• - الموافق2025/10/15م
  • تواصل معنا
  • تسجيل الدخول down
    اسم المستخدم : كلمة المرور :
    Captcha
أعذار المعترضين على القرآن

الخطبة تبيّن أعذار المشركين في رفضهم للقرآن، من ادعاء كونه أساطير أو سحر أو افتراه النبي، واعتراضهم على تعاليمه التي تخالف أهواءهم، وتربط بين هذه الأعذار وأمثالها الحديثة التي تعبر عن رفض تعاليم القرآن، محذرة من عاقبة الاعتراض عليه.


الحمد لله العلي الأعلى ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ [الأعلى: 2-5]، نحمده حمدا كثيرا، ونشكره شكرا مزيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ لا نجاة للعباد إلا بتوحيده، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ النبي المصطفى، والرسول المجتبى، والشافع المشفع في الورى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه فلا تعصوه؛ فإن الموعد قريب، وإن الحساب عسير، وإن الكتاب يحصي على العبد كل صغيرة وكبيرة ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الكهف: 49].

أيها الناس: نعمة إنزال القرآن والاهتداء به؛ هي أعظم النعم وأجلها؛ لأن فيها سعادة المرء في الدنيا، وفوزه الأكبر يوم القيامة. وأعظم الخذلان، وأشد الخسران؛ الإعراض عن القرآن والاعتراض عليه؛ وذلك طريق إلى النار، عوذا بالله تعالى من ذلك.

ومن تأمل أحوال المشركين الأولين؛ وجد أنهم خذلوا باعتراضهم على كلام الله تعالى بأنواع من الاعتراضات التي زينها الشيطان لهم، وتبعوه هم فيها، وجعلوها أعذارا في عدم أخذهم بآيات الله تعالى:

ومن أعذار المشركين في رفضهم للقرآن: زعمهم أنه مجرد أساطير كالتي عرفوها عند غير العرب؛ كما أخبر الله تعالى عنهم في عدد من الآيات ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنعام: 25]، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [النحل: 24].

وتارة يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب كتابته من الأمم الأخرى، وافتراه على قومه ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: 4-5]، فرد الله تعالى فريتهم بقوله سبحانه ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 6].

وادعو أنهم يستطيعون أن يحكوا كلاما مثل القرآن؛ كما قال تعالى ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: 31]. قال القرطبي: «نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ خَرَجَ إِلَى الْحِيرَةِ فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى أَحَادِيثَ كَلِيلَةَ وَدِمْنَةَ، وَكِسْرَى وَقَيْصَرَ، فَلَمَّا قَصَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارَ مَنْ مَضَى قَالَ النَّضْرُ: لَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ مِثْلَ هَذَا».

وتارة يقولون: «إِنَّ مُحَمَّدًا يَتَلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ»، فرد الله تعالى فريتهم بأن من ذكروه أعجمي لا يتقن العربية، والقرآن قد أعجز فصحاء العرب وبلغاءهم؛ فقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103].

ومن أعذار المشركين في رفضهم للقرآن: اعتراضهم على ما في القرآن مما هو مخالف لأهوائهم؛ كالنهي عن عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم إبدال غيره به مما يوافق أهواءهم ليقبلوه ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾ [يونس: 15]، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد على اعتراضهم هذا بأن هذا القرآن من عند الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم مبلغ له ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [يونس: 15-16]، وبين الله بعد هذه الآيات خطورة الكذب عليه، أو تكذيب ما جاء من عنده سبحانه ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [يونس: 17].

ومن أعذار المشركين في رفضهم للقرآن: زعمهم أنه سحر، وهم لا يؤمنون بالسحر؛ كما قال الله تعالى ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الزخرف: 30]، وقال تعالى ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الأحقاف: 7]، وادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم افتراه ليردهم عن دينهم ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى﴾ [سبأ: 43]،  فتحداهم الله تعالى أن يأتوا بمثله ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: 38].

ومن أعذار المشركين في رفضهم للقرآن: أنه ما أنزل دفعة واحدة؛ ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: 32]، ومن مقولاتهم أيضا: ﴿وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾ [الإسراء: 93]، ولو أنزل عليهم كما طلبوا لما آمنوا به؛ كما قال سبحانه مخبرا عنهم ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الأنعام: 7]، فما طلبهم هذا إلا لأجل التعنت والتكذيب والاعتراض على القرآن.

ومن أعذار المشركين في رفضهم للقرآن: أنه ما أنزل على عظيم من عظمائهم، مع أنهم يعلمون أنهم لا يدبرون شئون دنياهم، بل الله تعالى يرزقهم ويكفيهم، فكيف يعترضون عليه في اصطفائه واختياره من يبلغ دينه؟! ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ [الزخرف: 31-32]، وبالغ المشركون في اعتراضهم على القرآن، وتعديهم على ربوبية الله تعالى، فعلقوا إيمانهم بالقرآن على شرط أن يعطوا ما أعطي الرسل عليهم السلام، وتلك سفاهة ما بعدها سفاهة ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾ [الأنعام: 124].

واعتراض المشركين على القرآن سيجدون عاقبته في نار جهنم حين يقال لهم ﴿أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ [المؤمنون: 105]، ويقال لهم ﴿أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ [الجاثية: 31].

نعوذ بالله تعالى من حالهم ومآلهم، ونسأله تعالى الثبات إلى الممات.

وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

الخطبة الثانية

  الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

 أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 223].

أيها المسلمون: ومن أعذار المشركين في رفضهم للقرآن: اعتراضهم على أن أهل القرآن والإيمان من الفقراء والضعفاء، بينما كانوا هم الأشراف والأغنياء والأقوياء، ولو كان الإيمان والقرآن نافعا لهم لكانوا مثلهم ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا﴾ [مريم: 73]. والاستدلال بصلاح دنيا الناس على صحة معتقدهم، وسلامة منهجهم؛ جهل فاضح، وانتكاس فادح؛ فإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، وجعل الدنيا دار ابتلاء لا دار جزاء، وهي لا تساوي عنده سبحانه شيئا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا» رواه ابن ماجه.

وبعض من فتنوا بالدنيا في هذا الزمن يرددون مقولات المشركين بأساليب أخرى كقول بعضهم إن تعاليم القرآن هي التي أخرت المسلمين عن اللحاق بركب الحضارة، واعتراض كثير منهم على ما جاء في القرآن من أحكام المرأة كالحجاب والقوامة والتعدد ونحوها. واعتراض المفتونين بالحرية الغربية على قيود القرآن على الإنسان في أقواله وأفعاله، وأحكام أهل الذمة، وشريعة القصاص والحدود، واعتراض أكلة المال الحرام على القيود القرآنية على المال والطعام والشراب كتحريم الربا والرشوة والميسر والمعاملات المحرمة، وتحريم الميتة والخنزير والخمر وأمثالها من الخبائث. فهؤلاء المعترضون على شيء من القرآن مشابهون للمشركين في اعتراضهم على القرآن، ولكن بأعذار أخرى، وتعليلات حديثة تناسب العصر، وكلهم يجمعهم كراهية شيء مما أنزل الله تعالى ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 9]، وحال أحدهم إذا سمع ما لا يعجبه من القرآن كحال من أخبر الله تعالى ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [لقمان: 7].

وصلوا وسلموا على نبيكم...

أعلى