ضرب الأمثال بالغيث (كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ)
الحمد لله اللطيف الخبير، الرؤوف الرحيم؛ مبتدي النعم ومتممها، ودافع البلايا ورافعها، ومغدق الخيرات ومتابعها {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة:212] نحمده على ما هدى واجتبى، ونشكره على ما منع وما أعطى، وما عافى وما ابتلى، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له؛ لا يقدر لعباده المؤمنين إلا ما هو خير لهم؛ فإن أصابتهم سراء شكروا فكان خيرا لهم، وإن أصابتهم ضراء صبروا فكان خيرا لهم، وليس ذلك لأحد غيرهم، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ كان إذا «تَخَيَّلَتِ السَّمَاءُ، تَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَخَرَجَ وَدَخَلَ، وَأَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، فَإِذَا مَطَرَتْ سُرِّيَ عَنْهُ» يرجو رحمة الله تعالى في الغيث المبارك، ويخشى عذابه في الريح الحاصب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحمدوه إذ هداكم، واشكروه على ما أعطاكم وسقاكم؛ فإن الغيث المبارك من آثار رحمته، ومن عظائم منته ونعمته {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 68 - 70].
أيها الناس: تبتهج النفوس بالغيث المبارك، ولا تحيد الأبصار عن مواقع قطره، وتمتلئ الصدور بريح طله؛ فيبهج الكبير والصغير، ويفرح به أهل الزرع والماشية كما يفرح به من لا زرع له ولا ماشية؛ لأنه من رحمة الله تعالى، وقد جبلت النفوس على الفرح برحمته سبحانه.
وإذا كان الغيث المبارك حياة الأرض؛ فإن الإيمان والقرآن حياة القلب، وقد ضرب الله تعالى في القرآن الكريم مثلين متواليين أحدهما ناري والآخر مائي لمن لا يأبه بالإيمان، ولا ينتفع بالقرآن، ويغرق في النفاق.
وحين نرى أثر الغيث المبارك في الأرض وما عليها نجده يحيل غبراءها إلى خضراء، ويبعث الحياة فيها، فتدب الحياة فيها بعد همودها {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] حين نرى ذلك في الأرض فيجب أن نعلم أن الإيمان والقرآن يعملان في حياة القلوب وربيعها أشد مما يعمله الغيث المبارك في الأرض. وعلى قدر ما في القلب من ماء الإيمان يحيا بأجزاء الإيمان ومفرداته، كما يحيا بآيات القرآن ومعانيه، ولا ينتفع المعرض عن الإيمان والقرآن بذلك، سواء كان إعراضه لجحود أو شك أو مرض حجب قلبه عن الانتفاع بأجزاء الإيمان، وآي القرآن كما لا تنتفع السباخ من الأرض بالغيث المبارك.
والمثلان المذكوران جاءا في سياق الحديث عن المنافقين، وبيان أوصافهم؛ وسبب ذلك أن المنافقين يعيشون مع المؤمنين، ويرون منهم أعمال الإيمان، ويسمعون منهم القرآن، ومع ذلك لا ينتفعون بشيء من ذلك؛ لفساد قلوبهم وحجبها عن الانتفاع بماء الإيمان، وغيث القرآن، قال الله تعالى فيهم {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَافِرِينَ * يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:17-20].
«فَضَرَبَ لِلْمُنَافِقِينَ بِحَسْبِ حَالِهِمْ مَثَلَيْنِ: مَثَلًا نَارِيًّا، وَمَثَلًا مَائِيًّا؛ لِمَا فِي النَّارِ وَالْمَاءِ مِنْ الْإِضَاءَةِ وَالْإِشْرَاقِ وَالْحَيَاةِ؛ فَإِنَّ النَّارَ مَادَّةُ النُّورِ، وَالْمَاءَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْوَحْيَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ السَّمَاءِ مُتَضَمِّنًا لِحَيَاةِ الْقُلُوبِ وَاسْتِنَارَتِهَا؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ رُوحًا وَنُورًا، وَجَعَلَ قَابِلِيهِ أَحْيَاءَ فِي النُّورِ، وَمَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا أَمْوَاتًا فِي الظُّلُمَاتِ.
