذكرهما القرآن في سياقات متعددة ليستحضرها المؤمن. شكر هاتين النعمتين يكون بحمد الله عليهما، ونسبتهما إليه، والتزام الحلال، واجتناب الإسراف، وتسخيرهما في طاعة الله لا في معصيته.
الحمد لله الغني الكريم؛
واهب الخيرات ومتابعها، ومسدي النعم ومتممها، وجزيل العطايا ومكملها، لا تنفد
خزائنه، ولا ينقطع عطاؤه، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له؛ تفرد بالخلق والملك والتدبير؛ فكل الخلق خلقه، وهو مالك
كل شيء ومدبره، ولا خروج لأحد عن أمره، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان كثير الحمد
والشكر لله تعالى، وكان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه من طول القيام، فإذا سئل عن
ذلك قال:
«أَفَلاَ
أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واذكروه إذ هداكم، واشكروه على ما أعطاكم ﴿وَاذْكُرُوهُ
كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [البقرة:
198].
أيها الناس:
نعم الله تعالى على عباده لا تحصى، منذ خلقهم وهو يتابع نعمه عليهم. والناس بطبعهم
يألفون النعم الدائمة فينسونها، ويقصرون في شكر الله تعالى عليها، ولا يتذكرها
الواحد منهم إلا إذا فقدها. ومن تلكم النعم نعمة الطعام والشراب؛ ففي القرآن الكريم
ذكر كثير لهاتين النعمتين، وامتنان من الله تعالى على العباد بهما، في سياقات
منوعة، وسور متعددة؛ لئلا يألفها العباد فينسونها، ولا يجتهدون في شكرها.
وفي خطاب عام للناس كلهم؛
أمر الله تعالى بعبادته، وذكرهم سبحانه بما رزقهم من نعمتي الماء والطعام فقال
سبحانه ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ
أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21-22].
والخليل عليه السلام حين
حاج المشركين في عبادتهم لغير الله تعالى؛ ذكر أنه يفرد الله تعالى بالعبادة؛ مذكرا
بنعمتي الطعام والشراب، فقال عن معبوداتهم: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا
رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ
يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ [الشعراء: 77-79]، وعبادة الله تعالى وحده من شكر
نعمته. ويبين سبحانه أنه ما خلق العباد وأنعم عليهم بنعمتي الطعام والشراب إلا
ليوحدوه ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا
أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 56-58].
وفي سياقات قرآنية أخرى
يُذَكر الله تعالى عباده بهاتين النعمتين بالتفصيل فيهما، وكيف أنه سبحانه يخرج لهم
اللبن الصافي من ضروع البهائم ليشربوه، ويخرج ثمار النخيل والأعناب ليأكلوها ﴿وَإِنَّ
لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ
فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِنْ ثَمَرَاتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ
فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [النحل: 66-67]. وفي آيات أخرى
يَذكر الله تعالى نعم الطعام والشراب، بتفصيل قدرته سبحانه على إنزال الغيث، وإنبات
الشجر والزرع به؛ ليثمر ثمرا طيبا، يكون لخلقه رزقا ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ *
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ﴾ [ق:
9-11]. وفي آيات أخرى يفصل عملية إنزال الماء، وإنبات الحب والشجر؛ ليتمتع الناس
به، ويتغذوا عليه؛ فضلا منه سبحانه ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ
* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا *
فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا *
وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾
[عبس: 24-32].
وفي سياقات قرآنية أخرى
يُذَكر الله تعالى عباده بنعمتي الطعام والشراب، ويأمرهم بشكره سبحانه عليهما؛ إذ
ما أحله لهم منها أكثر مما حرمه عليهم، ومن ذلك قول الله تعالى ﴿يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ
اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: 172-173]،
وقوله تعالى ﴿فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا
نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [النحل: 114].