وَأَخْبَرَ عَنْ حَالِ الْمُنَافِقِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَى حَظِّهِمْ مِنْ الْوَحْيِ وَأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَوْقَدَ نَارًا لِتُضِيءَ لَهُ وَيَنْتَفِعَ بِهَا؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ فَاسْتَضَاءُوا بِهِ، وَانْتَفَعُوا بِهِ، وَآمَنُوا بِهِ، وَخَالَطُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِصُحْبَتِهِمْ مَادَّةً مِنْ قُلُوبِهِمْ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ طَفِئَ عَنْهُمْ، وَذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. وَلَمْ يَقُلْ بِنَارِهِمْ؛ فَإِنَّ النَّارَ فِيهَا الْإِضَاءَةُ وَالْإِحْرَاقُ، فَذَهَبَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا فِيهَا مِنْ الْإِضَاءَةِ، وَأَبْقَى عَلَيْهِمْ مَا فِيهَا مِنْ الْإِحْرَاقِ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ. فَهَذَا حَالُ مَنْ أَبْصَرَ ثُمَّ عَمِيَ، وَعَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ فَارَقَهُ بِقَلْبِهِ، فَهُوَ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَثَلِ الْمَائِيِّ، فَشَبَّهَهُمْ بِأَصْحَابِ صَيِّبٍ -وَهُوَ الْمَطَرُ الَّذِي يُصَوَّبُ، أَيْ: يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ- فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، فَلِضَعْفِ بَصَائِرِهِمْ وَعُقُولِهِمْ اشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ زَوَاجِرُ الْقُرْآنِ وَوَعِيدُهُ وَتَهْدِيدُهُ وَأَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ وَخِطَابُهُ الَّذِي يُشْبِهُ الصَّوَاعِقَ، فَحَالُهُمْ كَحَالِ مَنْ أَصَابَهُ مَطَرٌ فِيهِ ظُلْمَةٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ، فَلِضَعْفِهِ وَخَوْرِهِ جَعَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَغَمَضَ عَيْنَيْهِ خَشْيَةً مِنْ صَاعِقَةٍ تُصِيبُهُ».
لقد «ضَعُفَتْ أَبْصَارُ بَصَائِرِهِمْ عَنِ احْتِمَالِ مَا فِي الصَّيِّبِ مِنْ بُرُوقِ أَنْوَارِهِ، وَضِيَاءِ مَعَانِيهِ، وَعَجَزَتْ أَسْمَاعُهُمْ عَنْ تَلَقِّي رُعُودِ وُعُودِهِ وَأَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، فَقَامُوا عِنْدَ ذَلِكَ حَيَارَى فِي أَوْدِيَةِ التِّيهِ، لَا يَنْتَفِعُ بِسَمْعِهِ السَّامِعُ، وَلَا يَهْتَدِي بِبَصَرِهِ الْبَصِيرُ»
يكاد برق الآيات وسنا البينات يخطف أبصارهم التي لم تتعود إلا الظلمات، ويُعمي بصائرهم التي لم تعهد إلا الشهوات؛ فإذا استناروا بالآيات قليلاً طغت في نفوسهم آثار الشهوات ففروا في المتاهات، وتوقفوا في الشبهات؛ فهم في مهاوي سحيقةٍ من الجهالة، وفي فيافي عميقةٍ من الضلالة (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ). لماذا؟
لأنهم لم يستجيبوا للسناء، ولم ينسجموا مع الضياء؛ فهم قوم ألفوا الضلال، وعاشوا في الظلام، فأظلمت قلوبهم بالنفاق، وأمحلت من أنوار الإيمان والقرآن، ولو كانت تسمعه كل أوان؛ فالعبرة بالإيمان والإذعان، لا بمجرد السماع.
ففي الآية تعبير عَنْ زَوَاجِرِ الْقُرْآنِ بِالصَّوَاعِقِ، وَعَنِ انْحِطَاطِ قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ عَنْ قَرَارِ نُورِ الْإِيمَانِ فِيهَا بِخَطْفِ الْبَرْقِ لِلْأَبْصَارِ.
فالصَّيِّبُ تَشْبِيهٌ لِلْقُرْآنِ، وَالظُّلُمَاتُ وَالرَّعْدُ وَالْبَرْقُ تَشْبِيهٌ لِنَوَازِعِ الْوَعِيدِ بِأَنَّهَا تَسُرُّ أَقْوَامًا وَهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالْغَيْثِ، وَتَسُوءُ الْمُسَافِرِينَ غَيْرَ أَهْلِ تِلْكَ الدَّارِ، فَكَذَلِكَ الْآيَاتُ تَسُرُّ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يَجِدُونَ أَنْفُسَهُمْ نَاجِينَ مِنْ أَنْ تَحِقَّ عَلَيْهِمْ، وَتَسُوءُ الْمُنَافِقِينَ إِذْ يَجِدُونَهَا مُنْطَبِقَةً عَلَى أَحْوَالِهِمْ.
إنه حال المنافقين مع الإيمان وأعمال الإيمان وغيث القرآن؛ يعيشون في التيه والاضطراب والقلق.. يتأرجحون بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين. بين ما يقولونه لحظة ثم ينكصون عنه فجأة. بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام.
ومن تأمل أحوال المعترضين على شريعة الله تعالى يجدهم في ذلك التيه والاضطراب والقلق والضياع؛ لأنهم فارقوا الحق الذي عرفوه إلى أودية من الباطل والشبهات كثيرة، قذفتها أفكار الشرق والغرب، عجنت بشهواتهم المنحطة، فأنتجت هوى فتك بقلوب أصحابه، فلا خلاص لهم منه {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران:90]
نعوذ بالله تعالى من الضلال بعد الهدى، ومن الإعراض عن الإيمان والقرآن، ونسأله سبحانه الثبات على الحق إلى الممات.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]
أيها المسلمون: على المؤمن وهو يمتع ناظريه بما أنزل الله تعالى من الغيث المبارك أن يستحضر هذا المثل العظيم الذي ضربه الله تعالى في القرآن للمنافق الذي يعيش بين المؤمنين، ويسمع آيات القرآن فلا يتأثر بها، ولا يلقي له بالا، بل يضجر منها، ويفارق مجالسها ويحاربها.
وعلى المؤمن إذا رأى آثار الغيث المبارك، وكيف نما به الزرع، واخضرت به الأرض؛ فاكتست به زينة وجمالا، وفاحت أعشابها عبقا وريحا. عليه أن يعلم أن أثر الإيمان في القلوب وصلاحها أعظم من أثر الأرض بالماء. وكذا أثر القرآن وأثر العمل الصالح في القلب أعظم من أثر الماء في الأرض؛ ولذا كان القرآن ربيع قلوب المؤمنين.
ووالله الذي لا يحلف بغيره إن القلوب لتصلح وتزدان بالإيمان والقرآن والتفكر والذكر والعمل الصالح أعظم من صلاح الأرض وزينتها بالماء والخضرة. فمن أراد لقلبه أن يكون أجمل من الأرض في موسم ربيع تتابعت أمطاره، واهتزت أرضه، وربت وأنبتت من زوج بهيج؛ فعليه أن ينمي إيمانه، ويلزم قرآنه، ولا يترك ورده منه أبدا. ويكثر نوافل العبادات، ويجتنب مفسدات القلوب من المعاصي والحسد والرياء.
وتحلق القلوب في ملكوت السماء بما يرد عليها من آي القرآن وأنواع العبادات إلى أن تصل بصاحبها إلى درجة الفرح بالله تعالى وبكتابه ودينه وطاعته وقدره ولقائه؛ فرحا أعظم من فرح أهل أرض مجدبة أصابها غيث فاخضرت. وصحب هذا القلب من فرحه بالله تعالى يستطيب العبادة وقد استثقلها غيره، ويرضى بمر القضاء حين يسخط سواه، ويشتاق للقاء الله تعالى وقد خاف الموت غيره.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وصلوا وسلموا على نبيكم...