وفي سياقات قرآنية أخرى
يُذَكر الله تعالى عباده بنعمتي الطعام والشراب، ويبين لهم أن عملية حصولها بإحياء
الأرض بالغيث المبارك، وإنبات الحبوب والثمار آية؛ دالة على قدرته وعظمته،
واستحقاقه الشكر على هذه النعمة العظيمة ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ
أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا
فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ *
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾
[يس: 33-35].
وفي آيات أخرى يُذَكر الله
تعالى عباده بنعمتي الماء والطعام، مبينا أنه لو شاء سبحانه لحرم البشر منهما بموت
الأشجار والزورع، وجعل الماء أجاجا لا يطاق شربه، ولا ينتفع به؛ مما يستوجب شكره
سبحانه على هاتين النعمتين العظيمتين ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ *
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ
حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ
مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ
أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ
جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ﴾ [الواقعة: 63-70].
وبين سبحانه تقصير العباد
في الشكر فقال ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا
مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [الأعراف: 10]، ونوه سبحانه بنعم الأنعام
وما يأكلون من لحومها، وما يشربون من ألبانها، مع التذكير بشكره سبحانه ﴿أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ
لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا
يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾
[يس: 71-73].
وثمة مواضع كثيرة في
القرآن فيها تذكير بنعمتي الطعام والشراب يطول المقام بذكرها. وهذا التذكير المكرر
في القرآن بنعمتي الطعام والشراب يحتم على المؤمن تذكرهما على الدوام؛ ليجتهد في
شكر الله تعالى عليهما، وعلى نعمه التي لا تحصى.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك
وحسن عبادتك.
وأقول قولي هذا وأستغفر
الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى
آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واشكروه على نعمه ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا
سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ
الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 34].
أيها المسلمون:
إلف النعم يؤدي إلى نسيانها، والتقصير في شكرها، والناس قد ألفوا الطعام والشراب،
ولو حرموا منهما لعلموا قدر هاتين النعمتين. ومن دلائل تذكر هاتين النعمتين، وعدم
نسيانهما:
حمد الله تعالى بعد الطعام
والشراب،
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّ
اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ
فَيَحْمَدَهُ
عَلَيْهَا،
أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ
فَيَحْمَدَهُ
عَلَيْهَا»
رواه مسلم.
ونسبة هذه النعم لله تعالى،
واستحضار ذلك بالقلب، وقوله باللسان؛ وذلك أن المشركين كانوا ينسبونها لغير الله
تعالى، فعاب الله تعالى صنيعهم؛ فقال سبحانه ﴿وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ
أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ﴾ [الواقعة: 82]، وبين سبحانه أنه لو حرمهم رزقه ما
رزقهم أحد ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾
[الملك: 21].
مع التزام شرع الله تعالى
فيما أباح من الطعام والشراب؛ فلا
يُحرم العباد ما أحل الله تعالى، ولا يجاوزون الحلال إلى الحرام في المطعوم
والمشروب ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
* وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ
الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ [المائدة: 87-88].
واجتناب الإسراف في هاتين
النعمتين؛
لقول الله تعالى ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31]، وكثير من الناس يسرفون في صب المياه وإهدارها،
وفائض الأطعمة التي ترمى ولا سيما في الحفلات والأعراس شيء يعز على الوصف من كثرته،
وهذا من عدم شكر هاتين النعمتين.
وتسخير هذه النعم في طاعة
الله تعالى، واجتناب المعاصي؛ لأن
العاصي إفساد في الأرض ينافي الشكر، ويزيل النعم، ويحل النقم؛ فيستعان بالطعام
والشراب على الطاعات، ولا يستعان بها على المعاصي والمنكرات ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا
مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ [البقرة: 60].
وحري بالمؤمن ألا يغفل عن
نعم الله تعالى المألوفة والمستمرة، بل يستحضرها، ويشكر الله تعالى عليها؛ لتزيد
وتنمو بالشكر ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ
وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7].
وصلوا وسلموا على نبيكم...